حدود الدور الصيني في الشرق الأوسط

حدود الدور الصيني في الشرق الأوسط

منذ عام، أعلن من بكين عن عودة العلاقات الدبلوماسية بين المملكة العربية السعودية وإيران في 10 مارس 2023. وقد اعتبر ذلك لدى الكثيرين بمثابة اختراق مهم وربما غير مسبوق للدبلوماسية الصينية في الشرق الأوسط. ومن ثم رتبت على هذا المنطق استنتاجات كثيرة، ليس فقط فيما يتعلق بالدور الصيني في المنطقة، وإنما أيضاً مقارنة هذا الدور بأدوار قوى أخرى، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية. وطوال العام المنصرم، شهدت المنطقة تطورات مهمة، وبعضها غير مسبوق. على رأس هذه التطورات ما يحدث على ساحة الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي منذ 7 أكتوبر الماضي، وما ارتبط به من تفاعلات بين الأطراف الإقليمية والدولية.

الموقف الصيني تمايز عن مجمل المواقف الغربية بما فيها الأمريكية. لكن هذا الموقف لم يُحدِث اختراقاً باتجاه وقف إطلاق النار على الرغم من كل الدعوات الصينية منذ اليوم الأول بضرورة ضبط النفس والابتعاد عن التصعيد، ومن ثم المطالبة بالوقف الفوري لإطلاق النار، بما في ذلك تأييد مشاريع القرارات الدولية المُطالِبة بذلك.

الموقف الصيني لم يقف عند ذلك وإنما ركز كثيراً على أهمية الحل السياسي، وفي القلب منه حل الدولتين. فلماذا حدث الاختراق في الملف الأول الخاص بالمصالحة السعودية-الإيرانية ولم يحدث في ملف الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي؟، وماذا عن باقي الملفات في المنطقة، وطبيعة الدور الصيني فيها؟ وما هي أهم الإشكاليات التي تثار عند مناقشة دور بكين في الشرق الأوسط؟، ومن ثم ما هي أفق هذا الدور؟، وما هي القيود التي يمكن أن تحد من التأثير الصيني في المنطقة؟، وماذا بخصوص هذا الدور في المستقبل؟.

منطلقات وإشكاليات
هناك منطلقات أساسية يجدر الاهتمام بها عند التعامل مع الدور الصيني في الشرق الأوسط الذي هو جزء من الدور الخارجي للصين. وفي الوقت نفسه، هناك إشكاليات ترتبط بفهم هذا الدور.

على صعيد المنطلقات، يمكن الحديث عن ثلاثة أمور مترابطة ومتداخلة: الأول، يتمثل في طبيعة التغيرات التي طرأت على السياسة الخارجية الصينية مع نهايات الحرب الباردة. والمقصود هنا تحديداً غياب الطابع الأيديولوجي في الخطاب الصيني الخارجي تجاه الغالبية العظمى من دول العالم، حيث لم يعد لهذا الخطاب وجود إلا في حالات نادرة، من بينها كوريا الشمالية وكوبا. وما عدا ذلك فإن الأيديولوجيا لا وجود لها. وهذا أمر مهم بالنسبة للسياسة الصينية في الشرق الأوسط التي لم تكن للصين علاقات ببعض دولها حتى قرب نهاية الحرب الباردة حتى وإن كانت دولاً أخرى في المنطقة كانت على رأس الدول التي اعترفت بحمهورية الصين الشعبية.

هذا الأمر ليس فقط أزال مخاوف لدى بعض دول المنطقة في فترة من الفترات، وإنما باتت الصين تؤكد على مجموعة من الأمور ذات الصلة، ومن بينها أهمية أن تتاح لكل دولة حرية اختيار نموذجها التنموي، وطريقة تسيير أمورها الداخلية.

إذا كانت الأيديولوجيا قد غابت عن السياسة الخارجية الصينية، فإن ذلك يعني أن البرجماتية باتت عنواناً رئيسياً لهذه السياسة، وهذا هو الأمر الثاني، حيث أصبح مصطلح التعاون البرجماتي من المصطلحات المركزية في السياسة الخارجية الصينية. وفي ظل هذا التعاون البرجماتي، تأتي كل المشاريع والمبادرات الصينية، بما فيها مبادرة الحزام والطريق. هذه المبادرة التي يأتي الشرق الأوسط في صميمها. وفي ظل البرجماتية تلك تطرح كل مشاريع التعاون الصينية مع دول المنطقة بما فيها مجالات التكنولوجيا المتقدمة والطاقة والإنشاءات وغيرها الكثير. وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى أنه ربما كان العمل بمنطق برجماتي أسبق على التخلي عن الأيديولوجيا في بعض المسائل وعلى رأسها سياسة الانفتاح والإصلاح مع دينج سياوبينج نهاية السبعينيات.

ثالث الأمور يتعلق بكون البرجماتية الصينتية لا تعني الانتهازية. فما زالت الصين تتحدث عن العدالة. وفي حالة الشرق الأوسط، فإن العدالة مسألة مهمة جداً خاصة في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. ومن هذا المنطلق، ما زالت الصين تتمسك بمسائل مبدئية خاصة بحقوق الشعب الفلسطيني التي تحاول إسرائيل هضمها وإنكارها، كما أن هناك من لا يكتفي بالصمت على ما تقوم به إسرائيل، وإنما يوفر لها الوقت لكي تنجز مهامها التي تعد في نطاق جرائم الحرب والإبادة الجماعية. ومن ثم فلم يكن مستغرباً أن تعتبر الصين إصرار الولايات المتحدة على تعطيل صدور قرارات من مجلس الأمن لوقف إطلاق النار بأنها تعطي الضوء الأخضر لكي تستمر المذبحة في غزة على حد قول تشانج جيون مندوب الصين الدائم للأمم المتحدة والذي أكد على أن العدالة لا يمكن أن ترتهن باستخدام الفيتو الأمريكي “حق النقض لا يمكن أن يكتم الدعوة القوية لوقف إطلاق النار وإنهاء الحرب. لا يمكن لمجلس الأمن أن يوقف عمله لدعم العدالة والوفاء بمسئولياته لمجرد استخدام حق النقض”.

فيما يتعلق بالإشكاليات المرتبطة بالدور الصيني في الشرق الأوسط فسوف يتم التركيز على ثلاثة أمور أيضاً تتمثل فيما يمكن تسميته بالقياس على الأدوار الغربية، واستخدام القوة العسكرية، ومنظور ملء الفراغ.

عند التعامل مع الدور الصيني في منطقة الشرق الأوسط، قد يكون هناك قياس على خبرات الأدوار الغربية. هذه الأدوار جاءت في سياق استعماري معروف. ومن ثم استمرت في الحفاظ على مصالحها بالمنطقة في ظل نفوذ سياسي كبير وحضور عسكري مهم. كما أن هذه القوى كانت هي صاحبة مشروع إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين. ومن ثم فإنها ظلت قائمة على رعاية هذا المشروع. وقد جاءت الحرب الأخيرة لتكشف مدى تجذر هذه الفكرة لدى صناع القرار في الغرب. ومن ثم مدى استعدادهم للاستمرار في دعمها حتى لو خالفت كل القيم والقوانين التي يرفعون لوائها.

الصين لم تكن يوماً قوة استعمارية في المنطقة، ولم تستخدم قوتها العسكرية فيها. كما أنها كانت لسنوات طويلة ضد المشروع الاستعماري الاستيطاني الإحلالي في فلسطين. وظلت من أكبر المدافعين عن حقوق الشعب الفلسطيني، دون أن يعطل ذلك من مسيرة علاقاتها مع إسرائيل. الصين وعلى عكس القوى الغربية لا تلوح بالقوة العسكرية إلا في محيطها المباشر، وعند تعرض مصالحها القومية لتهديد مباشر. ومن ثم فهي ليست في وارد استخدام تلك القوة في صراعات الشرق الأوسط.

من بين الإشكاليات التي تتعلق بالدور الصيني في الشرق الأوسط النظر إلى ما تقوم به الصين من تحركات على أنه محاولة لملء الفراغ الذي تتركة القوة الأمريكية. سواء برغبتها أو مرغمة على ذلك. الصين دائمة التأكيد على أنها لا تسعى إلى ما يسمى بملء الفراغ. وتدرك الصين كل ما يقال عن هذا الموضوع ومن ثم فقد كان الرئيس الصيني واضحاً عند الحديث عن سياسة بلاده في المنطقة عندما قال: “لا ننتزع ما يسمى بمجال النفوذ من أي واحد؛ نسعى إلى حياكة شبكة شركاء تحقق المنفعة المتبادلة والكسب المشترك ولا ننوي ملء الفراغ”.

النفوذ سيتحقق طالما كانت الدولة تقدم فوائد لشركائها، والفراغ الذي سيظهر لا شك سيتم ملئه، لكن ليس شرطاً أن يملء بالطريقة نفسها التي كانت في السابق. ولا يجب إغفال أن الولايات المتحدة لديها قناعة بأن الصين لا تريد فقط ملء الفراغ، وإنما هي تريد تغيير ما تسميه واشنطن بالنظام الدولي القائم على القواعد، وأن واشنطن لديها قناعة بأن بكين باتت لديها من القدرات والإمكانيات ما يمكنها من السير في هذا الطريق، ومن ثم فإن عليها أن تتصدى لها.

تحركات ونتائج
في الشق الأول من الاقتباس الأخير حدد الرئيس الصيني طريقة تعامل الصين مع الشرق الأوسط عندما قال: “تلتزم الصين بتحديد سياستها واتخاذ إجراءاتها تجاه الشرق الأوسط بناء على الحقائق عن القضايا ذاتها، وانطلاقاً من المصلحة الأساسية لشعوب المنطقة. نعمل على النصح بالتصالح والحث على التفاوض ولا نقوم بتنصيب الوكلاء؛ نبذل الجهود لتكوين دائرة الأصدقاء للحزام والطريق التي تغطي الجميع”.

هذه العناصر لابد أن يضاف إليها عنصر المصلحة الصينية، فالصين لن تغفل مصلحة شعبها وهي تتعامل مع الشرق الأوسط، ولن تقدم مصالح شعوبه على مصالح شعبها. ولكنها تعتقد أن تنميتها السلمية كما هي مفيدة لها فإنها مفيدة لكل دول العالم. كما أن منظورها للأمن يختلف عن المنظورات الغربية المطروحة. الصين كما أنها تحتاج من المنطقة مواد خام على رأسها مصادر الطاقة، فإن لديها الكثير مما يمكنها تقديمه للمنطقة ليس فقط من الناحية الاقتصادية. وبالفعل فقد خطى التعاون الصيني مع دول الشرق الأوسط خطوات كبيرة جداً، سواء على صعيد التجارة أو الاستثمارات، خاصة في ظل المشاريع الضخمة التي تطلقها الكثير من دول المنطقة. ولا تقتصر مبادرات الصين على مبادرة الحزام والطريق، وإنما كانت لها مبادرات أخرى من بينها إنشاء البنك الآسيوي للاستثمار في البنية الأساسية. وهو المشروع الذي عارضته الولايات المتحدة، وعلى الرغم من ذلك انضمت إليه معظم دول الشرق الأوسط، والكثير من دول العالم من مختلف القارات.

فالبنك الذي انطلق مع بداية العام 2016 وصل عدد أعضائه إلى 109 عضو في بدايات العام 2024. هذه المؤسسة باتت تمول مشاريع في الشرق الأوسط. من بينها على سبيل المثال مشروع مترو الإسكندرية في مصر. كما أن البنك قد أنشأ أول مكتب له خارج الصين في أبوطبي بالإمارات العربية المتحدة في سبتمبر من العام 2023.

ومن بين ما اقترحته الصين على الدول العربية في إطار مبادرة الحزام والطريق معادلة 1+2+3، بحيث يكون الانطلاق من قطاع الطاقة إلى قطاعي البنية التحتية، والتجارة والاستثمارات. ومن ثم تأتي قطاعات الطاقة النووية، والفضاء، والطاقة الجديدة، حيث تعتبر بكين المجال الأول محوراً رئيسياً، والمجالين التاليين باعتبارهما جناحين. والمجالات الثلاثة الأخيرة المرتبطة بالتكنولوجيا بمثابة نقاط اختراق. هذا الاقتراح الذي طرح منذ عشر سنوات حري بمناقشة النتائج التي تحققت في إطاره خاصة في ظل توالي التوقيع على اتفاقيات الشراكة الاستراتيجية مع الدول العربية، والسعي إلى إقامة منطقة للتجارة الحرة مع دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية.

اتفاقيات الشراكة الاستراتيجية لم تقف عند الدول العربية، فقد كان هناك اتفاق ضخم وطويل المدى مع إيران في العام 2021. هذا الاتفاق الذي أثار جدلاً كبيراً خاصة في ظل طبيعة علاقات إيران بالولايات المتحدة وباقي القوى الغربية، لاسيما فيما يتعلق بملفها النووي، والذي تتعرض بسببه لعقوبات. وكما هو معلوم فالصين هي الأخرى تتعرض لعقوبات من آن إلى آخر على خلفية قضايا كثيرة، وهي ترفض من حيث المبدأ فرض العقوبات بشكل أحادي.

إذن، فالتقارب بين الصين ودول الشرق الأوسط، والنهج الصيني غير المنخرط في الصراعات القائمة كان من بين العوامل التي جعلت كلاً من السعودية وإيران تقبلان بختام مفاوضاتهما بخصوص تطبيع العلاقات بينهما على الأرض الصينية في 10 مارس 2023.

إذ جرت المفاوضات لمدة خمسة أيام برعاية صينية. وكما أنه لا يمكن إغماط الصين حقها فيما قامت به على هذا الصعيد، فإنه لابد من الإشارة إلى مسألتين مهمتين: الأولى أشار إليها البيان الثلاثي المشترك في 10 مارس 2023، وهي المتمثلة في وجود مفاوضات سابقة بين كل من السعودية وإيران على مدار عامي 2021 و2022 في كل من سلطنة عمان والعراق. إذ توجهت كل من السعودية وإيران بالشكر والتقدير لهما لاستضافتهما جولات الحوار السابقة لحوار بكين. والمسألة الثانية أنه كانت هناك رغبة من الطرفين السعودي والإيراني في طي صفحة القطيعة، وهذا مما سهل على بكين قطف ثمرة الإعلان عن المصالحة بينهما من بكين. وهنا يطرح السؤال: هل لو كانت الحسابات السعودية والإيرانية لم تتغير، وهل لو لم يكن هناك مفاوضات سابقة كان من السهل على الصين أن تصل بالأمور إلى ما وصلت إليه؟.

ملف المصالحة السعودية-الإيرانية كان سهل نسبياً. ومن ثم يطرح السؤال عن الملف الأكثر صعوبة وتعقيداً، والمتمثل في الصراع العربي-الإسرائيلي وما يمكن للصين أن تقوم به؟. بكين طرحت في 30 نوفمبر 2023 خمس نقاط محددة: أولها ضرورة “وقف إطلاق النار وإنهاء القتال على نحو شامل”، وثانيها “حماية المدنيين بخطوات ملموسة”، وثالثها “ضمان الإغاثة الإنسانية”، ورابعها “تعزيز الوساطة الدبلوماسية”، وخامسها “إيجاد حل سياسي”. ودون الدخول في التفاصيل، فإن أربعة من هذه المقترحات تتعلق بالظرف الراهن والوضع المشتعل في هذا الملف. والأخير مرتبط بالحل النهائي، والذي تراه الصين متمثلاً في حل الدولتين، على أن تكون الدولة الفلسطينة مستقلة وذات سيادة وعاصمتها القدس الشرقية وعلى حدود 1967. كما حرصت الصين على تأكيد أنه “على أي ترتيب حول مستقبل قطاع غزة أن يحترم إرادة الشعب الفلسطيني وخياره المستقل، ولا يجوز أن يفرض عليه”.

يلاحظ على هذه المقترحات الصينية أنها نحت إلى مطالبة من أسمتهم تارة بأصحاب الشأن وتارة أخرى بالأطراف المعنية بتنفيذ القرارات الدولية. كما أنها أوكلت إلى مجلس الأمن الدولي أدواراً عليه القيام بها في كل النقاط الخمس. ومن ثم يصبح السؤال: ومن الذي سيلزم مجلس الأمن بالقيام بتلك المهام خاصة على ضوء الموقف الأمريكي على الأقل؟.

آفاق وقيود
الشرق الأوسط ليس فقط صراعات ممتدة تنفجر من آن إلى آخر وتهدد باشتعال المنطقة، وإنما به فرص في مناطق الاستقرار. والصين كما أن لها رؤيتها فيما يتعلق بكيفية تسوية الصراعات وحلها حتى وإن كان ذلك على المدى البعيد، فإن لها مشاريعها وأدوات تنفيذها في مناطق الاستقرار.

فيما يتعلق بالصراعات وتحديداً الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، هل يمكن أن تنتقل الصين خطوات إلى الأمام من قبيل تقديم الدعم المالي والعسكري للمقاومة الفلسطينية. حتى الآن، تؤكد الصين على تقديم مساعدات إنسانية للشعب الفلسطيني، لكنها تنفي تقديم أي أسلحة للمقاومة. في السابق وفي ظل المواجهة الأيديولوجية زمن الحرب الباردة كانت المقاومة الفسطينية تحظى ليس فقط بالدعم السياسي الصيني حيث كان ينظر إلى المقاومة الفلسطينية في إطار الصراع الدولي مع الإمبريالية والرأسمالية. وهل يمكن أن تبادر الصين بفرض عقوبات على إسرائيل التي تمعن في عدم الانصياع للقرارات الدولية؟.

على ضوء طبيعة السياسة الصينية التي أشير إلى بعض ملامحها، لا يمكن توقع تجاوز الصين الوقوف عند الأمور المبدئية من حق الشعب الفلسطيني في المقاومة بما في ذلك المقاومة المسلحة، فهذا حق تكفله القوانين الدولية. ومن ناحية أخرى، ففي ظل الموقف المبدئي للصين من مسألة العقوبات الأحادية، فإنها لن تقدم على ذلك تجاه إسرائيل. وحتى وإن لم تقدم الصين على هذا أو ذاك فإن مواقفها متقدمة قياساً بالكثير من دول العالم. وهي تقوم بدور مهم في تعرية المواقف الأمريكية والغربية التي اتضح انحيازها الفج في الجولة الراهنة من جولات الصراع.

المنطق الصيني في التعامل مع مختلف بؤر التوتر في المنطقة يدعو إلى تنحية ما يمكن تسميته بالدور التخريبي للقوى الخارجية، والعمل على إتمام المصالحات الداخلية. والصين تدرك أن الدول المأزومة تحتاج ليس فقط للدعم السياسي للخروج من محنتها، وإنما ستكون فيها فرص واسعة في ظل الحاجة إلى مشاريع ضخمة لإعادة الإعمار قد تمتد لعقود. كما أن الدول التي تنفق بكثافة على مشاريع البنية الأساسية والتطوير لدى الكثير منها الموارد المالية التي يمكن للشركات الصينية أن تستفيد منها، كما أن هذا الموارد المالية يمكن أن تتوجه لاستثمارات في الصين. والمثال الأحدث على النموذج الأخير الصفقة التي تم التوقيع عليها في شهر فبراير الماضي (2024) بين شركتي سابك السعودية ومجموعة فوجيان للطاقة والبتروكيماويات الصينية، حيث سيتم إنشاء مشروع في مدينة تشانجتشو بمقاطعة فوجيان باستثمارات 6,2 مليار دولار.

من الواضح أن التقدم التكنولوجي الصيني في الكثير من المجالات من بين عناصر الترحيب بالمشاريع الصينية في منطقة الشرق الأوسط. وهنا يثار التساؤل: هل ستكتفي دول المنطقة بمجرد توسيع دائرة الاختيار بين ما هو مطروح من مستويات تكنولوجية لمشاريعها دون أن تنتبه إلى مشاريع تعاون تكنولوجي من شأنها الإسهام في نقل التكنولوجيا بما قد ينقلها من مجرد مستهلك إلى منتج للتكنولوجيا ولو على المدى البعيد حتى إذا كان ذلك من قبل بعض دول المنطقة وليس كلها؟

يبدو المجال الثقافي مفتوحاً للمزيد من المنجزات، خاصة في ظل الاهتمام الصيني الواضح بنشر الثقافة واللغة الصينية، حيث يتم التوسع في افتتاح المراكز الثقافية الصينية. كما أن هناك برامج لزيادة التبادل الطلابي مع دول المنطقة. ويضاف إلى كل ذلك أهمية السياحة الصينية لدول المنطقة في ظل الارتفاع المتواصل في دخول الأفراد في الصين، والتزايد المضطرد في أعداد السياح الصينيين في الخارج، باستثناء فترة وباء كورونا بطبيعة الحال.

لا يمكن إغلاق ملف الآفاق دون مناقشة احتمالات تزايد الوجود العسكري الصيني في المنطقة بخصوصياته التي تتحدث عنها بكين ممثلاً في قاعدتها في جيبوتي. وكذلك مستقبل المناورات العسكرية المشتركة مع دول المنطقة على ضوء وجود بعض المؤشرات على مناورات نوعية مع بعض الدول. يضاف إلى ذلك فرص تزايد صادرات الأسلحة الصينية للمنطقة.

هذه القضايا لا يمكن مناقشتها بمعزل عن الجدل العالمي حول الدور الصيني سواء في الدوائر الأكاديمية أو في دوائر صنع القرار خاصة في القوى الكبرى، حيث تطرح تساؤلات وتثار مجادلات حول استمرارية الصعود الصيني بطابعه السلمي وفرص تحوله إلى عكس ذلك. وحتى المبادرات الصينية لم تسلم من التشكيك في أهدافها. وعلى سبيل المثال، فإن من بين المصطلحات التي باتت شائعة فيما يتعلق بالاستثمارات الصينية في إطار تلك المبادرات مصطلح فخ الديون، وهو مصطلح دأبت الولايات المتحدة على استخدامه محذرة الدول التي باتت تعتمد بكثافة على الاستثمارات الصينية من مغبة ذلك.

وإذا كانت الولايات المتحدة قد فرضت قيوداً على صفقات الشركات الصينية التكنولوجية على الأراضي الأمريكية وحذرت حلفائها في أوروبا من السير قدماً في صفقات عقدتها مع الصين، فإنها قد مارست ضغوطاً مماثلة في بعض الحالات في الشرق الأوسط. والولايات المتحدة هي ذاتها التي تتحدث عن سعي الصين لحيازة النفوذ وملء الفراغ في كل مناطق العالم. وبغض النظر عن النفي الصيني، فإن واشنطن لها مصالح استراتيجية في منطقة الشرق الأوسط، ووجودها العسكري في المنطقة كثيف. وهي لا تتحرج من استخدام الأداة العسكرية ضمن أدواتها لتحقيق تلك المصالح. ومصالح واشنطن لا تقف عند الشرق الأوسط بل إنها في كل مناطق العالم، وباتت تركز في السنوات الأخيرة على المنطقة المحيطة بالصين، والتي توجت باستراتيجية المحيطين الهندي والهادي وما تضمه من تحالفات وترتيبات أمنية وإجراءات واتفاقيات اقتصادية. والأمر أعقد من أن يختصر في جمل بسيطة، لكن المغزى هنا أنه لا يمكن الفصل بين ما تقوم به واشنطن حيال الصين في منطقة المحيطين الهندي والهادي وما تقوم به في منطقة الشرق الأوسط، ولا ما تقوم به في في أوروبا وغيرها من مناطق العالم.

كما أنه لا يمكن الفصل بين ما تقوم به الصين في جوارها القريب وما تقوم به في شتى أرجاء العالم بما في ذلك في منطقة الشرق الأوسط. لكن مع مراعاة التباين الشديد بين حدود ما يمكن أن تصل إليه بكين من تصرفات في جوارها القريب، وما يمكن أن تقوم به في منطقة الشرق الأوسط أو غيرها من مناطق العالم.

وفي كل الحالات، تبقى الولايات المتحدة برؤيتها للصين، وباستراتيجياتها المعلنة، وبسياساتها المطبقة أحد أهم المعوقات أمام الصين، بما في ذلك في منطقة الشرق الأوسط. وإذا كانت الصين حريصة حتى الآن على أن لا تصل الأمور في قضايا جوهرية بالنسبة لها مثل قضية تايوان وقضايا بحر الصين الجنوبي إلى الصراع المسلح المفتوح، فإنها أشد حرصاً على أن لا يحدث ذلك في مناطق أخرى من العالم.

من الواضح أن الصين حتى هذه اللحظة لا تمثل بديلاً للولايات المتحدة بالنسبة للغالبية العظمى من دول الشرق الأوسط، لكنها باتت تمثل خياراً مناسباً ومفيداً في الكثير من القضايا. إذ يمكنها الحصول على شروط أفضل في الصفقات المعقودة، كما أن الصفقات مع الصين تكون متحررة من القيود السياسية التي قد تتواجد بكثافة في الصفقات مع الولايات المتحدة. ليس مطلوباً من دول المنطقة الاختيار بين الصين والولايات المتحدة، وعلى الأغلب لا تطلب الصين ذلك، وعلى الأرجح تضغط واشنطن وإن بشكل غير معلن من أجل الابتعاد عن الخيار الصيني قدر المستطاع.