ماضي غزّة وحاضرها: رجع أصداء أشدّ توحشاً

ماضي غزّة وحاضرها: رجع أصداء أشدّ توحشاً

قبل 16 سنة أصدرت خمس منظمات دولية رئيسية مختصة بالإغاثة وحقوق الإنسان، بينها «العفو الدولية» و«أوكسفام» تقريراً شاملاً حول الأوضاع الإنسانية في قطاع غزّة، الناجمة عن الحصار الإسرائيلي الداخلي، ثمّ الحصار الخارجي الأورو ــ أمريكي. وأشارت المنظمات إلى أنّ أحوال سكان القطاع، على مستويات بشرية محضة تبدأ من الغذاء والدواء والمسكن ولا تنتهي عند الماء والكهرباء والطاقة، بلغت من التدهور والسوء والخطورة درجات لم يعرف القطاع مثيلاً لها منذ 1967.
وفي مسرد الحوافز، التي ظنّت المنظمات أنها يمكن أن تدفع أوروبا، على الأقل، لمعالجة تلك الحال المأساوية؛ تعاقبت سلسلة الحقائق الرهيبة التي عدّدها التقرير: فترات انقطاع الكهرباء التي تزيد عن 12 ساعة، واعتماد 80٪ من العائلات في غزّة على موادّ الإغاثة، وارتفاع نسبة البطالة إلى أكثر من 50٪، وتوقف 95٪ من الأشغال الصناعية؛ ثمّ، ضمن المعطيات أيضاً: فشل الحصار في إضعاف «حماس» بل إنجاز العكس تماماً وتقوية شوكتها السياسية والعسكرية والعقائدية.
خلال الفترة ذاتها، وكي تكون للمصادفات محاسن استخلاص العبر المتقاطعة المتكاملة، نشرت مجلة «فانيتي فير» الأمريكية تقريراً لافتاً، مفصلاً وموثقاً على نحو مذهل حقاً، حول تورّط البيت الأبيض مباشرة، وعن طريق تنسيق وثيق بين اثنَيْن من أرفع المسؤولين الأمريكيين يومذاك، وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس ونائب مستشار الأمن القومي إليوت أبرامز، وبين القيادي البارز في حركة «فتح» ومستشار الأمن القومي الفلسطيني السابق محمد دحلان؛ بهدف في زعزعة سلطة «حماس» وتقويض نفوذها، في القطاع والضفة الغربية والقدس المحتلة على حدّ سواء، وافتعال حرب أهلية فتحاوية ــ حمساوية في غزّة.
كاتب تقرير «فانيتي فير» دافيد روز، أطلق اسم «إيران ـ كونترا 2» على هذه العملية، بالنظر إلى اعتبارين: 1) أنها صيغت ونُفّذت بشكل سرّي محدود وغير شرعي، أو «غير دستوري» في التوصيف الأمريكي لكلّ ما هو مخفيّ عن دوائر القرار الرسمية؛ و2) أنّ أحد ابطالها، أبرامز، تورط ذات يوم في «إيران ــ كونترا 1» الشهيرة، وحوكم بالفعل، وتمّت إدانته بجرم إخفاء الحقائق عن الكونغرس، قبل أن يعفو عنه الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الأب.
هل ثمة حاجة إلى التشديد على أنّ ما يشهده القطاع اليوم من حرب إبادة إسرائيلية، وتواطؤ غربي أمريكي وأوروبي صريح، وآخر مبطّن رديء التمويه من جانب حفنة أنظمة عربية، وعجز إرادي أو تكويني من جانب سلطة محمود عباس في رام الله… لا يستعيد الكثير من دروس التقريرَين، المنظمات الدولية و«فانيتي فير» فحسب؛ بل ينطوي على جوانب أشدّ همجية وتوحشاً، وأبعد إمعاناً في التضليل والخديعة والتستر. ذلك لأنّ مفهوم «الحاجة» هنا لا ينبع من طراز الكشف الذي يتضح بغتة فيسدّ ثغرة في المعلومات، هذه التي يلوح أحياناً وكأنّ الغريزة وحسّ التاريخ ووقائع الماضي القريب تبرهن عليها بجلاء أمضى من جلاء الحقائق الدامغة، بل من ضرورة الربط بين عناصر المشهد الفلسطيني الراهنة.

إنّ ما يشهده القطاع اليوم من حرب إبادة إسرائيلية، وتواطؤ غربي أمريكي وأوروبي صريح، وآخر مبطّن رديء التمويه من جانب حفنة أنظمة عربية ينطوي على جوانب أشدّ همجية وتوحشاً، وأبعد إمعاناً في التضليل والخديعة والتستر

وفي عداد ما يتوجب أن يُربط، عدا العناصر الكلاسيكية المتكررة حول انحياز الغرب وتورّط ديمقراطياته في تغطية جرائم الحرب؛ ثمة ما يُضحك، إذْ يُبكي أيضاً، طيّ هذا المشهد! خذوا، في مثال أوّل، عقيرة دحلان التي ارتفعت، من شاشات أقنية حكومية أمريكية وأخرى خليجية تطبيعية أو وسائل إعلام عملاقة صديقة لدولة الاحتلال؛ وأفادت شعب غزّة الذبيح بوجود «خطة سرّية» يناقشها «الزعماء العرب» قوامها مبدأ «لا عباس ولا حماس» مع استحياء مفضوح جعل دحلان يعفّ عن تحديد هوية هذا القائد المغوار الآتي لزعامة خرائب القطاع. وبمقدار ما تبدو هذه «المكاشفة» نكتة ثقيلة الظلّ، حتى إذا صدرت عن رجل قال تقرير «فانيتي فير» إنّ بوش اعتبره «رجل» الإدارة في السلطة الفلسطينية؛ فإنّ رعاة دحلان في أبو ظبي، فضلاً عن رعاة آخرين آتين ساعة تطبيع مقبلة، لم يكترثوا حتى بالتعليق على «الخطة السرية».
وللمرء، في مثال ثانٍ وإزاء ما يتصاعد من أضاليل حول خلافات إسرائيلية ــ أمريكية بصدد اقتحام رفح، أن يستعيد مناخات صيف 2001، حين كانت دولة الاحتلال تدكّ نابلس وغزّة معاً، وتبارى الساسة الإسرائيليون في هجاء «المجتمع الدولي» الذي ينتقد حروبهم، وذكّروا الجميع بأنّ دولة الاحتلال لا تتلقى الدروس الأخلاقية من أحد، حتى من أعرق الديمقراطيات الغربية (بريطانيا وفرنسا) ومن أعتق وأصدق وأقرب الحلفاء (الولايات المتحدة). فليراجعوا ضرباتهم الجوية في البلقان قبل أن ينتقدوا الضربات الإسرائيلية هنا، قال نائب وزير الأمن الداخلي آنذاك.. شمعون بيريس، وكان حينئذ وزير خارجية الاحتلال، اعتبر أنّ كرامته طُعنت في الصميم حين سمع مَن يقول إنّ دولة الاحتلال تسعى إلى تصفية الفلسطينيين. «نحن لسنا دولة مافيا تستخدم هذا النوع من الممارسات» هتف آخر عجائز حزب «العمل». مَن أنتم، إذن؟ «الدولة الوحيدة في العالم التي تواجه انتحاريين لا يمكن وقفهم بواسطة شرطة أو جنود ما داموا مستعدين للموت» تابع حامل جائزة نوبل للسلام (ولتذكير بعض حسيري الذاكرة، لم تكن صواريخ «القسام» قد رأت النور بعد، و«حماس» لم تكن في السلطة، والدحلان كان «رجل» البيت الأبيض لتوّه…).
وتلك، مثل أيامنا هذه كما ينبغي أن نتذكر دائماً، كانت أطوار أنصهار تيّارات وأحزاب وألوان وأطياف وضمائر أبناء دولة الاحتلال، السواد الأعظم منهم عملياً، ما خلا قلّة قليلة محدودة منفردة، في بوتقة التهليل للبربرية العسكرية الإسرائيلية، والتلذذ بمتابعة الموت على شاشات التلفزة. ليس من دون تظاهرات تطالب باستقالة رئيس الحكومة الحالي بنيامين نتنياهو، تمثّل 80٪ من الإسرائيليين، لأنّ الكيل قد طفح بهم إذْ يواصل حمل الرقم القياسي كأطول رئيس حكومة في تاريخ الكيان. وليس، في المقابل الوثيق، من دون نسبة الـ80٪ ذاتها، التي تطالب بمواصلة الحرب ضدّ قطاع غزّة… سواء بسواء!
ومنذ وقت مبكّر في جولات التعاطي الأمريكي مع المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية، أي منذ قمّة واي بلانتيشن التي انعقدت في خريف 1998 وضمّت الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلنتون إلى جانب الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات ورئيس حكومة الاحتلال نتنياهو، هيمنت فلسفة مارتن إنديك (التي صاغها حين كان مستشار مجلس الأمن القومي الأمريكي للشؤون العربية ـ الإسرائيلية والعراق وإيران وجنوب آسيا) حول نقطة واحدة كبرى: الأدوار الأمنية التي يجب أن تُلقى على عاتق السلطة الفلسطينية في حماية الإسرائيلي الذي يحتلّ الضفة الغربية والقطاع، والإسرائيلي الذي يحتلّ فلسطين التاريخية، وربما الإسرائيلي أينما تهدد في طول العالم وعرضه!
وفي واقع الحال كان إنديك يترجم معادلة نتنياهو «الأمن مقابل السلام» الذي حلّ محلّ شعار «الأرض مقابل السلام» ولم يكن يحثّ عرفات سوى على «المزيد من استخدام العصا، والقليل من التلويح بالجزرة» كما في تصريحه الشهير البذيء. اليوم يلوم إنديك دولة الاحتلال على فشل «معالجة الوضع الإنساني» في قطاع غزّة، ليس أكثر بالطبع، أو لعلّ هذا هو أقصى ما يُنتظر من سفير أمريكي أسبق لدى الاحتلال، يهودي الديانة، وغيور على ما انتهت إليه «الدولة اليهودية».
وتلك وقائع أقرب إلى رجع الصدى في أقدار قطاع غزّة، حيث لا تُستعاد دروس الماضي بمعزل عن إراقة المزيد من الدماء وجرائم الحرب والتواطؤ والتورّط.