فى أعقاب وقف إطلاق النار بين أطراف أية حرب دولية، لا بد أن يجلس المتحاربون للتفاوض بشأن ترتيبات ما بعد الحرب ووضع أسس بناء مستقبل للعلاقات المتبادلة، حدث ذلك فى أعقاب الحربين العالميتين، وغيرها من الحروب الثنائية أو متعددة الأطراف، والمفاوضات الجادة لا تؤدى فقط إلى حقن الدماء وإنما أيضا إلى التحول من العداء إلى الإعلاء من المصالح المشتركة، لقد صارت ألمانيا وإيطاليا أعضاء فى السوق الأوروبية المشتركة والاتحاد الأوروبى وحلف الناتو جنبًا إلى جنب مع فرنسا وبريطانيا وغيرها، صار أعداء الأمس حلفاء اليوم، فهل يمكن أن يحدث ذلك بين العرب وإسرائيل؟ واضعين فى الاعتبار طبيعة المشروع الصهيونى التوسعى العنصرى الإقصائى فى فلسطين وجاراتها العربية؟ تشير الخبرة الدولية والأدبيات السياسية إلى أنه لا توجد حرب دائمة، وأن السلام ليس فقط ضروريًا لكنه حتميًا ولا مناص منه مهما كانت طبيعة المتحاربين وخصالهم، وينطبق كل ذلك على الصراع العربى الإسرائيلى، وحرب الإبادة الإسرائيلية فى قطاع غزة، ومع احتمالات التوصل إلى وقف إطلاق النار، فإن بناء السلام بين العرب وإسرائيل يستلزم وجود عشر قواعد على الأقل متشابكة ومتكاملة، بعضها بين الأطراف المباشرة، العرب وإسرائيل، وأخرى ترتبط بأطراف خارجية سواء دولًا كانت أم منظمات دولية.
●●●
لا مندوحة عن إنهاء الاحتلال الإسرائيلى للأراضى الفلسطينية وأراضى لبنان ومرتفعات الجولان لإقامة السلام، فلا سلام فى ظل الاحتلال، لأنه، وهو غير شرعى، يستمد استمراره من التضييق على الشعب الفلسطينى وسلب حريته وحرمانه من حقوقه ومصادرة ممتلكاته وتهديد أمنه، ومن ثم اتجاهه إلى المقاومة بجميع أشكالها، وهكذا العنف يولد المقاومة وتستمر الحلقة المفرغة دون توقف، لكن السلام الجاد يبدأ مع تحرير الأراضى المحتلة، وحق تقرير المصير كما ورد فى ميثاق الأمم المتحدة. يرتبط بما سبق ولا ينفصل عنه حتمية التخلى عن عقيدة التوسع وبناء المستعمرات على أراضى الغير مهما كانت المبررات الدينية أو الاستراتيجية، التوسع يعنى السيطرة والاستحواذ على أراضى الغير، ويؤسس السلام على التخلى عن التوسع على أراضى الغير، فقد تنازلت ألمانيا عن إقليم الألزاس واللورين لفرنسا فى أعقاب الحرب العالمية الثانية، وتوقفت عن أية اداعات بأن الإقليم تابع لها، التوسع وبناء المستعمرات يقيد أية خطوات حثيثة إلى السلام ويجهضها.
●●●
لقد توافقت آراء علماء ومتخصصين فى حل الصراع إلى أن السلام يقوم على أساس التنمية المشتركة، فقد كتب إدوارد عازار وستيفن كوهين بعمق حول ذلك، وزاد عليهما هربرت كيلمان التنمية الإنسانية، بينما أكد جالتونج أن التنمية تغير بنيان الصراع إلى خلق مصالح مشتركة، بحيث يصير اللجوء إلى الصراع والحرب أكثر تكلفة عن التوصل إلى سلام، وتتضمن التنمية هنا إقامة مشروعات مشتركة مثل الطرق السريعة والكبارى والخطوط البحرية وشبكات النقل والصناعات المشتركة مثل تحلية المياه والطاقة الشمسية وغيرها، وتستهدف التنمية الإعلاء من كل من مستوى المعيشة وجودة الحياة للمواطنين والمواطنات، السلام من خلال التنمية جلى فى جنوب إفريقيا والاتحاد الأوروبى، ومن العسير فى الصراعات الاجتماعية المتوالدة التوصل إلى سلام دون خطط تنموية شاملة ومستدامة وإقليمية، ولعل السؤال الحرج يدور حول مدى قدرة ورغبة إسرائيل فى العيش فى سلام مع جيرانها، أم أنها تتبع نصيحة ماكيافيللى للأمير، بأنه لكى يحافظ على تماسك المجتمع عليه أن يخلق عدوًا خارجيًا يحاربه باستمرار؟ السلام من خلال التنمية يتطلب بلا شك موارد مالية وفيرة على الدول الكبرى والمنظمات الدولية توفيرها. تختص القاعدة الرابعة بالاحترام المتبادل بين مختلف الأطراف، فى دراسات هربرت كيلمان بجامعة هارفارد بشأن الاحترام المتبادل عبر حوار الشباب العربى واليهودى والإسرائيلى فى خلوة قام بترتيبها مرات عديدة، كان الاحترام المتبادل أساسًا للتفاهم والمناقشات والإقدام على التعامل والتفاعل، والاحترام المتبادل يكسر حدة النفور والعزوف عن الدخول فى شراكات تحقق منافع متبادلة، وهو يعنى كذلك المساواة بين مختلف الأطراف بصرف النظر عن أية تباينات دينية أو عرقية أو اجتماعية، كما يهذب مشاعر العداء، ويغرس حب الحياة.
●●●
يقودنا ما سبق إلى التأكيد على أهمية الانتقال من حالة الرفض و«الكراهية» إلى حالة التعايش السلمى، وهو يمثل الحد الأدنى لحالة السلام المنتظرة، ومعنى تلك الحالة أن تكلفة الصراع وما ينجم عنه باهظة ــ ماليًا ونفسيًا وإنسانيًاــ وأن التعايش يخلق مصالح متنوعة ومشتركة من الصعب تعويضها أو التغاضى عنها، وهكذا يدفع التعايش السلمى إلى قاعدة مهمة تتعلق بالمصالح المشتركة، والتى ترسخ تبادل المنافع والفوائد، وتعظيم عوائد السلام، كما يدفع إلى التطلع إلى المستقبل الأكثر أمنًا وأمانًا. يدعم التعايش السلمى الانتقال التدريجى إلى التحول إلى علاقات تبادل تجارى طبيعية قد تتحول إلى ترتيبات تجارية تفضيلية بما فيها مناطق تجارة حرة تزيد من ترابط المصالح وتكرس الاعتماد المتبادل وتقوى الانتماء الإقليمى، ولا شك أن حرية التجارة تؤدى إلى الانتعاش الاقتصادى لأطرافها بما ذلك التشغيل وحركة العمالة البينية مما يضاعف من المصالح المشتركة بين مختلف الأطراف. ومما يرسخ السلام سواء كان استراتيجيًا أو مقدمة للتعاون قدرة ورغبة أطرافه على تبادل المعارف، والتعاون التكنولوجى بين المؤسسات العلمية ومراكز البحوث الوطنية. إن احتكار المعارف يثير الشكوك ويزيد من عدم الثقة المتبادلة، وذلك يهدد أية ترتيبات سلام إقليمية، والتعاون التكنولوجى فى مجال الزراعة والصناعات التحويلية والفضاء تدفع إلى الانتقال إلى مستوى أرقى من التفاعل السياسى.
●●●
تقوم القاعدة التاسعة على حياد أطراف السلام المنتظر فى الصراعات الإقليمية التى قد تنشب فى المنطقة، بما فى ذلك العزوف عن الدخول فى تحالفات دولية تثير حفيظة الدول المجاورة، والمقصود هنا تحييد الإقليم عن القوى الكبرى الطامعة فيه، سواء كانت الولايات المتحدة أو أوروبا، فانخراط إسرائيل فى المنطقة يعفيها من استدعاء الحماية الخارجية التى تهدد الأمن الاقليمى. كل ذلك يقتضى من كل الأطراف بناء قوات مسلحة عصرية ومدربة على الدفاع فى حالة تعرض الدولة الوطنية للخطر، فالسلام لا يعنى التخلى عن القوة العسكرية فى كل مظاهرها، والتسلح والتدريب والمناورات العسكرية وبالتأكيد العقيدة القتالية، ولا يعنى السلام غض النظر عن القدرات النووية لإسرائيل وهى عنصر تهديد إقليمى مستتر وقائم ويستدعى السعى إلى احتوائه أو السمو عليه، للوصول إلى الردع المتبادل. ●●● هذه ليست دعوة للتطبيع مع إسرائيل كما هى الآن، لكنها محاولة تقديم تصور لما بعد وقف إطلاق النار وقيام دولة فلسطينية وإعادة الإعمار وقبول إسرائيل بأن تصير دولة طبيعية لها حدود معترف بها دوليًا وإقليميًا، إنها محاولة للانتقال من حالة حرب شبه دائمة تستنزف الموارد من توظيفها فى التنمية الشاملة إلى الصراعات القاتلة، اندماج إسرائيل فى الإقليم بالقواعد المذكورة وغيرها يمكن أن يحقق سلامًا عادلًا ومستدامًا. أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة السلام ليس فقط ضروريًا لكنه حتميًا ولا مناص منه مهما كانت طبيعة المتحاربين وخصالهم، وينطبق كل ذلك على الصراع العربى الإسرائيلى، وحرب الإبادة الإسرائيلية فى قطاع غزة، ومع احتمالات التوصل إلى وقف إطلاق النار، فإن بناء السلام بين العرب وإسرائيل يستلزم وجود عشر قواعد على الأقل متشابكة ومتكاملة.
د. عبدالمنعم المشاط
صحيفة الشروق المصرية