تشابك تركيا بين مشروعها التنموي الضخم مع العراق وعمليتها المرتقبة ضد حزب العمال الكردستاني يعمل على تحسين فرص النجاح لكلا العنصرين. ولكن هذا الترابط يمكن أن يكون سلاحا ذا حدين، ففشل أحد العنصريْن قد يعيق نجاح نظيره الآخر.
بغداد – يرى محللون أن العملية العسكرية الشاملة التي أعلنتها تركيا مؤخرا ضد حزب العمال الكردستاني في إقليم كردستان العراق، والتي من المقرر أن تبدأ هذا الصيف، وربما بالتنسيق مع بغداد، لا تتعلق بالأمن فقط، إذ سيكون هجوم أنقرة جزءا من إستراتيجية أوسع، والتي تبرز بشكل كبير “طريق التنمية” المقترح الذي يربط تركيا بالعراق، لتعزيز العلاقات الاقتصادية والسياسية مع الحكومة المركزية العراقية.
ويقول إدريس أوكودوكو، صحافي مقيم في بيروت يركز على كردستان العراق ولبنان والميليشيات الشيعية في الشرق الأوسط، في تقرير نشره معهد واشنطن إن هذه الجهود ستتصدى للهيمنة الإيرانية المتزايدة في المنطقة، لاسيما في مواجهة الانسحاب الأميركي الوشيك من العراق، لكن من المرجح أن تحتاج تركيا إلى ضمان إذعان إيران للخطتين حتى تنجح أي منهما.
في علاقات تركيا مع حكومة إقليم كردستان والعراق، تعد الاعتبارات الأمنية والاقتصادية أهم قضيتين. فمنذ التسعينات، أنشأت تركيا قواعد عسكرية للعمليات ضد حزب العمال الكردستاني في منطقة بهدينان في دهوك وأربيل، حيث يتمتع الحزب الديمقراطي الكردستاني، بقيادة مسعود بارزاني، بالسيطرة الكاملة.
وحتى عام 2016، كانت العمليات العسكرية التركية في إقليم كردستان العراق في معظمها قصيرة المدى ولم تكن أنقرة تهدف إلى إنشاء قواعد دائمة هناك. ولكن بعد استفتاء تقرير المصير الذي أجراه إقليم كردستان العراق في الخامس والعشرين من سبتمبر 2017 وإعلان إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب عن انسحاب القوات الأميركية من سوريا، تزايدت العمليات العسكرية التركية في أربيل ودهوك. وفي عام 2018، بدأت في إنشاء قواعد دائمة هناك، خاصة أن إستراتيجية استهداف التهديد من مصدره أثبتت فعاليتها.
وتحتوي خطط أنقرة على عنصر إقليمي؛ تعهد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بإنشاء “ممر أمني بطول 30 إلى 40 كيلومترا عبر حدود البلاد مع العراق وسوريا”. وعلى هذا النحو، تهدف عملية أنقرة الصيفية إلى تحقيق السيطرة الكاملة على طول حدود تركيا مع العراق. وتمثل هذه الجهود أيضا أحدث محاولة لفتح معبر حدودي جديد مع العراق في أوفاكوي في المثلث التركي – العراقي – السوري، وهي محاولة لتجاوز إقليم كردستان العراق، الذي يشكل كامل حدود تركيا الحالية مع العراق.
انفراجة بين أنقرة وبغداد
◙ بغداد تعتبر حزب العمال الكردستاني منظمة “محظورة” و”تهديدا أمنيا” بعد أن كانت في السابق تنتقد العمليات التركية ضد الحزب
للتحضير لهجوم فعال ضد حزب العمال الكردستاني، انخرطت أنقرة في دبلوماسية مكثفة مع حكومة إقليم كردستان التي يقودها الحزب الديمقراطي الكردستاني، والحكومة المركزية العراقية، وقادة الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران، خاصة منذ عام 2021. وفي بغداد، أثمرت هذه الجهود مؤخرا فاكهة، وفي أعقاب الزيارة الأخيرة التي قام بها وزير الخارجية التركي هاكان فيدان إلى بغداد، أصدر العراق بيانا مشتركا مع تركيا وصف فيه حزب العمال الكردستاني
بأنه منظمة “محظورة” و”تهديد أمني” لكلا البلدين، وهو ما اعتبرته أنقرة نجاحا كبيرا. وقبل هذا التغيير في موقف العراق، انتقدت بغداد منذ فترة طويلة العمليات التركية ضد حزب العمال الكردستاني في البلاد. والآن بعد أن حصلت أنقرة على مباركة ضمنية من بغداد، فمن المرجح أن تركز تركيا عمليتها ضد حزب العمال الكردستاني في منطقة سنجار، الواقعة في محافظة دهوك. والهدف الأهم للعملية هو ضمان أمن الطريق التنموي الذي سيمر عبر الموصل التي تبعد حوالي 30 كيلومترا عن غار.
وتشعر أنقرة بالقلق بشكل خاص من أن وجود حزب العمال الكردستاني في سنجار، غرب الموصل، قد يعطل المشروع، وبالتالي فإن عملياته في إقليم كردستان العراق مرتبطة مباشرة بسهل الموصل وطريق التنمية. وبالإضافة إلى ذلك، وبحسب البيان المشترك، قررت بغداد وأنقرة تشكيل لجان دائمة مشتركة للعمل في مجالات مكافحة الإرهاب والتجارة والزراعة والطاقة والمياه والصحة والنقل.
ولم تتمكن أنقرة حتى الآن من التوصل إلى اتفاق أمني مع بغداد على غرار الاتفاقية التي وقعها العراق العام الماضي مع إيران للعمل ضد جميع جماعات المعارضة الكردية الإيرانية المسلحة في إقليم كردستان العراق. ومع ذلك، تعتقد تركيا أنها ستجني فوائد تدريجية من التعاون الاقتصادي مع بغداد والضغط الدبلوماسي المشترك لمواجهة حزب العمال الكردستاني.
◙ سيناريو مخاتل
وعلاوة على ذلك، يعتقد البعض أن زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للعراق قريبا من المرجح أن تمهد الطريق لمثل هذه الصفقة، التي ستشمل مركز عمليات مشتركة. وتسعى تركيا إلى المضي قدما في مشروع طريق التنمية مع العراق سعيا لتحقيق اتصال إقليمي مباشر بين البلدين. وسيتطلب مشروع الطريق التنموي ما يقدر بنحو 17 مليار دولار من الاستثمارات الأجنبية، ويمر عبر البصرة والديوانية والنجف وكربلاء وبغداد والموصل، ويربط بين بغداد وأنقرة عبر ممر بري ويوفر فرصا اقتصادية لكلا الجانبين.
ويقول المسؤولون الأتراك إن الممر إذا تم فتحه، فستتم إعادة بناء أربيل والموصل وكركوك وبغداد بشكل مشترك في هذه العملية. كما سيؤدي تنفيذ هذا المشروع وفتح الممر إلى قطع الأراضي بين الأكراد العراقيين والسوريين.
وقد صرحت تركيا مرارا وتكرارا بأنها تريد قطع ممر حزب العمال الكردستاني العراقي إلى سوريا من خلال فتح أوفاكوي. وبالإضافة إلى ذلك، تريد أنقرة الوصول إلى المناطق السنية والتركمانية في شمال العراق، مثل الموصل، حيث تقع قاعدة بعشيقة العسكرية التركية، وكركوك، حيث يعيش غالبية التركمان. ومن خلال هذا المشروع، يمكن لتركيا إقامة اتصال مباشر مع التركمان والعرب السنة لتحقيق المزيد من النفوذ السياسي في هذه المجتمعات من خلال العلاقات الاقتصادية.
وعلى الرغم من أن تركيا تقول إن أمن الممر سيتم توفيره من قبل الكيانات الأمنية التابعة لحكومة إقليم كردستان وكذلك الحكومة المركزية العراقية، إلا أن مدى دور إقليم كردستان العراق في الممر ليس واضحا. ونظرا لأن هذا الطريق مصمم لتجاوز إقليم كردستان العراق وقطع الاتصال البري للقوات التابعة لحزب العمال الكردستاني التي تسيطر على جانبي الحدود العراقية – السورية، فإن له بعدا أمنيا كبيرا بالنسبة لتركيا في حد ذاته، فضلا عن المخاطر المحتملة على حكومة إقليم كردستان.
وسوف يتجاوز طريق التنمية، الذي يربط البصرة ببغداد والموصل، إقليم كردستان العراق بالكامل قبل عبور الحدود التركية. وبحسب المتحدث العراقي باسم العوادي، فإن العوامل الطبوغرافية والاقتصادية هي التي حددت هذا القرار. ومن ناحية أخرى، أكد رئيس وزراء حكومة إقليم كردستان مسرور بارزاني أن أربيل ينبغي “ضمها” وأن “موافقتها” يجب أن تكون مطلوبة لطريق التنمية.
إيران حجر عثرة محتمل
◙ على النقيض من وجهة نظر إيران بأن وجود الولايات المتحدة في العراق يشكل تهديدا مباشرا، لا يبدو أن رغبة أنقرة في نشر نفوذها هناك يشكل قضية ملحة بالنسبة لطهران
كانت إدارة أربيل في وضع ضعيف لأسباب سياسية وأمنية واقتصادية منذ استفتاء عام 2017، وكانت تقدم تنازلات كبيرة لبغداد. هناك جهة فاعلة أخرى يجب على أنقرة معالجتها، وهي جارة العراق المتورطة بشكل كبير. وعلى النقيض من وجهة نظر إيران بأن وجود الولايات المتحدة في العراق يشكل تهديدا مباشرا، لا يبدو أن رغبة أنقرة في نشر نفوذها من بهدينان إلى الموصل وكركوك والسليمانية تشكل قضية ملحة بالنسبة لطهران.
ومع ذلك، وبما أن إيران ترى في تركيا منافسا إقليميا، فلا بد من اقتناعها بطريق التنمية حتى تنجح أنقرة. وبدلا من ذلك، قد ترفض إيران بالقوة الوجود العسكري والسياسي التركي الأكبر في ممرها الإستراتيجي، الذي يمر عبر الهلال الشيعي الإيراني من السليمانية وكركوك والموصل إلى سوريا، والذي يربط طهران بدمشق وبيروت. وفي هذه الأثناء، تتصاعد التوترات بين تركيا والاتحاد الوطني الكردستاني، ومقره في السليمانية وله علاقات مع إيران، مما يدل على احتمال خروج المشاريع عن مسارها إذا لم تتمكن أنقرة من الحصول على موافقة إيران الضمنية على جهودها.
وتصرّح أنقرة الآن علنا بأنها تعتبر الاتحاد الوطني الكردستاني “تهديدا وطنيا”. ومؤخرا، ادعى تقرير تركي أن حزب العمال الكردستاني حصل على طائرات بدون طيار انتحارية مصنوعة في الصين أو إيران من خلال الاتحاد الوطني الكردستاني. ويشتبه الكثيرون أيضا في أن إيران تدخلت لصالح الاتحاد الوطني الكردستاني وضد الحزب الديمقراطي الكردستاني المدعوم من تركيا خلال السنوات القليلة الماضية من خلال قرارات المحكمة الفيدرالية في بغداد.
ويشير قرار المحكمة الأخير بإلغاء إحدى عشرة حصة للأقليات في برلمان إقليم كردستان العراق في أعقاب دعوى قضائية رفعها الاتحاد الوطني الكردستاني، ومقاطعة الحزب الديمقراطي الكردستاني للانتخابات البرلمانية المقرر إجراؤها في إقليم كردستان العراق في يونيو، إلى أن عدة تحولات تحدث: فالحزب الديمقراطي الكردستاني يفقد قدرته على التأثير ويتمتع الاتحاد الوطني الكردستاني بالأغلبية في البرلمان، ومن المحتمل أن يغير الاتحاد الوطني الكردستاني ميزان القوى ويضغط من أجل منصبي الرئاسة ورئاسة الوزراء، اللذين سيطر عليهما الحزب الديمقراطي الكردستاني باستمرار حتى الآن.
وسوف تؤثر خسارة الحزب الديمقراطي الكردستاني للسلطة في حكومة إقليم كردستان أو انسحابه من الحكومة الفيدرالية في بغداد سلبا على خطط تركيا الإقليمية وتفيد طهران. وقد اعتمدت أنقرة على علاقاتها الودية نسبيا مع الحزب الديمقراطي الكردستاني في عملياتها السابقة داخل إقليم كردستان العراق، وسعت إلى الاستفادة من هذه العلاقة في الساحة السياسية العراقية الأوسع.
وفي حين أن هذه التوترات بين الأكراد وأربيل وبغداد لا ترتبط بشكل واضح بجهود تركيا، إلا أن لها تأثيرا على حسابات أنقرة. ولا تسعى تركيا إلى عزل إيران عن مشروع طريق التنمية المخطط له. وفي الواقع، صرح وزير الخارجية التركي فيدان صراحة بأن بلاده ترغب في إشراك إيران. وتدرك تركيا حقيقة وجود إيران والميليشيات الشيعية المدعومة من إيران في العراق، وخاصة في كركوك والموصل وسنجار، وخاصة منذ استفتاء الاستقلال عام 2017.
علاوة على ذلك، تبدو أنقرة مستعدة للتعاون مع إيران والميليشيات الشيعية المدعومة من إيران على حساب أمنها القومي، وتزويدها باتصال بري مباشر بالحكومة المركزية في العراق وقطع الممر الكردي بين العراق وسوريا. واعتمادا على ما تقدمه أنقرة لبغداد وطهران، وخاصة ما تشعر به إيران بشأن الفوائد، قد يبدو هذا المشروع وكأنه سياسة مربحة للجانبين.
وتم تأجيل زيارة أردوغان إلى بغداد في سبتمبر 2023 بسبب الخلاف بين أنقرة وبغداد حول قضايا المياه وتصدير النفط والأمن. وسواء كان أردوغان سيعيد تأجيل زيارته إلى العراق في أبريل، والنتائج الملموسة للزيارة إذا تمت، فسوف تحدد ما إذا كان كلاهما سينجح.
العرب