كيف نفهم الرد الإيراني؟

كيف نفهم الرد الإيراني؟

كان مساء السبت الماضي مليئاً بالتشويق، فما كادت الأخبار تنقل احتجاز الإيرانيين سفينة شحن إسرائيلية، حتى سمعنا خبرا آخر عن إطلاق إيران عشرات الصواريخ والطائرات المسيرة لضرب أهداف مختارة داخل الكيان، الذي أعلن بدوره جاهزيته لإسقاطها واحتوائها. تأخر وصول الصواريخ والمسيرات وغياب عنصر المفاجأة مكن المضادات الجوية من التصدي للهجوم بنجاح.
تأتي هذه العملية، «الوعد الحق»، التي استدعت اجتماعا أمنيا أمريكيا رفيعا لمناقشتها وحالة من الاستنفار الأمني الإقليمي، بعد مرور أسبوعين على الغارة الإسرائيلية التي استهدفت المباني الدبلوماسية الإيرانية في دمشق. تلك الغارة كانت قد أثارت غضباً إيرانياً كبيراً ظهر في تصريحات وتهديدات، لاسيما بعد تأكد مقتل القائد في فيلق القدس محمد رضا زاهدي.
كانت التساؤلات تتزايد حول ردود الفعل، فيما كانت دول مثل الولايات المتحدة وبريطانيا تحاول الضغط من أجل إثناء إيران عن الرد، على اعتبار أن التصعيد سيؤدي إلى مزيد من الفوضى في المنطقة. في الوقت ذاته كانت الولايات المتحدة، على لسان وزير خارجيتها بلينكن تكرر تأكيدها دعم تل أبيب وتضامنها معها ومع حقها في الدفاع عن نفسها ضد أي اعتداء. لا شك في أن العملية الإسرائيلية كانت تحوي استفزازاً كبيراً، ما كان يزيد الطين بلة، هو أن الكيان بدوره لم يظهر أي ندم ولم يحاول بأي شكل التبرؤ منها، بل على العكس، ظل يعبر عبر مسؤوليه العسكريين عن استعداده للرد داخل إيران، بل إلى التوغل، إن لزم الأمر، في لبنان. كان كل ذلك يجعل طهران في موقف محرج أمام من يرون فيها عاصمة المقاومة، التي كانت، وفق خطاباتها الثورية، تنتظر أي خطأ إسرائيلي من أجل أن ترمي البلد الطارئ في البحر. عملية القنصلية أعادت إلى الأذهان تاريخاً حافلاً بالهجمات ضد المصالح الإيرانية، فقد سبقتها عمليات نوعية استهدف بعضها ميليشيات ومجموعات عسكرية تابعة لإيران في سوريا وفي غيرها، فيما استهدف بعضها الآخر تخريب المشروع النووي نفسه، واغتيال علماء ذوي أهمية مثل فخري زادة. استفزاز إيران وصل حد استهداف الجنرال قاسم سليماني الشخصية العسكرية الرفيعة، التي كان لها دور أساسي في تنسيق وإدارة العمليات الإيرانية الخارجية، والإشراف على الأذرع الموالية. نتذكر أن الرد الإيراني على جميع تلك الهجمات، بما في ذلك اغتيال سليماني، كان أقل من المتوقع، وكان في غالبه محسوباً بدقة وغير مباشر، بمعنى تنفيذ ضربات عبر وكلاء محليين، وبشكل لا يصل مرحلة الإضرار المؤلم، الذي يفتح المجال للدخول في صراع مفتوح. يشبه ذلك بشكل كبير طبيعة الرد الإيراني الأخير، الذي انتهى، بعد سيل من التهديدات، إلى إرسال صواريخ ومسيرات دعائية تحقق الضجيج الكافي، لكنها لا تنجح في إصابة أي هدف.

يبدو‭ ‬للمراقب‭ ‬وكأن‭ ‬جميع‭ ‬الأطراف‭ ‬كانت‭ ‬مقتنعة‭ ‬بأن‭ ‬الدخول‭ ‬في‭ ‬صراع‭ ‬موسع‭ ‬ليس‭ ‬في‭ ‬مصلحة‭ ‬أحد،‭ ‬وأنه‭ ‬قد‭ ‬يحدث‭ ‬تطورات‭ ‬يصعب‭ ‬التنبؤ‭ ‬بمآلاتها‭.‬

نظريتان كانتا تحاولان خلال الأعوام السابقة تفسير تأخر الرد الإيراني أو انعدامه. الأولى كانت تتعلق بمفهوم «الصبر الاستراتيجي»، وملخصها هو أن إيران كانت تصبر وتحتمل الاعتداءات، من دون تسرع في الرد من أجل الحصول على مكاسب لاحقة، أو من أجل تعزيز موقفها في المفاوضات النووية. النظرية الثانية كانت ما يسمى بـ»قواعد الاشتباك»، وملخصها هو أن هناك حدوداً تكاد يكون متفقاً عليها بين الأطراف المختلفة، التي تسعى لعدم تجاوزها بغض النظر عن تطورات الأحداث على الأرض. وفق قواعد الاشتباك هذه يمكن أن يكون مسموحاً بإطلاق يد جماعة الحوثي من أجل تنفيذ هجمات على السفن العابرة، كما يمكن أن يغض العالم الطرف عن الاستهداف الإيراني لأربيل في كردستان العراق، أو حتى لمواقع داخل باكستان، كما حدث بداية هذا العام بذريعة ملاحقة معارضين، لكن تجاوز هذا باستهداف مباشر للمصالح الأمريكية والإسرائيلية هو ما لا يمكن تمريره. الأخطاء وسوء التقدير واردا الحدوث، على غرار ما حدث في نهاية يناير/كانون الثاني الماضي، حينما استهدفت ميليشيا موالية لإيران موقع «برج 22» العسكري الأمريكي، الذي يقع في الأردن قرب الحدود السورية، ما أدى لسقوط ضحايا من بينهم أمريكيون. من المهم تذكر هذه الحادثة، التي كانت موجعة للأمريكيين، لكن التي تم امتصاصها من قبلهم والاكتفاء برد رمزي عبر ضرب مواقع ثانوية الأهمية في سوريا والعراق. تلك الحادثة كانت توضح كيف يتعامل الطرفان، الإيراني من جهة والأمريكي/الإسرائيلي من جهة أخرى، بحساسية مع مسائل الرد العسكري وبطريقة تحفظ التوازن ما بين حفظ ماء الوجه والتحرك العسكري «المتحكم فيه». يبدو للمراقب وكأن جميع الأطراف كانت مقتنعة بأن الدخول في صراع موسع ليس في مصلحة أحد، وأنه قد يحدث تطورات يصعب التنبؤ بمآلاتها.
«الوعد الحق» أرادت أن تستبدل الصورة، التي ظهرت بها إيران مكبلة وعاجزة عن الرد إزاء اعتداء مس سيادتها، بصورة أكثر قوة. إن كان البعض يرون أن إيران ما تزال عاجزة وأن ردها دون المستوى، فإنه يجب تذكر أن الولايات المتحدة نفسها ظهرت بهذا المظهر، حين عجزت عن الثأر لمواطنيها أو عن الدفاع عن مصالحها في البحر الأحمر، ما جعل كثيرين يتساءلون عما إذا كان بالإمكان الوثوق بها لحماية مناطق أخرى كالخليج العربي. في الواقع فإن واشنطن فقدت هيبتها منذ أن عجزت عن أن توقف العملية الإسرائيلية في غزة، كما تأكدت محدودية قدراتها مرة أخرى حين عجزت عن منع الرد الإيراني.
لفهم التعقيدات المرتبطة بمسألة الرد، فإنه من المهم أن نضع في الاعتبار التجاذبات المتعلقة بالانخراط العسكري في الداخل الإيراني، التي تجعل متخذ القرار متنازعا بين وجهتي نظر، إحداها متشددة ترغب في التصعيد وفي المضي في استهداف القواعد العسكرية، وأخرى عقلانية ترى أنه يجب عدم التصرف باندفاع في مثل هذه الأمور، خاصة أن هناك من ينتظر أي خطوة متهورة من أجل توفير الذريعة الكافية لضرب المنشآت النووية الإيرانية. هذه التجاذبات لها ما يماثلها أيضاً في الداخل الإسرائيلي، الذي يناقش اليوم الطريقة المناسبة للرد على ما قامت به إيران. هناك ينقسم الصهاينة إلى متطرفين يدعون إلى المواجهة دون تفكير في العواقب مثل بن غفير ومجموعته اليمينية، وآخرون يرون أن مثل هذه المواجهة المباشرة قد تحمل تهديدا وجودياً وقد تقودهم إلى الهلاك. هل نجحت إيران في حفظ ماء وجهها من خلال هذه العملية الرمزية؟ ربما يختلف الناس في تقييم ذلك، لكن الأكيد هو استفادة حكومة بنيامين نتنياهو من الهجوم، الذي تم تنفيذه دون خسائر مادية أو بشرية تذكر على الجانب الإسرائيلي. في تل أبيب المضطربة والمنقسمة سياسياً سوف ينشغل الرأي العام بالمسألة الأمنية وبالتهديدات الإيرانية عن التظاهرات والمحاولات المستميتة لإسقاط الحكومة، التي، وإن عجزت عن حل الأزمة مع «حماس»، كما يرى معارضوها، إلا أنها نجحت في صد هجوم مباشر وغير مسبوق. خارجياً، سوف يقل الاهتمام بالمأساة الفلسطينية، في حين سيسعى الصهاينة لاستغلال الموقف، والعمل على استعادة الصورة الخادعة للإسرائيلي المتعرض للإرهاب.
هكذا، وبغض النظر عن النوايا، فإن العملية الإيرانية سوف تساعد الكيان، الذي كان شبه معزول أخلاقياً بسبب جرائمه، على استعادة مكانته، كما أنها سوف تساعد الحكومات الشريكة، والتي كانت تتضامن معه على استحياء، على تبرير دعمها له بالمال والسلاح للدفاع عن نفسه.