طغت الحروب في سورية والعراق والاعتداءات الجهادية في الغرب على خطر آخر في الشرق الأوسط: سيقوض احتمال تفاقم العنف بين الفلسطينيين والإسرائيليين تدريجياً إحدى المناطق القليلة المتبقية من الهدوء النسبي بين المغرب وإيران، فضلاً عن واحدة من الحكومات السنية المعتدلة والعلمانية الأخيرة في المنطقة.
تحولت اعتداءات الفلسطينيين ضد الإسرائيليين، التي بدأت في القدس في شهر سبتمبر، إلى حدث متكرر، فقد وقعت خمسة اعتداءات خلال الأيام الأربعة الأولى من ديسمبر، فتعرض 13 إسرائيلياً لإطلاق نار، وطعن، أو صدم عمداً بسيارة، في حين أن ثلاثة من المعتدين الفلسطينيين قتلوا رمياً بالرصاص، كذلك يشير الجيش الإسرائيلي إلى 90 عملية طعن، و33 إطلاق نار، و15 عملية صدم بالسيارة بين 13 سبتمبر و9 ديسمبر، أما وكالة الأسوشيتد بريس، فتؤكد أن ما لا يقل عن 19 إسرائيلياً و112 فلسطينياً قُتلوا، بمن فيهم عرب لقوا حتفهم خلال صدامات مع القوى الأمنية.
لا شك أن نطاق إراقة الدماء المحدود هذا، مقارنة بما تشهده سورية أو حتى مصر، يزداد أهميةً بسبب عواقبه الكبيرة الممكنة، ويعتبر مسؤولون أميركيون بارزون أن الأكثر أهمية بين هذه العواقب إمكان انهيار السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وقواها الأمنية، التي دربتها الولايات المتحدة والتي تعاونت عن كثب مع إسرائيل في تصديها للمجموعات المجاهدة في السنوات الأخيرة. في أسوأ الحالات قد يفتح هذا الدرب أمام “داعش” للانتقال إلى الأراضي الفلسطينية وشن اعتداء مباشر ضد إسرائيل، علماً أن هذا يشكل سيناريو كارثياً بالنسبة إلى الدول السنية في المنطقة، فضلاً عن إسرائيل نفسها.
قد يبدو هذا خطراً مبالغاً فيه، إلا أنه يعكس وجهة نظر وزير الخارجية الأميركي جون كيري، الذي أطلق في الخامس من ديسمبر تحذيراً قاتماً عن انهيار فلسطيني محتمل، فقد أخبر منتدى صبان (مؤتمر أميركي- إسرائيلي سنوي) شاركتُ فيه: “تنشأ أسئلة وجيهة، مثل: كم ستصمد “السلطة الفلسطينية” إن استمر الوضع الراهن؟ لا أحد يستطيع أن يخبرنا ما البديل في عالم يعج بداعش والجهاد وحماس”. لم يشأ كيري سابقاً التخلي عن تفاؤله بشأن احتمالات تسوية الصراع الإسرائيلي الفلسطيني (إلى حد أن النقاد باتوا يعتبرونه واهماً)، لذلك تبدو هذه النبرة القاتمة الجديدة لافتة للنظر، وبالاستناد إلى ما سمعته من مسؤولين أميركيين وإسرائيليين بارزين خلال جلسات المؤتمر غير المخصصة للنشر، تعود هذه النبرة إلى زيارة كيري إلى إسرائيل والسلطة الفلسطينية التي لم تحظَ باهتمام كبير، إلا أنها جاءت مثبطة جداً في أواخر شهر نوفمبر.
لم يكن هدف هذه الرحلة لعب دور الوسيط في إعلان الدولة الفلسطينية، فقد قبل كيري والرئيس أوباما أخيراً أن الرئيس الفلسطيني محمود عباس ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لا يملكان الرغبة أو القدرة لعقد صفقة مماثلة. بدلاً من ذلك تبنت الإدارة موقفاً أكثر تواضعاً وواقعية كان يجب أن يعتمده أوباما منذ سنوات: الضغط لتحقيق تحسينات عملية في اقتصاد الفلسطينيين وحياتهم اليومية، مما يساهم في التخفيف من التوتر ويمهد الطريق أمام إعلان دولة في النهاية.
في الناحية النظرية على الأقل، يشكل هذا برنامجاً تتفق عليه كل الأطراف، فخلال زيارته إلى واشنطن في شهر نوفمبر، أخبر نتنياهو أوباما أن إسرائيل قد تقدّم تنازلات اقتصادية للفلسطينيين، وكان هدف أوباما متابعة هذه المسألة.
لكن نتنياهو لم يقدّم الكثير في تل أبيب، من وجهة نظر الولايات المتحدة على الأقل، ربما تعرض رئيس الوزراء الإسرائيلي لضغوط من الأعضاء المتشددين في حكومته، أو ربما أحجم عن هذه الخطوة، عندما فكر أنه من غير الجائز أن تُرى حكومته وهي تقدم التنازلات رداً على العنف الفلسطيني، وفي مطلق الأحوال لم يحصل المسؤولون الأميركيون على عرض مغرٍ يقدمونه لعباس، عندما توجه كيري لزيارته في رام الله.
أعطى عباس من جهته الوفد الأميركي الانطباع أنه ما عاد يثق بالحلول الدبلوماسية مطلقاً، وهدد عباس طوال سنوات بحل السلطة الفلسطينية وإرغام إسرائيل على الرجوع إلى حكم الضفة الغربية مباشرة، لكن هذا الرئيس الفلسطيني البالغ من العمر 80 سنة، والذي ظل في سدة الرئاسة بعد سنوات من انتهاء عهده، أقنع كيري على ما يبدو أن هذا الاحتمال بات واقعاً.
أثار خطاب كيري استياء المسؤولين الإسرائيليين البارزين الذين يعتقدون أن عباس وكبار مساعديه يعلنون أنهم يعارضون العنف المتواصل، إلا أنهم في الواقع يبذلون قصارى جهدهم لتأجيجه، ففي اليوم عينه الذي أدلى فيه كيري بخطابه في فندق ويلوارد في واشنطن، اتصل كبير المفاوضين الدبلوماسيين الفلسطينيين صائب عريقات بعائلة رجل الشرطة في السلطة الفلسطينية، الذي أطلق النار على إسرائيليَّين قبل أن يُردى قتيلاً، ليقدم لها واجب العزاء.
من المبرر، إذاً، أن يعتقد الإسرائيليون أن كيري وأوباما يطلبون من حكومة نتنياهو التنازلات ومن الفلسطينيين القليل، مع أن الجزء الأكبر من أعمال العنف أطلقها معتدون فلسطينيون. رغم ذلك لم يكن البيت الأبيض الوحيد الذي استاء من رفص نتنياهو التحرك، فقد تحدث ستيفن هادلي، مستشار جورج بوش الابن السابق لشؤون الأمن القومي، عن الحاجة إلى تدابير إسرائيلية عملية في الضفة الغربية، وعند لفت نظره إلى أن نتنياهو وعد غالباً بخطوات مماثلة، جاء حكمه قاسياً.
جاكسون ديهل
*«واشنطن بوست»
نقلا عن الجريدة الكويتية