بعد مُضي قرابة خمسة أعوام على الصراع السوري الدامي، لم تعد الحرب في هذا البلد تُلقي بظلالها فقط على منطقة الشرق الأوسط، بل امتد أثرها ليشمل باقي أنحاء العالم، حيث أدت إلى وقوع مجموعة من الهجمات الإرهابية في عدد من عواصم العالم مثل باريس. وقد أثارت هذه الهجمات العديد من المخاوف الأمنية التي باتت تهدد الكيان الأوروبي من ناحية، ووضعت أزمة اللاجئين السوريين الاتحاد الأوروبي أمام اختبار حقيقي لمدى تماسك كيانه من ناحية أخرى.
في هذا السياق، أعد كل من “جوليان بارنس- داسي” Julien Barnes-Dacey – وهو زميل بارز بالمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، و”دانيال ليفي” Daniel Levy – مدير برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بالمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، دراسة تحت عنوان: “تجديد الدبلوماسية السورية.. من فيينا إلى الرقة”، حيث تركز الدراسة على طبيعة الدور الأوروبي في الأزمة السورية في ظل وجود معطيات جديدة كالتدخل العسكري الروسي، وانطلاق مؤتمر فيينا في منتصف نوفمبر 2015.
وفي هذا الإطار، تنقسم الدراسة إلى عدة أجزاء رئيسية، بدايةً من توضيح العوامل التي أدت إلى إعادة تجديد الحل الدبلوماسي للأزمة السورية، مروراً بعرض تطورات مؤتمر فيينا والعقبات التي تعيق تنفيذ توصياته على أرض الواقع، ثم تحديد السيناريوهات المحتملة للأزمة السورية، وتختتم الدراسة بطرح مجموعة من التوصيات للأوروبيين للتعامل مع الأطراف الفاعلة في هذه الأزمة.
أسباب إعادة تجديد الحل الدبلوماسي
يشير الكاتبان إلى أربعة عوامل أدت إلى إعادة طرح الحل الدبلوماسي للأزمة السورية، وهي:
1- التدخل العسكري الروسي:
يعد التدخل العسكري الروسي بمثابة تغير محوري في مسار الصراع السوري، فمن ناحية أكد على ثبات نظام “بشار” الأسد وعدم إمكانية هزيمته عسكرياً، ومن ناحية أخرى فتح آفاقاً جديدة لإمكانية التوصل إلى حل سياسي. غير أن البعض يخشى من أن روسيا قد تُؤّمن موقفاً قوياً للنظام السوري، ما يؤدي إلى تحول المفاوضات إلى مجموعة من الإملاءات.
وتنصح الدراسة الولايات المتحدة والدول الأوروبية بعدم النظر إلى التدخل الروسي على أنه فرصة للإيقاع بها فى مستنقع عسكري، ولكن كفرصة لفتح حوار سياسي جديد.
2- الخوف من انتشار الصراع:
جاءت هذة الانفراجة السياسية مع روسيا متزامنة مع زيادة قلق القادة الغربيين من انتشار الصراع السوري، والتشكيك في فعالية الاستراتيجيات المتبعة في هذه الأزمة؛ ففي خلال الستة أشهر الماضية أصبح ثمة إجماع على أن الإطاحة بنظام “الأسد” لا يجب أن يقابلها انتصار التنظيمات المتطرفة مثل “داعش” و”جبهة النصرة”، ما أدى إلى مراجعة بعض الدول الغربية اشتراطها رحيل “الأسد” لبداية المفاوضات السياسية.
3- أزمة اللاجئين السوريين:
أدت هجمات باريس إلى إعادة النظر في أزمة اللاجئين السوريين الوافدين إلى أوروبا، والذين كان عددهم (218.394 شخص) في شهر أكتوبر 2015 فقط مُساوياً لإجمالي عدد اللاجئين على مدار عام 2014 بأكمله. ومع تنامي الشعور بالإسلاموفوبيا وتهديد الحدود الأوروبية، أصبح التركيز مُنصباً على الأسباب السياسية لأزمة اللاجئين، وهي الصراع السوري في حد ذاته.
4- إبرام الاتفاق النووي الإيراني:
أدى الاتفاق النووي إلى تنامي الدور الإيراني في العديد من القضايا، وانفتاح طهران الدبلوماسي على عدد من الدول الغربية، خاصةً الأوروبية. وترتب على ذلك مشاركتها في “المجموعة الدولية لدعم سوريا” (ISSG) التي تم الإعلان عنها بالتزامن مع محادثات فيينا، نظراً لدور طهران المحوري في الأزمة السورية.
التحديات التي تواجه محادثات فيينا
في أعقاب انعقاد جلستين للمجموعة الدولية لدعم سوريا، رصدت الدراسة عدداً من النجاحات التي تم التوصل إليها مثل: (وقف إطلاق النار، والسماح بدخول المساعدات الإنسانية، وبدء المحادثات بين الحكومة والمعارضة في يناير القادم، وتشكيل حكومة جديدة غير طائفية خلال ستة أشهر، وعقد انتخابات جديدة تحت إشراف الأمم المتحدة بعد 18 شهراً).
ومع ذلك، ثمة مجموعة من التحديات – من وجهة نظر الدراسة – يتعين أن يكون هناك إدراكاً كاملا بها حتى يتم الدفع بمحادثات فيينا إلى الأمام، وتتمثل هذه التحديات في الآتي:
1- معضلة “بشار الأسد”:
تكمن أهمية نظام “بشار الأسد” فيما يمثله من قيمة رمزية لتماسك الدولة. وبينما بدأت معظم الدول الغربية انتهاج سلوك أكثر براجماتية في التعامل مع الأزمة السورية، بيد أنها مازالت تتحدث عن رحيل “الأسد” كشرط ضروري لنهاية الصراع. أما بالنسبة للداعمين الداخليين والخارجيين للنظام السوري الحالي، فإنهم يعتبرونه همزة الوصل الوحيدة بين مختلف مصالحهم.
وعلى صعيد آخر، تتلمس بعض الأطراف الغربية والإقليمية بعض الليونة في الموقف الروسي، حيث أبدت الأخيرة استعدادها للتفاوض بشأن سيناريو ما بعد “الأسد”، إلا أن هذا الوضع قد يؤدي إلى اختلاف الرؤى بين النظامين الروسي والإيراني على المدى الطويل بشأن مستقبل سوريا.
2- معضلة المعارضة:
يشير الكاتبان إلى أنه ليس ثمة اتفاق حول أي من الجماعات السورية المعارضة يتمتع بالشرعية، بالإضافة إلى أن النظام السوري والداعمين له يرفضون الحوار مع جانب كبير من تلك الجماعات باعتبارها إرهابية. علاوة على أن الانقسامات في صفوف المعارضة أدت إلى صعوبة إيجاد بديل لـ”بشار الأسد”.
كما أن الجماعات المصنفة بأنها غير إرهابية تتبنى أيديولوجية سلفية متطرفة، وهو ما لا يتوافق مع الرؤية الغربية للمستقبل السوري؛ ومن ثم، باتت المعضلة تتمثل في كيفية الموازنة بين ضرورة رحيل نظام “الأسد”، وبين الحيلولة دون سيطرة التنظيمات المتطرفة على الحكم في سوريا.
3- معضلة الحرب الإقليمية:
ترى الدراسة أن سوريا ليست سوى حلقة في دائرة الصراع الإقليمي بين السعودية وإيران. لذلك، فإن إبرام الاتفاق النووي الإيراني أدى إلى زيادة المخاوف السعودية من أن تتجه إيران إلى تدعيم موقفها إقليمياً.
وعلى الرغم من وجود مجموعة من التكهنات بأن السعودية قد تقبل بالتخلي عن موقفها في سوريا مقابل دعم موقفها في اليمن، غير أنه ليس ثمة أي دليل ملموس على ذلك، وماتزال الرياض ترى أنها تستطيع أن تستنزف طهران في سوريا.
4- معضلة الانفصال عن الواقع:
يبدو أن القوات المتواجدة على الأرض هي التي تقوم برسم السياسيات وتحديد المسار بشكل أكثر تأثيراً من “المجموعة الدولية لدعم سوريا”، فمازالت الأطراف الخارجية تقوم بدعم حلفاءها على أرض المعركة من أجل تقوية موقفها التفاوضي. وعلى الرغم من التعاون الجديد بين الولايات المتحدة وروسيا، والانفتاح بين السعودية وإيران، بيد أن ذلك لا يعكس ما يحدث على أرض الواقع. وبالتالي، لن تنجح الأطراف السورية في التوصل إلى اتفاق مقبول ومُلزم إلا إذا كفت القوى الخارجية عن دعم الأطراف الداخلية في الصراع، وهو ما يجب أن يعمل عليه الأوروبيون.
السيناريوهات المحتملة
إذا كان التدخل العسكري الروسي هو المتغير الرئيسي في الصراع السوري، فإن السيناريوهات الثلاث القادمة تقوم على فرضية أن التدخل الروسي يقوم بحماية وتقوية النظام الحالي، وإعادة الأراضي التي تم السيطرة عليها من قِبل فصائل المعارضة، وذلك كالتالي:
1- التحول الحاسم لصالح النظام السوري:
بمعنى أن تقوم روسيا بتحويل الزخم العسكري الداخلي لصالح نظام “بشار الأسد”، وذلك بدحر جيوش المعارضة في إدلب، واستعادة حلب. وبهذه الطريقة – وحتى إذا تمكنت بعض فصائل المعارضة من النجاة في الجنوب – سيكون النظام الحالي قادراً على فرض شروطه السياسية، والتمتع بقوة لم تسبق له منذ اندلاع الصراع.
2- تأمين سيطرة النظام على قلب سوريا:
في هذه الحالة سيكون النجاح الروسي محدوداً، ولكنه يبقى مؤثراً، حيث سيتم تأمين سيطرة النظام السوري على أهم المدن من دمشق إلى حمص وحماة والمدن الساحلية، باستثناء حلب. وبذلك سيستطيع نظام “بشار الأسد” فرض سيطرته على المفاوضات السياسية. وفي المقابل، ستبقى بعض فصائل المعارضة قوية في الجنوب والشمال الغربي، وستكسب المزيد من القوة على المدى الطويل في حالة استمرار الدعم الخارجي لها.
3- الوصول إلى طريق مسدود:
يقصد بذلك أن تبقى ديناميكيات الصراع على صورتها الحالية. وقد يكون ذلك ببقاء الوضع كما هو عليه أو بتصعيد حدة الصراع دون نجاح أي من الأطراف في فرض سيطرته على الآخر، واعتقاد كل طرف في قدرته على تحقيق نجاح على الآخر،
ومن ثم، ترى الدراسة أنه في حالة السيناريو الأول قد يحدث تغييراً في خريطة توازن الفاعلين في الأزمة السورية، بحيث يمكن عن طريقها تفادي الوصول إلى طريق مسدود. أما في حالة السيناريو الثاني، فإنه سيساعد على ترسيم الحدود بين قوى المعارضة والنظام السوري، ورسم مخرجات العملية السياسيةـ فيما سيؤدي السيناريو الثالث إلى تفاقم الصراع في سوريا، وإعاقة العملية السياسية.
ما بعد مؤتمر فيينا (توصيات)
يهدف مؤتمر فيينا إلى تحقيق هدفين رئيسيين، أولهما التوصل إلى نتائج ملموسة على أرض الواقع عن طريق تخفيف حدة الصراع، ووقف إطلاق النار، والسماح بدخول المساعدات الإنسانية، والترسيم التدريجي للأماكن التي يمكن تفادي النزاعات بها. وثانيهما رسم خطة سياسية طويلة المدى تُحقق مصالح لجميع الأطراف لدفعهم نحو الالتزام بها، في محاولة لتقليل فجوة الاختلافات بين الأطراف المختلفة.
وتؤكد الدراسة على أنه مازال بإمكان أوروبا أن تلعب دوراً فعَّالاً في الأزمة السورية من أجل الحفاظ على مصالحها. ويستوجب ذلك أن يكون للأوروبيين دوراً مؤثراً وفعَّالاً في العديد من المحاور، كالآتي:
1- في مجلس الأمن الدولي: يجب على أوروبا أن تستمر في دعم خطة مبعوث الأمم المتحدة في سوريا، وأن تدفع كل من فرنسا وبريطانيا في اتجاه البناء على ما تم التوصل إليه في قرار مجلس الأمن رقم 2249، وهو القرار الذي يدعو الدول الأعضاء إلى القيام بكل ما في وسعها لمضاعفة وتنسيق جهودها لمنع وقمع الأعمال الإرهابية التي يرتكبها على وجه التحديد تنظيم “داعش” و”جبهة النصرة” والكيانات المرتبطة بتنظيم “القاعدة”، فضلاً عن تكثيف الجهود لوقف تدفق المقاتلين الإرهابيين الأجانب إلى العراق وسوريا، ومنع تمويل الإرهاب.
2- بالنسبة للولايات المتحدة وروسيا: استناداً إلى زيارة الرئيس الفرنسي “فرانسوا هولاند” لكل من واشنطن وموسكو، يجب على الأوروبين الضغط عليهما للسماح بوصول المساعدات الإنسانية لسوريا، وتفادي تحولها إلى ساحة صراع بين روسيا والولايات المتحدة.
3- مع إيران: يجب الاستفادة من الانفتاح الأوروبي في العلاقات مع إيران عقب إبرام الإتفاق النووي، مع الـتأكيد على أن التطبيع الكامل لن يتم إلا في حالة لعب طهران دور إيجابي لإنهاء الصراع في سوريا، والتفهم الكامل لهدف إيران من التواجد في سوريا، وتفادي حدوث خلافات بين الولايات المتحدة وأوروبا، وبين دول الخليج وإيران.
4- المملكة العربية السعودية: يجب أن تستفيد أوروبا من اتجاه الرياض إلى لعب دور إيجابي بموافقتها على الجلوس على طاولة المفاوضات مع إيران، وتنظيم تمثيل المعارضة في المحادثات السياسية السورية. وليس ثمة حرج على أوروبا – خاصةً فرنسا وبريطانيا – في تدعيم الموقف السعودي باليمن إذا كان ذلك سيؤدي إلى مزيد من النتائج الإيجابية في سوريا.
5- تركيا: على أوروبا أن تحاول إقناع أنقرة بتبني حل سياسي في سوريا، مع وقف إطلاق النار، واتخاذ سلوك أقل عدائية في تعاملها مع روسيا.
6- المجموعة الدولية للدفاع عن سوريا: يجب على أوروبا أن تسعى لإقامة تكتل من الداعمين لفكرة التقليل من حدة الصراع؛ مثل الصين التي تتمتع بمقعد دائم في مجلس الأمن، بالإضافة إلى ضرورة التوجه إلى الدول الإقليمية التي تدفع ثمناً باهظاً نتيجة للصراع السوري، وفي مقدمتها الأردن ولبنان ومصر.
الخلاصة، يرى الكاتبان أنه على الرغم من ضرورة عدم تخلي الأوروبيين عن هدفهم لإزاحة “الأسد” عن الحكم في سوريا، إلا أنهم يجب أن يكونوا أكثر مرونة في قبول تواجده بالسلطة طالما سيؤدي ذلك إلى تقليل العنف. كما أن تهدئة الصراع السوري سيؤدي إلى مزيد من تركيز الفاعلين المحليين والإقليميين والدوليين على محاربة تنظيم “داعش”.
Julian Barnes-Dacey and Daniel Levy
باحثان في “المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية”
إعداد: ناهد شعلان
نقلا عن مركز المستقبل للابحاث والدراسات المتقدمة
* عرض مُوجز لدراسة: “تجديد الدبلوماسية السورية.. من فيينا إلى الرقة”، والصادرة عن المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، نوفمبر 2015.
المصدر:
Julian Barnes-Dacey and Daniel Levy, “Syrian Diplomacy Renewed: From Vienna to Raqqa”, (London: European Council on Foreign Relations, November 2015).