كان الدكتور هنري كيسنجر يقول بين السخرية والجد إنه “إذا كانت عداوة أميركا كارثية فإن صداقتها مميتة”. لكن ذلك لم يكن حائلاً دون تمتع أميركا بتحالفات واسعة، ولا منع دول كثيرة من الحرص على صداقة أميركا والبحث عنها إن غابت، ولا منع دول كثيرة أيضاً من خيار العداء معها. فلا أحد يستطيع أن يتصور شكل العالم في القرن الـ 20 لو لم تقرر الولايات المتحدة خوض الحربين العالميتين الأولى والثانية وقيادة الحرب الباردة ضمن استراتيجية “الاحتواء”، وليس من السهل على وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الذي دعا في مؤتمر ميونيخ للأمن إلى “عالم ما بعد الغرب” أن يرسم صورة هذا العالم الذي تسعى موسكو لترتيب نظام عالمي جديد له تلعب فيه دوراً كبيراً، إذ لولا التنافس مع أميركا لكان من الصعب تصور “شراكة بلا حدود” بين روسيا والصين بعد تاريخ من الصراعات بينهما، ولا سيما أيام حكم الحزب الشيوعي للبلدين بزعامة جوزيف ستالين في موسكو وماو تسي تونغ في بكين، إلى حد تفاهم الصين وأميركا أيام ماو وريتشارد نيكسون.
وليس قليلاً عدد الظواهر والتحولات اللافتة التي تكشفت منذ عملية “طوفان الأقصى”، وحرب غزة، ثم الهجوم الإيراني المباشر بالصواريخ والمسيرات على إسرائيل رداً على قصف الطيران الإسرائيلي للقنصلية الإيرانية في دمشق وقتل قائدين كبيرين ومساعديهما في “فيلق القدس” التابع للحرس الثوري الإيراني، لكن اللافت أكثر، بعد سنوات من خفض الالتزامات الأميركية في الشرق الأوسط للتركيز على الشرق الأقصى، هو كون أميركا الوحيدة بين القوى الكبرى التي بدت متحركة وفاعلة في الكواليس والمتاريس، والسبب البارز، بالطبع، هو أن مصير إسرائيل كان على المحك، تماماً كما كان مصير أوكرانيا هو ما دفع أميركا إلى قيادة الغرب في مواجهة موسكو. وحين كان مصير سوريا على المحك خلال الحرب، فإن روسيا لعبت الدور الحاسم عبر التدخل عسكرياً بقوة لحماية النظام، ولكن بعدما تراجع الرئيس باراك أوباما عن الدور العسكري الذي التزمه. وإذا كان من الصعب تصور مصير سوريا لولا الدور الروسي، فإن الأصعب تصور الشرق الأوسط من دون الدور الأميركي، وسط صراع شديد بين إسرائيل وإيران وتركيا على العالم العربي.
لكن مشكلة أميركا أنها “قوة عظمى أحبت أم لا” بحسب روبرت كاغان، و”قوة عظمى شكّاكة بنفسها، ولا تستطيع التخلي عن العالم الذي صنعته” كما يقول فريد زكريا. و”قوة عظمى مختلة الوظيفة” بحسب وزير الدفاع ومدير الاستخبارات المركزية سابقاً روبرت غيتس، ومن هنا “تحدث كثيرون عن تصورات ما بعد أميركا، ما بعد الغرب، وما بعد الليبرالية، غير أن الولايات المتحدة ستبقى “مركز النظام العالمي” بحسب جون إيكنبري أستاذ القضايا السياسية والعالمية في جامعة “برينستون”. وإذا كانت دول شرق آسيا تفضل “الطريق الثالث” والحرص على الصداقة مع أميركا والصين، كما يقول كيشور محبوباتي فإن إيكنبري يسجل وجود “شراكات أميركية مع 60 دولة”، ويرى أن دولاً في آسيا “تخشى أن تهجرها أميركا أكثر من أن تسيطر عليها”.
وهذا عملياً ما يدور النقاش حوله في الشرق الأوسط، فأميركا كثيرة الشروط على حلفائها، سريعة الانتقال من موقف إلى عكسه، واسعة المصالح في العالم، التعامل معها صعب، والاعتماد عليها رهان على سمك في بحر يقود أحياناً إلى خيبة أمل، تبيع وتشتري بسهولة، تحرص على إرضاء خصومها أحياناً على حساب أصدقائها. والمختصر المفيد هو المعادلة التي عبّر عنها مدير الاستخبارات المركزية الدبلوماسية المخضرم وليم بيرنز بالقول “أميركا ليست مسؤولة عن حل أي مشكلة من مشكلات الشرق الأوسط، ولكن لا مشكلة يمكن حلها من دون دور أميركي”.
عالم ما بعد أميركا؟ فوضى أسوأ من نظام عالمي سيئ، ولا قوة تستطيع أو تريد تحمل الأكلاف والالتزامات الأميركية في الدور العالمي، لا روسيا، ولا الصين، ولا أوروبا، ولا أي مجموعة دول.