يشكّل بقاء النظام العربي على الهامش في المنازلة المحتدمة بين إسرائيل وإيران على أراضي عربية نقطة ضعف تهدد الأمن القومي العربي. تعربد وتغتال إسرائيل قيادي الحرس الثوري الإيراني في حرب الظل منذ سنوات. وتعتدي على لبنان يومياً، ومع اندلاع طوفان الأقصى وحرب إبادة إسرائيل على غزة في شهرها السابع، طال القصف المتبادل المقاومة العراقية، والحوثيين في اليمن.
يبقى الطرف العربي ـ الأضعف تجاه المشاريع الإقليمية: الطرف الإسرائيلي التوسعي مدعوماً برؤية ترامب وبايدن بدمج إسرائيل في الوسط العربي. والطرف الإيراني بمشروعه التوسعي الطائفي على حساب الأمن القومي العربي. تفاخر إيران منذ عقد، بعد توقيع الاتفاق النووي وتجميد برنامجها النووي في عهد الرئيس أوباما عام 2015، بنجاحها بالسيطرة على أربع عواصم عربية ـ بغداد ـ دمشق ـ بيروت وصنعاء. بينما للأسف يستمر غياب مشروع عربي يجمع ويوازن ويردع. بل يستمر التعويل على أمن مستورد توفره الولايات المتحدة منذ تحرير دولة الكويت بقواعد عسكرية دائمة تستضيف حوالي 40 ألف عسكري أمريكي من الكويت إلى مسقط وفي سوريا والعراق وتركيا.
لكن علينا استيعاب تبدل أهداف وأولويات، وتراجع مكانة منطقتنا لدى الولايات المتحدة في أمن الطاقة (نفط وغاز). وتشبّع وإنهاك حروب الشرق الأوسط «الدائمة» كما يصفها الرئيس السابق ترامب لدى المسؤولين والأمريكيين. وتقدم أولوية احتواء صعود وتحديات الصين، ومواجهة تهديدات روسيا وتدخلاتها في أوكرانيا وتهديد الأمن الأوروبي. وتشكيل الصين وروسيا تحالفا طموحا. وتقدم علاقاتهما مع دولنا على حساب أمريكا، بتوقيع اتفاقيات أمنية وتجارية. أصبحت الصين الشريك التجاري الأول مع جميع دول مجلس التعاون الخليجي وإيران. ونجحت وساطة الصين بين السعودية وإيران بإنهاء الحرب الباردة وقطع العلاقات الدبلوماسية لسبع سنوات عجاف. ما شكل اختراقا كبيرا في معقل نفوذ واشنطن. لكن النتائج تبقى محدودة بعد مضي عام!
يتعمق مأزق غياب المشروع العربي اليوم، بتحول حرب الوكالة والظل بين إسرائيل وإيران إلى حرب بالأصالة، بتجاوز نتنياهو الخطوط الحمراء، بقصف قنصلية إيران في دمشق مطلع الشهر ـ واغتيال القيادي في الحرس الثوري العميد محمد رضا زاهدي ونائبه وسبعة ضباط في الحرس الثوري الإيراني، في أقوى ضربة ضد الحرس الثوري منذ اغتيال الرئيس ترامب قاسم سليماني قائد فيلق القدس في بغداد في يناير 2020.
نفذت إيران وعيدها بالرد، بعد أسبوعين من اعتداء إسرائيل على قنصليتها في سوريا، لحفظ ماء الوجه ورد الاعتبار أمام شعبها وأذرعها ووكلائها بما يسمونه «محور المقاومة» ـ باستعراض عسكري محدود دون خسائر، بشن 330 مسيرة انتحارية وصواريخ باليستية وصواريخ مجنحة من داخل إيران ـ وتم استهداف إسرائيل للمرة الأولى في تاريخ الاحتلال الإسرائيلي! صدت القوات الأمريكية والفرنسية والبريطانية والأردنية 84٪ منها. واعترف مدير الاستخبارات المركزية (CIA) ـ وليم بيرنز ـ في خطاب الأسبوع الماضي بمشاركة القوات الأمريكية وقوات حليفة ومن المنطقة بالتصدي للمسيرات والصواريخ الإيرانية، وأشاد بالتكنولوجيا الإسرائيلية!
لم يعد ترفاً تخطيط العرب جماعيا واستراتيجيا لبلورة مشروع عربي جماعي شامل بنواة خليجية يتصدى ويوازن ويردع مشاريع إسرائيل وإيران وغيرهما ويحمي الأمن القومي العربي
ردت إسرائيل كما كان متوقعاً فجر 19 أبريل بقصف موقع عسكري بمسيرات صغيرة ـ وصفه وزير الأمن الوطني الإسرائيلي بالرد الضعيف والمحدود (المسخرة). ولا يدفع للتصعيد وجر المنطقة لحرب إقليمية. كما كان الرد الانتقامي الإيراني قبل أسبوع!
وسط تلك التطورات المتسارعة، يتعقد المشهد الإقليمي ويتعمق معه فشل استراتيجية إدارة الرئيس بايدن في الشرق الأوسط، لفشله بتحقيق أي من أهدافه الاستراتيجية بتحقيق الاختراق الأكبر بالتطبيع وإقامة علاقات دبلوماسية بين السعودية وإسرائيل منذ اتفاق كامب ديفيد بين إسرائيل ومصر في عهد الرئيس كارتر والرئيس السادات وبيغن عام 1979. وبقي شعار الدولتين ينسفه نتنياهو وحكومته الأكثر تطرفاً. ووصل الأمر لشن الكونغرس حملة ضد الوسيط القطري!
شكل طوفان الأقصى وحرب غزة في 7 أكتوبر 2023 نقطة فاصلة في الصراع العربي ـ الإسرائيلي ـ بقلب الموازين وتغيير المعطيات وإسقاط المسلمات وتدشن لواقع جديد: أن إسرائيل ليست ذلك المارد العملاق الذي لا يُقهر. ولم ينجح بايدن بالبناء على الاتفاق الإبراهيمي ـ دشنه الرئيس ترامب وفريقه اليهودي كوشنر وغرينبلات وفريدمان ـ بذريعة دعم القضية الفلسطينية ومنع تمدد المستوطنات وسرقة أراضي فلسطينيي الضفة الغربية. فثبت أن ذلك سراب، بل زاد القضم وسرقة الأراضي والتنكيل، وفشل توسع هلال التطبيع مع إسرائيل منذ انضمام الإمارات والبحرين والسودان والمغرب لركب الدول العربية المطبعة لتتوقف عند ست دول من 22 دولة. بينما النصف الآخر من الدول العربية يتواصل بالعلن والسر.
في ظل ذلك تسعى إدارة بايدن لتشكيل تحالف من الحلفاء العرب «السنة» كما تصفهم مع إسرائيل للتصدي لتهديدات إيران بعد فشل «مبادرة ميسا» للرئيس ترامب قبل سنوات-بتحالف دول مجلس التعاون الخليجي ومصر والأردن(6+2) لمواجهة الجماعات الإرهابية وإيران. واليوم مع التطبيع ـ تسعى إدارة بايدن لإحياء التحالف الأمني. تجلى بالتنسيق الصاروخي. بتصدي القوات الأمريكية والبريطانية والفرنسية والأردنية وبالتنسيق مع حلفاء إقليميين آخرين كما أكد مدير وكالة الاستخبارات وموقع إلكتروني أمريكي!
لكن ليس من مصلحتنا في الدول الخليجية الانضمام والاصطفاف والتنسيق في جبهة أمريكية ـ خليجية ـ عربية ـ سنية ـ إسرائيلية كما تصفها وتروج لها إدارة بايدن والإعلام الأمريكي والإسرائيلي، وذلك لأن أمريكا منذ إدارة أوباما المتردد، وترامب المقاول صاحب الصفقات، وبايدن المتخبط المنكفئ، خفضت مكانة الأهمية الاستراتيجية لمنطقة الخليج العربي.
قبل عقد سعى أوباما للاستدارة الفاشلة نحو آسيا للتصدي لتحدي الصين على جميع المحاور، واحتواء تمدد وبلطجة روسيا في أوكرانيا وتهديد الأمن الأوروبي. وتفتقد أوروبا القيادة والقرار. وإسرائيل مأزومة ومنبوذة وتزداد عزلة بجرائم حرب إبادتها على غزة لمئتي يوم. والتقارب معها يعني التواطؤ والشراكة والعمالة. خاصة بعد انكسار عقيدتها بفشلها بتحقيق أهدافها وإنهاء حربها بسرعة!
لم يعد ترفاً تخطيط العرب جماعيا واستراتيجيا لبلورة مشروع عربي جماعي شامل بنواة خليجية يتصدى ويوازن ويردع مشاريع إسرائيل وإيران وغيرهما ويحمي الأمن القومي العربي!