قصة تحول عقود الصداقة بين إيران وإسرائيل إلى “العداء المطلق”

قصة تحول عقود الصداقة بين إيران وإسرائيل إلى “العداء المطلق”

لم يكن تاريخ الـ19 من فبراير (شباط) 1979، تاريخاً عابراً في مسار العلاقات الإيرانية الإسرائيلية، فإغلاق سفارة تل أبيب في طهران، وتسليمها بكل محتوياتها لمنظمة التحرير الفلسطينية وحركة “فتح”، بعد أسبوع واحد من إعلان “انتصار الثورة الإسلامية” في البلاد، مثَّل نقطة فاصلة في مسيرة العلاقات بين البلدين، التي كانت فيها طهران ثاني عاصمة إسلامية تعترف بالدولة العبرية في وقت مبكر من نشأتها، في عام 1950، ومن بين الدول الأوائل في العالم التي اعترفت بشرعية وجودها.

كيف تحولت العلاقة بين إسرائيل وإيران على مدار عشرات السنين من تحالف قوي إلى عداء علني، وهل توقف التعاون بين البلدين بعد قيام “الثورة الإيرانية” في عام 1979 وإحلال نظام الشاه بنظام “الولي الفقيه”؟ تحاول “اندبندنت عربية” الإجابة عن تلك الأسئلة من خلال التقليب في الكتابات التاريخية والوثائق المؤرشفة، لاستيضاح طبيعة وخلفيات ذلك التعاون بين الدولتين وأسباب تحوله، من “حليفين” حتى قيام الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، التي أتت بنظام استخدم معارضة إسرائيل كجزء من “أيديولوجيته المعلنة”، مروراً بارتكان العداء إلى “الشكل الخطابي” في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، مع استمرار بعض التعاون العسكري والأمني، ووصولاً إلى حد “العداوة المعلنة” واحتمالات المواجهة المباشرة بين البلدين في الوقت الراهن.

خلفيات تاريخية ودينية

لم يكن التعاون بين إيران بحدودها الجغرافية الحالية وإسرائيل، وليد إعلان تأسيس الدولة العبرية في أربعينيات القرن الماضي، بل امتدت الروابط بين الفرس واليهود، على مدى قرون طويلة في العصور القديمة، لا سيما مع تقدير كثير من المؤرخين والكتاب، أن إيران بشكلها الحالي بقيت تحتل المرتبة الثانية في تعداد اليهود بالشرق الأوسط.

وتستشهد عدد من المصادر التاريخية على تلك العلاقات الوثيقة التي ربطت الفرس باليهود، أكثر من 27 قرناً من الزمان، بشن القائد العسكري “قورش الكبير” (مؤسس الإمبراطورية الفارسية) حملة عسكرية للسيطرة على مدينة بابل عام 528 قبل الميلاد وإطلاق سراح اليهود، الذين تم أسرهم على يد “نبوخذ نصر” (ثاني ملوك الإمبراطورية البابلية، وأحد أقوى ملوكها الذين حكموا بابل وبلاد الرافدين) عام 627 قبل الميلاد، وهو الأمر الذي قاد لاحقاً إلى سيطرة الإمبراطورية الفارسية على كل الأراضي التابعة للدولة البابلية بمساعدة اليهود.

في كتابها “يهود وإيرانيون: الجالية اليهودية – الفارسية منذ الثورة في إيران وإسرائيل”، تقول الكاتبة إستر باريزي، “ترجع إقامة اليهود تاريخياً في إيران إلى أكثر من 27 قرناً، أي بعد القائد العسكري قورش الكبير، مؤسس الإمبراطورية الفارسية، وسيطرته على مدينة بابل عام 528 قبل الميلاد، وإطلاقه سراح اليهود”، موضحة أن “أصول الجالية اليهودية التي تعيش الآن في إيران تعود إلى هذه الفئة من اليهود، ثم جاء بعد ذلك القائد داريوس الأول (468-521)، لينتهج سياسة حماية الأقليات الدينية، ويطور من وضعها الاقتصادي والسياسي بشكل ملحوظ. وبدأ بعد ذلك يهود أوروبا بالتواصل مع يهود الشرق الأوسط، ومن ثم مع يهود إيران الذين تحسنت أوضاعهم أكثر، وبدأوا يحصلون على كثير من الحقوق، خصوصاً في ظل حكم أسرة قاجار التي حكمت بلاد فارس منذ 1779 حتى 1925”.

وبحسب مصادر إسرائيلية، فإن “حادثة قورش الكبيرة، لا تزال تترك تأثيرها على اليهود حتى في إسرائيل، نتيجة سياسته معهم ومساعدته لهم، إذ أرجعهم بعد السبي وأعطاهم الأموال لتجديد بناء الهيكل بعد تخريبه”، مشيرة إلى أن عديداً من شوارع المدن الإسرائيلية تحمل اسمه حتى الوقت الراهن.

ومع ذلك التاريخ الطويل بين الفرس واليهود، الذي استمر في التحسن حتى مع حكم الشاه محمد رضا بهلوي (1925-1979) “حيث دمج اليهود في القومية الإيرانية، وجعل منهم مواطنين كاملين، يتمتعون بالهوية الإيرانية التي تسمح بدمج الأقليات الدينية، الأمر الذي ترتب عليه تحسن الوضع الاقتصادي كثيراً ليهود المدن الكبرى، على خلفية استفادتهم من الأوضاع المميزة التي يتمتعون بها، بل وصل الأمر إلى أن بعض الشخصيات اليهودية كانت مقربة من دوائر السلطة”، بحسب باريزي، التي أشارت كذلك، إلى محطة “إقامة الدولة العبرية” في عام 1948، قائلة إنها “كان لها أثر واضح على موجات الهجرة الكبيرة للجاليات اليهودية بشكل عام، إلا أنها لم تؤثر بشكل واضح في البداية على الجالية اليهودية في إيران، لأنها ظلت من دون صدامات مع النظام الإيراني، إضافة إلى وجود علاقات تجارية وسياسية وطيدة بين طهران وتل أبيب، الأمر الذي جنَّب الجالية اليهودية أي تصعيد أو تغيير على وضعها في إيران”.

من جانبها، ووفق تقرير سابق لصحيفة “هآرتس” الإسرائيلية، فإنه طوال النصف الأول من القرن الـ20، ظلت طهران تفخر بجاليتها اليهودية الكبير، وإنه قبل قيام الدولة العبرية، استضافت طهران مكتب الوكالة اليهودية منذ عام 1942، الذي لعب في ما بعد دور السفارة الإسرائيل فعلياً، وعمل على تعزيز العلاقات بين إيران والدولة الوليدة في ما بعد.

من الاعتراف إلى الصداقة والتحالف

على قواعد الروابط التاريخية بين الفرس واليهود، بدأت العلاقات بين طهران والدولة العبرية الوليدة في مايو (أيار) عام 1948، وذلك على رغم بعض التحفظ الذي صاحب بداياتها بسبب “المسألة الفلسطينية”، حيث كانت إيران، وهي أكبر دولة تضم جالية يهودية في الشرق الأوسط، ثاني دولة ذات غالبية مسلمة تعترف بإسرائيل “دولة ذات سيادة” عام 1950، وأرسلت الدبلوماسي رضا سافينيا ممثلاً لها هناك، وكانت إيران بمثابة محطة على الطريق لتوجه اليهود في المنطقة لإسرائيل بأعداد كبيرة.

1122.PNG
الدبلوماسي الإيراني رضا سافينيا، في الوسط، يتحدث مع رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك ديفيد بن غوريون في القدس عام 1950 (المكتب الصحافي للحكومة الإسرائيلية)

وفق ما تقول هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي”، “مع بدايات ظهور الدولة العبرية كان الموقف الرسمي لإيران معارضاً لإنشائها، وعليه صوتت في عام 1947 ضد قرار الأمم المتحدة تقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية بدعوى الخوف من تصعيد العنف في المنطقة، وذلك وقت أن كانت واحدة من الأعضاء الـ11 في لجنة الأمم المتحدة الخاصة التي تشكلت عام 1947 لبحث حل لقضية فلسطين بعد انتهاء الانتداب البريطاني، واقترحت حينها إقامة دولة فيدرالية واحدة على أرض فلسطين لحل الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، ولاحقاً أعلنت تأييدها للدول العربية في حرب 1948، لكن من دون أن تشارك في الصراع المسلح، وعارضت طهران في عام 1949 انضمام إسرائيل إلى الأمم المتحدة”، موضحة، أنه وبعد الاعتراف الرسمي بالدولة العبرية، “بدت العلاقات تأخذ منحى مغايراً، إذ بدأ الموقف الإيراني من إسرائيل يتغير، في ظل تبني الشاه محمد رضا بهلوي سياسات خارجية، وداخلية في بعض الأحيان، تميل إلى مواقف الغرب بخاصة الولايات المتحدة التي كانت من أوائل الدول التي اعترفت بإسرائيل”.

بحسب دراسة نشرها الأكاديمي الأميركي الإيراني روح الله رمضاني، في عام 1978، حول إيران والصراع العربي الإسرائيلي، فإن “التغير في موقف طهران تجاه إسرائيل في سنواتها الأولى يرجع في الأساس إلى حسابات الحرب الباردة في ذلك التوقيت”، موضحاً “أن إيران التي كانت تربطها بالاتحاد السوفياتي حدود تمتد لمسافات كبيرة، كانت ترغب في التقرب من حلفاء أقوياء مرتبطين بواشنطن لمواجهة أي تطلعات أو مطامع سوفياتية، بخاصة في ظل المعارضة التي أبداها الحزب الشيوعي الإيراني المرتبط بموسكو، لسياسات الشاه”.

تزامن هذا التوجه والتغير، وفق تفسير الأكاديمي جوناثان لزلي في كتابه “الخوف وانعدام الأمن” حول العلاقات الإيرانية- الإسرائيلية، “مع سعي تل أبيب للحصول على اعتراف دول غير عربية في المنطقة في ظل حالة العداء بينها وبين جيرانها العرب”، الذي أنتج في النهاية تقارب البلدين بشكل وثيق من بعضهما البعض، هذا الأمر أوضحته كذلك دراسة نشرها معهد بروكنغز في يناير (كانون الثاني) 2019، تحت عنوان “الثورة الإيرانية، بعد 40 عاماً: عقيدة المحيط العكسي لإسرائيل”، جاء فيها أن إسرائيل في عهد رئيس وزرائها الأول ديفيد بن غوريون “حاولت مواجهة عداء الدول العربية في ذلك الوقت من خلال ما يعرف بـ(العقيدة المحيطية)، التي تقضي بتشكيل تحالف مع حكومات غير عربية (رغم أن معظمها دول إسلامية) في الشرق الأوسط، وكان من بين هؤلاء الشركاء غير العرب تركيا وإيران ما قبل الثورة، وهما الدولتان اللتان كان لهما (آنذاك) توجه مشترك تجاه الغرب وإيران وأسبابهم الخاصة للشعور بالعزلة في الشرق الأوسط”.

وأعقب الاعتراف الإيراني بإسرائيل، تعزيز للعلاقات بين البلدين، إذ أنشأت إسرائيل سفارة لها في طهران، ببعثة دبلوماسية كبيرة العدد، ونمت العلاقات التجارية والزراعية، وأصبحت إيران مزوداً رئيساً للدول العبرية بالنفط (قدرت بعض المصادر تزويد إيران إسرائيل بـ40 في المئة من حاجاتها النفطية) وأنشأ البلدان خط أنابيب يهدف إلى إرسال النفط الإيراني إلى إسرائيل ثم إلى أوروبا، كما كان للجانبين تعاون عسكري وأمني واسع النطاق، إذ زودت تل أبيب طهران بالأسلحة والقدرات التكنولوجية، فضلاً عن تبادل الزيارات بين كبار مسؤولي البلدين.

لكن سرعان ما أصاب علاقات البلدين الفتور، على المستوى السياسي مع تولي محمد مصدق منصب رئيس الوزراء في إيران (1951 حتى 1953)، التي شهدت تأميم شركات النفط الغربية في البلاد، فضلاً عن إغلاق القنصلية الإيرانية في إسرائيل، مرجعاً الأمير حينها إلى “توفير النفقات”، وذلك في وقت استمر فيه التعاون بين البلدين في مجالات عدة، وذلك قبل أن تعود العلاقات إلى حالتها القوية في أعقاب الإطاحة بمصدق من الحكم، وإحكام الشاه قبضته على الحكم، وشهدت تنامياً غير مسبوق، إذ آثر شاه إيران تسهيل التعاون التجاري والعسكري مع إسرائيل، معطياً الأولوية للتحالفات والأمن على حساب المخاوف الفلسطينية والعربية.

اقرأ المزيد

بعد الهجوم الإيراني على إسرائيل… من الرابح الحقيقي؟

إيران وإسرائيل من التعاون إلى العداء ثم التصعيد وخطأ الحسابات

45 سنة على ثورة الخميني: صواريخ ومسيرات وقوى “غير دولتية”

هذه هي أوجه الشبه بين صدام والخميني
وتقول الموسوعة البريطانية، إنه مع استعادة الشاه للسلطة، أصبح رجل إيران القوي أقرب حليف للولايات المتحدة، وكذلك الصديق الرئيس لإسرائيل في المنطقة، وعليه بدأ التعاون الأمني بين البلدين مسارات أكثر موثوقية، إذ أنشأت منظمة الاستخبارات والأمن القومي الإيرانية “سافاك” في عام 1957 بالتعاون مع وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي أي) ولاحقاً مع جهاز الاستخبارات الخارجية الإسرائيلية (الموساد) بهدف حماية النظام من اختراقات الشيوعيين وبخاصة حزب “توده” الشيوعي المعارض للشاه محمد رضا بهلوي. مضيفة “في تلك الفترة ازدهر التعاون الاقتصادي والسياسي والعسكري بين البلدين مع تصاعد التوترات بين إسرائيل والدول العربية خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، إذ تم افتتاح مدرسة للغة العبرية في طهران لأطفال الموظفين الإسرائيليين المتمركزين في إيران، وتم تدشين رحلات جوية منتظمة تربط بين تل أبيب وطهران، وشمل أيضاً التعاون كذلك إطلاق مشروع “فلاور”، الذي بموجبه اشترت إيران تكنولوجيا الصواريخ من الإسرائيليين بعد أن اشترى العراقيون صواريخ سكود الباليستية”.

وبدت قوة العلاقات بين البلدين، على مستوياتها الثقافية والرياضية، إذ زار إسرائيل مثقفون إيرانيون، واستضافت طهران في عام 1968 مباراة كرة قدم جمعت منتخب بلادهم بنظيره الإسرائيلي.

وبقي الازدهار سمة العلاقات بين البلدين، حتى محطة حرب أكتوبر (تشرين الأول) عام 1973، بين إسرائيل من جهة ومصر وسوريا من جهة أخرى، التي حاولت خلالها طهران أن تمسك العصا من المنتصف إذ قدمت النفط إلى مصر والأسلحة إلى إسرائيل، ثم تلاها بعض الأحداث التي أثرت “قليلاً” على علاقات البلدين، والتي من بينها اتفاق إيران مع العراق عام 1975، في الجزائر، الذي تضمن وقف الدعم الإيراني للمسلحين الأكراد الذي كانت إسرائيل تعتبرهم حلفاء لها، فضلاً عن تصويت طهران لصالح القرار الصادر عام 1975 من قبل الأمم المتحدة باعتبار “الصهيونية سياسة عنصرية” (ألغي لاحقاً في عام 1991)، إلا أنه وعلى رغم ذلك لم تؤثر تلك الخطوات بشكل كبير على التعاون بين البلدين، بخاصة في المجالات العسكرية إذ قدمت إسرائيل المساعدة لإيران في تدشين الأخيرة برنامجها الصاروخي في سبعينيات القرن الماضي، بحسب هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي”.

هذا التعاون العسكري والأمني بين طهران وتل أبيب المستمر، رغم بعض التباين في ملفات إقليمية، أرجعه الباحث الأميركي إيان بريمر، في تقرير نشرته مجموعة “جي زيرو ميديا” إلى “المصالح المشتركة بين إسرائيل من جانب، وإيران وتركيا على الجانب الآخر، باعتبارهما دولتين غير عربيتين في المنطقة، أفضت إلى علاقات تجارية سرية، وبرنامج لتبادل المعلومات الاستخباراتية أطلق عليه اسم تحالف “ترايدنت” في الفترة من عام 1956 وحتى 1979″.

بدايات الخصومة والقطيعة

ارتبط تحول العلاقة بين إيران وإسرائيل بشكل رئيس بـ”الثورة الإسلامية” التي قادت للإطاحة بنظام الشاه وتولي نظام “الولي الفقيه” مقاليد الحكم في عام 1979، إذ حملت الخطابات الأولى للمرشد الإيراني الأعلى آنذاك، آية الله الخميني، تأكيدات على عداء بلاده ضد عدوين رئيسين سماهما “الشيطان الأكبر” (الولايات المتحدة)، و”الشيطان الأصغر” (إسرائيل)، وعليه بدأت سريعاً أولى خطوات القطيعة العملية مع الدولة العبرية، بعد أسبوع واحد فقط من سيطرة الإسلاميين على السلطة في البلاد، في فبراير (شباط) من العام ذاته، بإغلاق السفارة الإسرائيلية لدى طهران وتسليمها بكل محتوياتها ووثائقها إلى السلطة الفلسطينية، وعليه كان ياسر عرفات، رئيس منظمة التحرير الفلسطينية آنذاك، أول زعيم أجنبي يزور طهران.

AFP__20190201__1CX0QC__v4__Preview__IranRevolutionKhomeiny.jpg
سيطرة الإسلاميين على الحكم في إيران بعد الإطاحة بالشاه كانت نقطة فاصلة في مسار العلاقات مع إسرائيل (أ ف ب)

وبحسب المصادر الإيرانية والإسرائيلية، فلم تكن خطوة قطع العلاقات بين البلدين هي الخطوة الوحيدة في هذا الاتجاه، إذ صاحبها، إلغاء الرحلات المباشرة بين البلدين، فضلاً عن إعلان يوم “عطلة سنوي” في إيران تحت مسمي “يوم القدس”.

وتقول إستر باريزي في كتابها “يهود وإيرانيون: الجالية اليهودية – الفارسية منذ الثورة في إيران وإسرائيل”، “تغير كل شيء بعد قيام الجمهورية الإسلامية 1979، إذ رافقها تغيير حقيقي في وضع يهود إيران، لسببين: يكمن الأول في الطبيعة الأيديولوجية المفضلة للغالبية الشيعية، على حساب باقي العقائد والطوائف، في ما يكمن السبب الثاني في وضعها الأيديولوجي المعادي للدولة العبرية، وهو أمر وضع الجالية اليهودية في إيران في وضع حرج للغاية، وصل في بعض الأحيان إلى حد الاتهام بالخيانة، وليس أدل على ذلك من اتهام 13 من أبناء الجالية اليهودية في طهران بالتجسس عام 1999 لصالح إسرائيل، رغم إطلاق سراحهم بعد بضع ساعات”.

كذلك كتبت داليا داسا كاي، المتخصصة في شؤون الشرق الأوسط في مركز “بيركل” للعلاقات الدولية بجامعة كاليفورنيا، في كتابها المعنون “إسرائيل وإيران: خصومة خطرة” أن “سياسة إيران الخارجية في مرحلة ما بعد الثورة كانت في البداية مفرطة في الحماس وأيديولوجية: كان مجرد وجود إسرائيل بمثابة إهانة للحماسة المناهضة للإمبريالية التي استحوذت على النفس الثورية الإيرانية”، وعليه برزت القيادة الإيرانية الجديدة، التي تغذيها المشاعر المعادية لإسرائيل ودعم حركات التحرير الفلسطينية، كخصم لإسرائيل، وبدا كل طرف منهما للآخر يشكل “تهديداً وجودياً”.

“تعاون” رغم العداء

رغم حالة “الخصومة والعداء الظاهرية” التي أصابت العلاقات الإيرانية- الإسرائيلية في أعقاب الإطاحة بنظام الشاه، التي انعكست بشكل كبير في دعم طهران وتمويلها حركات وميليشيات مسلحة وكيلة، سواء عبر تأسيس “حزب الله” اللبناني في عام 1982، ودعم حركة “الجهاد” الإسلامي في فلسطين، وكذلك تأسيس حركة “حماس” في تسعينيات القرن الماضي، فضلاً عن جماعات أخرى في العراق وسوريا، إلا أن ما كان لافتاً انخراط البلدين في ثمانينيات القرن الـ20، إبان الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي سابقاً، في إحدى أشهر الفضائح السياسية الأميركية، التي عرفت باسم “إيران غيت” أو “إيران كونترا” حين باعت إدارة الرئيس الأميركي رونالد ريغان خلال فترة ولايته الثانية (حكم بين 1981 و1989) إيران أسلحة في صفقة سرية وبوساطة إسرائيلية، رغم قرار حظر بيع الأسلحة إلى طهران وتصنيف الإدارة الأميركية لها “عدوة” و”راعية للإرهاب”، وذلك مقابل إخلاء سبيل رهائن أميركيين في لبنان بجانب دفع طهران ملايين الدولارات، التي خصص جزء كبير منها لدعم المتمردين الموالين لواشنطن في نيكاراغوا.

AFP__20190205__1BV8DL__v2__Preview__LebanonMilitiamenHezbollah مقاتلين موالين لحزب الله اللبناني.jpg
بعد الثورة الإيرانية مولت طهران حركات ومليشيات مسلحة وكلية في سوريا والعراق ولبنان واليمن بهدف تمديد نفوذها (أ ف ب)​​​​​​​

في تلك الواقعة، بدأت شحنات أسلحة وقطع غيار لمعدات وطائرات حربية تصل إلى إيران من إسرائيل سراً وبشكل غير مباشر، وعليها تمكن نظام الخميني من “شراء أسلحة بقيمة 500 مليون دولار من الحكومة الإسرائيلية خلال الحرب الإيرانية العراقية في الثمانينيات لوقف القوات العراقية الغازية”، بحسب ما قدرت مصادر بريطانية.

وأرجع الدبلوماسي الإيراني السابق، منصور فارهانج في دراسة له بعنوان “العلاقات الإسرائيلية الإيرانية”، نشرت عام 1989، تلك الواقعة، إلى “حسابات الواقع هي التي فرضت على طهران اللجوء إلى إسرائيل، فإيران التي كانت تخوض حرباً ضد العراق بداية من عام 1980 وكانت في حاجة ماسة إلى قطع غيار للطائرات والمعدات العسكرية الأميركية التي كان نظام الشاه قد اشتراها من واشنطن”، مضيفاً “أنه وبعد قطع العلاقات بين طهران وواشنطن على خلفية احتجاز رهائن أميركيين، لم يكن أمام نظام المرشد سوى اللجوء إلى إسرائيل”، في المقابل، ووفق ما نقلت هيئة الإذاعة البريطانية، عن كتاب الأكاديمي تريتا بارسي في “التحالف الغادر: التعاملات السرية لإسرائيل وإيران والولايات المتحدة”، “كان صناع القرار في إسرائيل يرون في العراق الخطر الأكبر في ظل التقدم الذي حققه الجيش العراقي في ساحات المعارك، بينما كانت إسرائيل تأمل في أن يحدث تغيير في النظام الحاكم في طهران، يعيد إيران إلى السياسات التي كانت تتبعها في عهد الشاه”.