من غير المرجح أن تتفق إسرائيل والولايات المتحدة على حل جميع الخلافات بينهما، لكن يتعين عليهما تسويتها بالنظر إلى حجم المخاطر على المحك.
تُعتبر زيارة مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان للشرق الأوسط في الأيام الأخيرة فرصة لواشنطن والقدس. ويبقى أن نرى ما إذا كانت إسرائيل والولايات المتحدة ستعيدان إحياء روابطهما من زمن الحرب أو ستخاطران بالمزيد من التدهور في علاقاتهما مع بداية موسم الانتخابات في الولايات المتحدة، وربما إسرائيل.
في الأشهر الأخيرة، توترت العلاقات بين واشنطن والقدس في أعقاب الانتقادات الأمريكية لسلوك إسرائيل الحربي، لا سيما بعد أن أسفرت غارة إسرائيلية عن مقتل سبعة من عمال الإغاثة في منظمة “المطبخ المركزي العالمي”. ويبدو أن التوتر بين البلدين قد بلغ ذروته عندما رفضت الولايات المتحدة شحن قنابل تزن 2000 رطل إلى إسرائيل خشية استخدامها خلال هجوم عسكري كبير في رفح، مما قد يتسبب في سقوط عدد كبير من الضحايا بين المدنيين.
وفي حين أن إدارة التحالف خلال زمن الحرب ليست سهلة على الإطلاق، فقد شهدت العلاقات بين بايدن ونتنياهو تراجعاً ملحوظاً، مع بروز خلافات واضحة حول المساعدات الإنسانية والتخطيط لمرحلة ما بعد الحرب، إلى جانب مجموعة من القضايا الأخرى.
وتتناقض هذه الديناميكية بشكل حاد مع الفترة التي أعقبت مباشرةً الفظائع التي وقعت في 7 تشرين الأول/أكتوبر، عندما أصبح الرئيس بايدن أول رئيس أمريكي يزور إسرائيل خلال زمن الحرب. بالإضافة إلى ذلك، نجح بايدن في كسب تأييد الإسرائيليين من خلال إرسال حاملتي طائرات إلى المنطقة وإطلاق جسر جوي لتزويد إسرائيل بكل الأسلحة التي تحتاجها لهزيمة “حماس”، التي وصفها بأنها “أسوأ من «داعش»”.
يتعيّن على إسرائيل والولايات المتحدة أن تعملا على إيجاد وسيلة للمضي قدماً في علاقتهما المضطربة، ووضع خريطة للخلافات بينهما، والتوصل إلى جدول زمني لاتخاذ قرارات صعبة بشأن القضايا السياسية ذات الأهمية. وإذا لم تفعلا ذلك، فمن الواضح أن أعدائهما المشتركين فقط هم الذين سيفرحون. ويعيد الاحتكاك بين الولايات المتحدة وإسرائيل إحياء التصورات السلبية بين الجهات الفاعلة المزعزعة للاستقرار مثل إيران و”حزب الله” بشأن قدرة الولايات المتحدة على إملاء الشروط على إسرائيل. وفي خطاب ألقاه زعيم “حزب الله” حسن نصر الله في الأسبوع المنصرم، بدا مَثَلَه مثل القادة العرب من الأجيال السابقة بالإعلان أن بايدن يمكن أن ينهي الحرب في غزة “بشطبة قلم”.
وبقدر عدم سيطرة بايدن على إسرائيل، من الضروري بذل جهود حازمة لتحسين العلاقات الثنائية. وبخلاف ذلك، سيطالب بعض المستشارين السياسيين لبايدن بلا شك بإبعاد الإدارة الأمريكية عن إسرائيل، من أجل جذب الديمقراطيين التقدميين في الولايات الرئيسية التي يمكن أن تحسم انتخابات تشرين الثاني/نوفمبر، حتى لو كان آخرون يحذرون من الاستخفاف بأصوات اليهود الأمريكيين.
ومع عودة الكنيست الإسرائيلي الأسبوع المقبل بعد عطلة ربيعية طويلة، فمن المرجح أن ينذر مستشارو نتنياهو بأنه يجب عليه أن يكون أكثر تنبهاً للتهديدات التي يوجهها زعيما الفصائل اليمينية المتشددة إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، أو يخاطر بقيامهما بإسقاط الحكومة.
وفي الوقت الحالي، يبدو أن كل جانب في صدد التراجع عن حافة الهاوية. فقد قدم سوليفان إحاطة يوم الإثنين أكد فيها أن الولايات المتحدة تدعم هدف إسرائيل المتمثل بإبعاد “حماس” عن السلطة. وألقى باللوم في الحرب بشكل مباشر على “حماس”، التي تريد “إبادة إسرائيل وقتل أكبر عدد ممكن من اليهود”، وقال إن الولايات المتحدة “تريد رؤية «حماس» مهزومة وتحقيق العدالة لـ [يحيى] السنوار. لا يمكن أن يكون هناك أي لبس في ذلك”. ويُعدّ ذلك خروجاً كبيراً عن لهجة وزارة الخارجية الأمريكية في الأشهر الأخيرة.
كما أوضحت الإدارة الأمريكية للهيئات الرئيسية في الكونغرس أنها سترسل شحنة أسلحة منفصلة بقيمة مليار دولار إلى إسرائيل، على الرغم من امتناعها عن تسليم القنابل التي يبلغ وزنها 2000 رطل. ومن العلامات الإيجابية الأخرى هي الزيارة التي قام بها قائد “القيادة المركزية الأمريكية” الجنرال مايكل كوريلا إلى إسرائيل الأسبوع الماضي. وتحترم إسرائيل كوريلا كمحاور أساسي في العديد من القضايا، من بينها هيكلية الدفاع الجوي المتكاملة التي لعبت دوراً حاسماً في إحباط الهجوم الإيراني الكبير بالصواريخ والطائرات بدون طيار في منتصف نيسان/إبريل.
كما اتخذت إسرائيل، وإن كان ذلك في الآونة الأخيرة فقط، خطوات لإثبات مراعاتها لمخاوف الولايات المتحدة. فقد افتتحت مؤخراً أربع نقاط عبور إلى غزة لتقديم المساعدات الإنسانية، وبعد أشهر من الطلبات الأمريكية، عمدت إلى تسهيل وصول المساعدات عبر ميناء أشدود القريب. وتتعاون إسرائيل أيضاً مع الجهود الأمريكية لتسهيل إنشاء رصيف عائم أمريكي جديد قبالة الساحل.
لكن كل ذلك قد لا يكون كافياً للحد من التوترات بشكل ملموس. وتبقى رفح قضية مركزية نظراً لتوقف محادثات وقف إطلاق النار بشأن الرهائن، حيث وصلت إسرائيل و”حماس” إلى طريق مسدود بشأن مسألة بالغة الأهمية وهي: ما إذا كانت إسرائيل ستلتزم بإنهاء الحرب مقابل إتمام صفقة الرهائن.
ويشير المسؤولون الأمريكيون إلى أن زيارة سوليفان يُفترض أن تركز على رفح والتخطيط لليوم التالي في غزة. ويعتبر الإسرائيليون إجلاء ما يقرب من 450 ألف شخص من رفح في غضون أيام كإشارة إلى أن المخاوف الأمريكية من اندلاع قتال عنيف في بيئة مكتظة بالسكان والذي قد يؤدي إلى سقوط عدد كبير من الضحايا بين المدنيين مبالغ فيها، ولكن الولايات المتحدة تظل غير مقتنعة بذلك. ومن الصعب التصديق بأن شحنة الأسلحة المحتجزة سوف يتم الموافقة عليها ما لم يتمكن الطرفان من الاتفاق على نهج مشترك تجاه رفح من شأنه أن يقلل من الخسائر البشرية.
لكن التصريحات الأمريكية تأرجحت بين معارضة أي تحرك في رفح، وبين الرغبة في تنسيق خطط الإخلاء مع إسرائيل. فخلافاً للتقارير الإعلامية، يبدو أن عدة جولات من المشاورات غير الحاسمة قد جرت بين الولايات المتحدة وإسرائيل بشأن إخلاء رفح. ومع ذلك، تريد إسرائيل أن تتأكد من أن الجدل حول ترتيبات السلامة في رفح ليس مجرد معارضة مُقنَّعة لأي عمل إسرائيلي في رفح.
ويقول المسؤولون الأمريكيون إن الأولوية الثانية في رحلة سوليفان هي التخطيط لمرحلة ما بعد الحرب، والتي يطلق عليها عادةً “اليوم التالي”. وعلى الرغم من هذه التسمية، فإنها مشكلة فورية. فإسرائيل تريد أن تعرف ما إذا كانت الولايات المتحدة ملتزمة بتحقيق نصر عسكري إسرائيلي، بينما تريد الولايات المتحدة التأكد من التزام إسرائيل بنفس القدر من الأهمية حول كسب السلام من خلال استراتيجية سياسية واضحة. كيف يمكن لإسرائيل أن تنتصر في غزة إذا استمرت “حماس” في ملء الفراغ في المناطق الرئيسية واضطرت إسرائيل باستمرار إلى إعادة غزو الأماكن التي طهرتها عدة مرات، مثل جباليا؟ وحتى الآن، إن الولايات المتحدة ليست واثقة من امتلاك إسرائيل استراتيجية لتعزيز إنجازاتها العسكرية. وإذا لم تتمكن إسرائيل من إقناع الولايات المتحدة، فكيف ستقنع إسرائيل “حماس”؟ وإذا أُجبر الفلسطينيون على الاختيار بين “حماس” والفوضى، فسوف تفوز “حماس” حتماً. وكثيراً ما تتحدث إسرائيل عن ممارسة ضغوط على “حماس”، لكن يمكن ممارسة ضغوط بدرجة كبيرة من خلال تقديم قيادة عملية بديلة.
وبعبارة أخرى، يصرّ نتنياهو على أن خطة “اليوم التالي” هي نتيجة للانتصار على “حماس”، لكن يبدو أنها شرط أساسي لهزيمة الجماعة الإرهابية. فهي أساسية على جبهتين – سواء للانتصار في شمال غزة أو لطمأنة الولايات المتحدة من أن النصر في رفح يشكل جزءاً من استراتيجية سياسية، وليس عسكرية فقط.
وكانت الضغوط لاتخاذ قرار بشأن نهج ما بعد الحرب تأتي بانتظام من إدارة بايدن، ولكن في الأسبوعين الماضيين، بدأت تأتي أيضاً من مؤسسة الدفاع الإسرائيلية. فوفقاً لبعض التقارير، أبلغ رئيس أركان الجيش الإسرائيلي هرتسي هاليفي مجلس الوزراء الحربي الأسبوع الماضي أن الجيش الإسرائيلي تضرر من عدم اتخاذ قرار في هذا الصدد، وقال: “نحن نتحرك الآن مراراً وتكراراً في جباليا. وطالما لا توجد عملية دبلوماسية لإعداد هيئة حكم في القطاع غير «حماس»، سيتعيّن علينا إطلاق حملات مراراً وتكراراً في أماكن أخرى لتفكيك البنية التحتية لـ «حماس»”.
وفي يوم الأربعاء المنصرم، ذهب وزير الدفاع يوآف غالانت أبعد من ذلك ودعا إسرائيل إلى اتخاذ “قرارات صعبة”، قائلاً: “إن التردد هو، في جوهره، قرار. وهذا يؤدي إلى مسار خطير، حيث يعزز فكرة الحكم العسكري والمدني الإسرائيلي في غزة”. وحذر قائلاً: “هذا خيار سلبي وخطير بالنسبة لدولة إسرائيل استراتيجياً وعسكرياً ومن وجهة نظر أمنية”. وقال إنه من الضروري هزيمة القدرات العسكرية لـ”حماس”، لكن هذه الهزيمة لن تكون ممكنة إلا إذا اتُخذت ترتيبات حكم بديلة، حتى أن غالانت ألمح إلى أن نتنياهو يؤجل اتخاذ قرار بشأن تشكيل قوة بديلة للسيطرة على غزة لأسباب سياسية.
كما دعا غالانت الفلسطينيين إلى تحمل المسؤولية بدعم دولي. وتبدو وجهة نظره واضحة، إذ أن السبيل الوحيد لهزيمة “حماس” هو أن تعيد إسرائيل السلطة الفلسطينية من الضفة الغربية إلى غزة. ومع ذلك، بدا نتنياهو متردداً، خوفاً من إنهيار حكومته بسبب معارضة سموتريتش وبن غفير. ويبدو أن نتنياهو يعتقد أنه يمكن السيطرة على غزة من خلال الاستعانة بشركات أمنية خاصة من الخارج.
فضلاً عن ذلك، يواجه نتنياهو قراراً مهماً آخراً. لقد زار سوليفان الرياض بشكل متكرر، كما ستكون محطته الأولى في هذه الرحلة. ولا تزال الولايات المتحدة تعتقد أنه ما زال ممكناً تحقيق انفراجة بشأن التطبيع السعودي الإسرائيلي. وهناك دلائل تشير إلى أن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لا يتوقع أن يكون لدى حكومة نتنياهو جدول زمني لقيام دولة فلسطينية، لكنه يرغب في الحصول على بعض المؤشرات على أن إسرائيل مستعدة للالتزام بالفكرة بأن للفلسطينيين الحق في قيام دولة خاصة بهم، مع مناقشة التفاصيل الحاسمة في وقت آخر. لكن البعض يقول إن هذا الأمر مستحيل بالنسبة لنتنياهو، في ظل الائتلاف الحالي.
وتواجه إدارة بايدن أيضاً بعض القرارات المشحونة، نظراً لرغبتها في تجنب حرب إقليمية. وكان القرار الذي اتخذته إيران بمهاجمة إسرائيل مباشرةً من أراضيها في 13-14 نيسان/إبريل، في انتهاك للسياسة المعمول بها منذ عام 1979، بمثابة زلزال استراتيجي لا تزال آثاره فيما يتعلق بالنشاط الإيراني في المستقبل، بما في ذلك برنامجها النووي الصاعد، غير واضحة. ومن المرجح أن تعلن الولايات المتحدة إنه سيكون من المستحيل الحفاظ على التحالف الإقليمي ضد إيران نظراً لاعتبار غزة شوكة مزمنة في خاصرتها. ومن المرجح أن تعلن إسرائيل من جانبها ضرورة أن تبدي الولايات المتحدة تصميماً أكبر لمواجهة إيران إذا ما أرادت ردع طهران ووكلائها.
وبغض النظر عن التفاصيل، ليس هناك شك في أنه عندما يُفهم أن السياستان الأمريكية والإسرائيلية متزامنتان، سيكون هناك تأثير مضاعف في جميع أنحاء المنطقة من شأنه تعزيز عوامل الردع في كلا البلدين. وفي نظر إسرائيل، يعني ذلك أنه “لا ينبغي أن يبرز اختلاف” بين واشنطن والقدس، ولكن هذا التوقع مبالغ فيه. فالولايات المتحدة وإسرائيل لن تقبلا جميع القرارات السياسية التي يتخذها الطرف الآخر. ومع ذلك، تتوقع إسرائيل الكثير من الولايات المتحدة، لا سيما حالياً بعد تعدد الجبهات العسكرية في حرب استمرت لفترة أطول من أي حرب أخرى تقريباً في تاريخ إسرائيل. وكلما ارتفع سقف التوقعات، كلما ازدادت مطالبات واشنطن بمعالجة مخاوفها بشكل مناسب. يتعين على البلدين تسوية القضايا الرئيسية، إذ أن ذلك سيقوّي موقفهما. ومع ذلك، فإن التحديات الكبيرة تتطلب قرارات كبيرة. وكما أشار غالانت، يُعد التردد بحد ذاته قراراً، والذي من شأنه أن يعيق التطورات الإيجابية على الأرض ويضر بالعلاقات بين البلدين.
ديفيد ماكوفسكي