من بين العلامات على استقرار النظم السياسية، تكتسب الإدارة السلمية وغير الصراعية لمسألة خلافة رأس النظام حين يغيب إن على نحو متوقع (كما في انتهاء الفترات الرئاسية) أو بصورة مفاجئة (وتلك قد ترتبط بالوفاة أو العجز أو الاستقالة أو العزل) أهمية كبرى.
غيّب الموت أمس الأول الأحد الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي الذي انتخب لمنصبه في 2021. ولم تمض سوى ساعات قليلة على إعلان الوفاة التي نتجت عن تحطم الطائرة المروحية التي كان يستقلها الراحل ومعه وزير الخارجية ومسؤولون آخرون في طريق عودتهم من زيارة لدولة أذربيجان، إلا وكان المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية علي خامنئي يكلف النائب الأول لرئيس الجمهورية محمد مخبر بتولي مهام الرئاسة المؤقتة وفقا للمادة 131 من الدستور وإلى أن تنظم انتخابات رئاسية مبكرة في غضون مهلة أقصاها 50 يوما.
وقبل أن يعلن نبأ وفاة رئيسي رسميا، توجه المرشد الأعلى إلى مواطني إيران في رسالة متلفزة أخبرهم فيها بالحادث الذي تعرضت له مروحية رئيس الجمهورية ومطمئنا إياهم فيما خص استقرار عمل الحكومة والمؤسسات والأجهزة الرسمية بغض النظر عن مصائر الأفراد وشغور المناصب. اتسم حديث المرشد الأعلى، وهو صاحب المنصب الأهم في النظام السياسي الإيراني ومالك مفاتيح الشرعية الدينية التي يحكم باسمها النظام الذي أسسته الثورة الإسلامية في 1979، بالشفافية والهدوء والغياب الكامل لإطلاق الاتهامات بشأن الحادث والثقة التامة في قدرة المؤسسات والأجهزة الرسمية على تسيير الشؤون العامة دون انقطاعات أو أزمات.
وكان في تلك السمات ما يتناقض مع ما يروّج غربيا عن حكام طهران باعتبارهم حفنة من الايديولوجيين ومصاصي دماء الشعب الذين لا تعنيهم لا الشفافية ولا التداول الحر للمعلومات ولا يجيدون سوى توظيف الأدوات القهرية لفرض الهدوء في الفضاء العام والقضاء على كافة أشكال المعارضة.
كان في الإدارة السريعة والفعالة للغياب المفاجئ لرئيسي دليل واضح على تماسك النظام السياسي وجهوزيته لمواجهة الأزمات الطارئة وغير المتحسب لها وفقا للقواعد الدستورية المعمول بها
وكان في سمات حديث المرشد الأعلى أيضا ما يتناقض مع الصورة النمطية المروّجة أمريكيا (وإسرائيليا) عن حكام طهران بكونهم يتوقعون دوما تآمر «الشيطان الأكبر» وحلفائه عليهم وعلى مقدرات بلادهم وبكونهم ينظرون إلى جوارهم الإقليمي في كافة الاتجاهات كمصدر تهديد دائم لاستقرار النظام السياسي. فلم يطلق المرشد الأعلى اتهامات جزافية بتآمر الولايات المتحدة أو حلفائها على إيران بإسقاط مروحية رئيسي، ولم يشر لا صراحة ولا بين الكلمات إلى مسؤولية محتملة لإسرائيل التي تتصارع مع الجمهورية الإسلامية ونظامها السياسي في عديد المواقع الإقليمية في الشرق الأوسط وتعادي برنامجها النووي وتعمل على القضاء عليه. لم يتهم المرشد الأعلى أحدا، فقط طمأن مواطنيه إلى استقرار عمل المؤسسات والأجهزة الرسمية وطالبهم بالثقة في هدوء الأوضاع إلى أن يعرف مصير رئيسي ورفاقه. بل وكان في توجه خامنئي إلى الشعب الإيراني دليل بيّن على أن حكام طهران يعتبرون الناس ليس فقط كضحايا محتملين للأدوات القهرية، بل كمواطنات ومواطنين لهم حقوقهم على الأقل في شيء من المعرفة وتداول المعلومات ويطلب منهم التصرف طوعا بمسؤولية وعين على مصالح البلاد.
وفي الساعات القليلة، التي تلت الإعلان الرسمي عن خبر وفاة رئيسي، بدت المؤسسات والأجهزة الرسمية في إيران قادرة على إدارة الأزمة الناتجة عن الغياب المفاجئ لرئيس الجمهورية على نحو متماسك. نقلت الصلاحيات الرئاسية إلى النائب الأول الذي كلّفه المرشد الأعلى كرئيس مؤقت. أطلقت عملية التشاور بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية للتوافق بشأن تنظيم الانتخابات الرئاسية المبكرة وفقا للاشتراطات الزمنية للدستور. أعلنت الحكومة الإيرانية عن إجراءات تشييع المسؤولين المتوفين وأكدت على استمرار السياسات الداخلية والخارجية لطهران دون تغيير.
وكان في الإدارة السريعة والفعالة للغياب المفاجئ لرئيسي دليل واضح على تماسك النظام السياسي وجهوزيته لمواجهة الأزمات الطارئة وغير المتحسب لها وفقا للقواعد الدستورية المعمول بها. وعلى الرغم من أن الدوائر المتابعة لإيران في الغرب ستفسر سرعة وفاعلية إدارة الأزمة بالإشارة إلى هامشية رئيسي بين حكام طهران ومركزية منصب المرشد الأعلى مقارنة بمنصب رئيس الجمهورية، إلا أن مثل تلك التفسيرات الغربية تغفل حقيقة أن من يدير الأزمة ليس هم الأشخاص في المقام الأول بل المؤسسات والأجهزة التي تستدعي مقومات شرعيتها وسلطاتها وصلاحياتها لضمان انتقال الرئاسة على نحو مؤقت أولا ثم بصورة دائمة بعد الانتخابات المبكرة. يشخصن الغربيون طرق عمل وفعل النظام السياسي الإيراني ويقارنون بين الأوزان النسبية للأفراد متجاهلين المؤسسات والأجهزة التي تقف من ورائهم.
لا يعني التأكيد على الطبيعة المؤسسية للنظام السياسي الإيراني التي تظهر اليوم في إدارة أزمة الغياب المفاجئ لرئيس الجمهورية والتشديد على أن تواصل حكام طهران مع مواطنيهم لا ينبغي أن يختزل فقط إلى استخدام الأدوات القهرية، لا يعني لا هذا ولا ذاك إنكار الطبائع غير الديمقراطية لنظام يخلط بين الدين والسياسة ويجرد مواطنيه من عديد الحقوق والحريات.