باءت المحاولة الأخيرة لإعادة ضبط العلاقات بين تركيا واليونان بالفشل على الرغم من كونها إيجابية. وفي وقت سابق من هذا الشهر، زار رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس أنقرة لإجراء محادثات مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
لكن كان من الصعب قياس الحالة المزاجية قبل الاجتماع، فقبل أيام قليلة على لقاء الزعيمين، أعادت تركيا رسميا فتح أحد مواقع التراث العالمي التابعة للأمم المتحدة، وهو الموقع الذي كان قبل تحويله إلى مسجد أثناء الحكم العثماني ومتحف عام 1945، في الأصل كنيسة بيزنطية بارزة (كنيسة القديس المخلص في خورا).
وردا على ذلك، تقدمت اليونان بطلب إلى منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو).
وفي الماضي، كانت مثل هذه الأحداث المريرة بين تركيا واليونان تغذي دورة متكررة من الشك المتبادل والخطاب الغاضب كما حدث مع تحويل كنيسة أيا صوفيا إلى مسجد قبل أعوام. لكن زيارة رئيس الوزراء اليوناني إلى أنقرة مضت كما هو مخطط لها.
ويقول ديميتريس تساروهاس، وهو رئيس برنامج أبحاث تركيا في مركز الدراسات الأوروبية، في تقرير نشره المعهد الأطلسي، إن المؤتمر الصحفي على الرغم من أنه كشف عن خلافات بين القادة، إلا أن قرارهم بتسليط الضوء على وجهات نظرهم المختلفة بشأن الحرب بين حماس وإسرائيل بدلا من الاستمرار في الخلافات الثنائية يظهر رغبتهم في الحفاظ على الزخم الإيجابي.
ويعتبر هذا أمرا لافتا للنظر، نظرا لأن الحليفين في حلف شمال الأطلسي كادا أن يقتربا من حافة الصراع في صيف عام 2020، وتم تجنبه من خلال بعض الدبلوماسية الذكية والمناورات الهادئة.
التفاؤل العلني بشأن آفاق العلاقات بين اليونان وتركيا ليس له ما يبرره فالبلدان لم يحاولا الابتعاد عن مواقفهما الراسخة
وتوسعت قائمة النزاعات الثنائية في السنوات الأخيرة، وتمت إضافة نزاعات جديدة مثل المطالبات المتنافسة على موارد الطاقة في شرق البحر المتوسط إلى قائمة النزاعات الثنائية بشأن قبرص.
وبينما عززت اليونان تعاونها في مجال الدفاع والطاقة مع الولايات المتحدة وفرنسا وإسرائيل، اتهمت تركيا اليونان باتخاذ موقف متطرف في شرق البحر المتوسط، في حين دعت أثينا إلى تجريد جزر بحر إيجه من السلاح.
وتصاعدت التوترات بعد أن أرسلت تركيا سفينة أبحاث زلزالية، مصحوبة بزوارق حربية، إلى المياه المتنازع عليها بين اليونان وقبرص ووقعت معاهدة حدود بحرية مثيرة للجدل مع حكومة الوفاق الوطني السابقة في ليبيا، مما أثار غضب الدول المجاورة في المنطقة.
وعلاوة على ذلك، أدى قرار أنقرة فتح حدود تركيا مع اليونان في فبراير 2020 أمام سفر المهاجرين إلى أوروبا، ورفض اليونان السماح بالمرور إلى البلاد، إلى زيادة التوتر، حيث أطلقت الشرطة من كلا البلدين الغاز المسيل للدموع على حدودهما المشتركة، مما أدى في النهاية إلى بناء سياج ونظام مراقبة بطول خمسة وعشرين ميلا على طول الحدود.
ومع تصاعد هذه التوترات مع مرور الوقت، ظل الموقف الرسمي لليونان هو أن الخلافات الوحيدة بين البلدين تكمن في تحديد حدود الجرف القاري والمناطق الاقتصادية الخالصة لكل منهما، وأن الفشل في الاتفاق بشكل ثنائي حول هذه القضايا يجب أن يدفع البلدين إلى التسوية من خلال التحكيم لدى محكمة العدل الدولية في لاهاي.
افتتاح نادر
إعادة ضبط العلاقات ليس بالأمر الهين
إعادة ضبط العلاقات ليس بالأمر الهين
مهدت الزلازل المدمرة التي ضربت تركيا وسوريا في فبراير 2023 الطريق لمحاولة إعادة ضبط العلاقات. وكانت اليونان من أوائل الدول التي تعهدت بتقديم الدعم لتركيا، وسارع وزير الخارجية اليوناني آنذاك لزيارة نظيره التركي وقام بجولة في المنطقة المتضررة، متعهدا بتقديم الدعم من الاتحاد الأوروبي.
وبعد بضعة أشهر، حصل ميتسوتاكيس وأردوغان على تفويض جديد في الانتخابات التي جرت في بلديهما، الأمر الذي أدى إلى تحريرهما فعليا للعمل بشكل مستقل عن الحسابات الانتخابية.
وفي هذا السياق، في ديسمبر 2023، سافر وفد تركي كبير من الوزراء ورجال الأعمال برئاسة أردوغان إلى أثينا.
ووقّع الجانبان ما مجموعه خمس عشرة اتفاقية ثنائية بما في ذلك إعلان أثينا، وهو وثيقة سياسية تلزم الجانبين بتعزيز صداقتهما وتنمية علاقات حسن الجوار.
وتسعى اليونان وتركيا إلى الحوار على ثلاثة مستويات: الأول هو ما يسمى “الأجندة الإيجابية” للتعاون في مجالات التجارة والتعليم والبحث والسياحة بين أمور أخرى.
وتعهد البلدان بمضاعفة حجم التجارة الثنائية بينهما ليصل إلى عشرة مليارات دولار، واتفقا على إقامة منتدى أعمال يوناني – تركي.
ويهدف قرار اليونان بتمديد التأشيرات السياحية للمواطنين الأتراك لزيارة جزر مختارة في شرق بحر إيجه على مدار العام إلى تعزيز العلاقات بين الشعوب، وهو أيضا اعتراف بتعاون أنقرة المكثف مع السلطات اليونانية وسلطات الاتحاد الأوروبي بشأن الهجرة، وهو أحد المجالات العديدة ذات الاهتمام المشترك، حيث من المحتمل أن يتطلب مثل هذا الترتيب موافقة الاتحاد الأوروبي.
ويتعلق المستوى الثاني بتدابير بناء الثقة، على سبيل المثال لتجنب التوتر بشأن بحر إيجه من خلال الاتفاقيات بشأن قواعد التدريبات العسكرية والتدريبات وإنشاء خط ساخن بين المقرات العسكرية والمدنية في البلدين.
واستؤنفت المحادثات في عام 2023 بعد توقف طويل وأدت حتى الآن إلى الهدوء بشأن بحر إيجه.
ومثل هذا الهدوء منطقي من الناحية الاقتصادية، فضلا عن السياسية: فالمعارك الجوية مكلفة، وكل من الجانبين يفضل الاستثمار في الصحة والتعليم والخدمات التي تدعم المواسم السياحية المزدحمة.
وأما المستوى الثالث فهو الحوار السياسي لمعالجة الخلافات الثنائية الشائكة بالفعل القائمة منذ عقود. ولم يتم تحقيق تقدم كبير على هذه الجبهة وسيتطلب إعدادا قويا وشجاعة سياسية ورغبة في التوصل إلى تسوية بشأن القضايا التي اعتاد الجانبان على النظر إليها على أنها غير قابلة للتفاوض.
هل يستمر الزخم الإيجابي؟
قائمة النزاعات الثنائية تتسع
قائمة النزاعات الثنائية تتسع
بينما تستمر الحروب في أوكرانيا وغزة، فإن لكل من اليونان وتركيا مصلحة خاصة في أن يُنظر إليهما على أنهما قوة استقرار في منطقة غير مستقرة.
ويشير موقف أنقرة الأكثر ودية تجاه اليونان إلى أنها تدرك الدور الرفيع الذي تلعبه أثينا في شرق البحر المتوسط، وأن العمل جنبا إلى جنب (وليس ضد) اليونان مهم في محاولاتها الأوسع لإعادة بناء علاقتها مع جيرانها الإقليميين.
وعلاوة على ذلك، تدعم كل من واشنطن وبروكسل جهود المصالحة بين اليونان وتركيا حيث يحتل التعاون في مجال الطاقة والدفاع مكانة عالية في جدول أعمال أنقرة وواشنطن حيث تحاولان تنحية الخلافات الرئيسية بشأن إسرائيل وروسيا وسوريا جانبا.
وبالنسبة للاتحاد الأوروبي، تعد أنقرة لاعبا رئيسيا في محاولتها إضفاء الطابع الخارجي على إدارة سياسة الهجرة الخاصة بها، ويعد التعاون بين الاتحاد الأوروبي وتركيا في شؤون التجارة والطاقة أمرا بالغ الأهمية أيضا.
ومع ذلك، فإن التفاؤل العلني بشأن آفاق العلاقات بين اليونان وتركيا ليس له ما يبرره. فأولا، يختلف البلدان حول مجموعة من القضايا، ولم يحاولا الابتعاد عن مواقفهما الراسخة.
وفيما يتصل بقضايا السيادة والهوية، ناهيك عن النزاع القبرصي، فإن التكلفة السياسية المترتبة على محاولة تحقيق انفراج حقيقي قد تكون باهظة إلى حد كبير.
قرار اليونان بتمديد التأشيرات السياحية للمواطنين الأتراك لزيارة جزر مختارة في شرق بحر إيجه على مدار العام يهدف إلى تعزيز العلاقات بين الشعوب
وثانيا، حتى القضايا “من الدرجة الثانية” تحمل في طياتها إمكانية عرقلة الأجواء الإيجابية. وأثار إعلان اليونان عن إنشاء حديقة وطنية بحرية ثانية في بحر إيجه، باسم حماية البيئة وكجزء من التزامات البلاد المتعلقة بالاتحاد الأوروبي، رد فعل من أنقرة، حذرت فيه وزارة الخارجية اليونان من أن الحديقة تقع في بحر إيجه، المنطقة المتنازع عليها وقالت إنها تشتبه في أن هذه الخطوة لها دوافع سياسية.
وثالثا، ليست هذه هي المرة الأولى التي يتطلع فيها البلدان إلى تحسين العلاقات: فقد ارتكز التقارب اليوناني – التركي في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين على إضفاء الطابع الأوروبي على السياسة الخارجية اليونانية وجهود الإصلاح التي بذلتها تركيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
وتم إنشاء مجلس التعاون اليوناني – التركي في عام 2010، ليتم نسيانه وسط تصاعد التوتر والتنافس الجيوسياسي.
ولذلك فمن السابق لأوانه الحديث عن حقبة جديدة في العلاقات الثنائية. وحتى الآن، لا تزال جميع القضايا السياسية المثيرة للجدل دون حل.
ومع ذلك، فإن التقدم الذي أحرزه الجانبان حقيقي، فقد أصبحت علاقاتها الاقتصادية أقوى، وتلعب الجهات الفاعلة غير الحكومية، مثل الشركات ومنظمات المجتمع المدني، دورا أكبر في تعميق العلاقات.
ومن المقرر أن يجتمع أردوغان وميتسوتاكيس مرة أخرى هذا العام على هامش قمة حلف شمال الأطلسي في الصيف والجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر، بعد أن التقيا ثلاث مرات في عام 2023.
وسيكشف هذا العام ما إذا كان الزعيمان يستطيعان تعميق علاقتهما المتبادلة والتفاهم وبناء خزانات الثقة التي من شأنها أن تسمح في نهاية المطاف بإحراز تقدم في القضايا السياسية رفيعة المستوى.