منذ ان اندلعت الانتفاضة السورية في 15 آذار/مارس عام 2011م، ضد حكم الرئيس بشار الأسد، ونتيجة التباين الشديد في مواقف القوى الدولية والإقليمية بشأنها، لم يبق مستوى من مستويات العنف إلا وطبّق عليها بدءا من الخلاف السياسي مرورًا بالأزمة السياسية، ثم الصراع السياسي،ثم الثورة، ثم الحرب الأهلية وأخيرًا بدأ الحديث عن تقسيم سوريا.
فالانتفاضة ومنذ نشوبها وحتى يومنا الحاضر، سيطرت عليها رؤيتين للحل لا ثالث لهما، وهذا قد يكون السبب المباشر في إطالة أمدها. فالأولى تمثلها المعارضة السورية والتي ترى في موقفا روسيا وإيران الرافضان للإنتفاضة السورية على إنها جزء من المشكلة وليس الحل، وعلى نحو مغاير ترى السلطة الحاكمة في سورية ممثلة بالرئيس بشار الأسد بأن موقف كل من الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الغربية كفرنسا وبعض الدول الخليجية كالمملكة العربية السعودية وقطر إضافة إلى تركيا الداعم للانتفاضة السورية جزء من المشكلة أيضا.
فمن وجهة نظر المعارضة السورية لكي تكون روسيا وإيران جزء من الحل، ترى عليهما أن يقبلا برحيل بشار الأسد عن الحكم وهذا ما يرفضانه لغاية الآن. ولعل رفض رحيله ودعمه للبقاء له ما يبرره من منطلق المصالح الوطنية لكل منهما. فروسيا ترى في حكم الرئيس بشار الأسد آخر امتداد استراتيجي لها في الوطن العربي. لذلك لم يكن مستغرباً ما تقدم له من دعماً دبلوماسياً سواء في استخدامها المتكرر لحق النقض”الفيتو” في مجلس الأمن الدولي التابع لهيئة الأمم المتحدة على أي مسودة قرار تشير إلى رحيله عن الحكم،كما تقدم له الدعم العسكري.
فهي في التمسك ببشار الأسد تدافع عن تماسك بيئتها الداخلية، فهي كانت -ولاتزال- تخشى من فرضية أن يمكن مشهد التغيير العربي الأحزاب السياسية ذات مرجعية إسلامية من الوصول إلى الحكم، وأن تعمل هذه الأحزاب -فيما بعد- على مساعدة الشيشان في الإنفصال عن دولة روسيا الإتحادية.
وعبر سوريا أيضا تحاول روسيا التأكيد على عناصر قوتها المادية والمعنوية، من خلال إيصال رسالة إلى جماعة الدولية بشكل عام والغربية كالولايات المتحدة الأمريكية بشكل خاص، بأن روسيا التي التزمت موقف الصمت حيال تدخل حلف شمال الأطلسي “الناتو” في كوسوفا عام 1999م، وموقف العاجز أثناء العدوان الأمريكي على العراق ثم إحتلاله في العام 2003م، والموقف المتفرج من سقوط الرئيس الليبي السابق معمر القذافي في العام 2011م تختلف تماما في تعاطيها الدبلوماسي والعسكري مع الانتفاضة السورية.
كما أن التمسك ببشار الأسد رئيسًا على سوريا، يضمن لروسيا في الحفاظ على قواعدها العسكرية في مدينة طرطوس على البحر المتوسط، كما يضمن لها أيضًا احتكارها سوق تصدير الغاز الطبيعي لأوروبا، فهو يعد السلاح السياسي الذي يمكن لروسيا أن تبتز فيه أوروبا إذا اختلفت أو تناقضت الرؤى والمصالح بينهما. فرحيل بشار الأسد يمثل لروسيا خسارة جيو سياسية في غاية الأهمية، لأنه في حالة رحيله سوف ينتهي الاحتكار الروسي للغاز الطبيعي، من خلال تصدير الغاز الطبيعي القطري لأوروبا عبر تركيا، إذ تحاول روسيا تعطيل هذا المشروع بكل الوسائل الممكنة.
أما إيران، تجمعها مع سوريا حافظ الأسد وبشار الأسد علاقة استراتيجية تمتد إلى أكثر من ثلاثة عقود من الزمان، ساهمت تلك العلاقة بمد النفوذ والتأثير الايراني إلى لبنان عبر حزب لله وإلى فلسطين المحتلة من خلال الحركات الإسلامية كحركة الجهاد الإسلامي،واليمن من خلال الحوثيون، أما العراق فقد مثّل إحتلاله من قبل الولايات المتحدة الأمريكية في 9نيسان/إبريل عام2003، ومن ثم سيطر حلفائها من الأحزاب الشيعية كحزب الدعوة عليه، مكسباً استراتيجياً لإيران اذ اضحىت “البوابة الشرقية” مجالاً حيوياً جديداً لها.
لذلك ترى إي تغيير في السلطة الحاكمة في سورية يطال بشار الأسد يعني إعاقة مشروعها القومي وربما نهايته في حالة تعافي العراق من الأمراض السياسية”الاستبداد” والإقتصادية”الفساد” والاجتماعية” الطائفية والإقصاء” والأمنية “الاعتقالات ضد أبناء المكون السُني”، و”سيطرة المليشيات على المشهد السياسي العراقي” والعسكرية “عدم سيطرة الحكومة العراقية على كامل التراب العراقي” التي ألمت به بعد عام 2003م. وفي هذا التحليل لموقف الدولتين”الروسية والإيرانية”من الانتفاضة السورية، يمكن أن ندرك وفق منهج المصلحة الوطنية في العلاقات الدولية لماذا روسيا وإيران جزءًا من المشكلة وليس الحل؟
أما من وجهة نظر السلطة الحاكمة في سورية فلكي تكون تركيا والمملكة العربية السعودية وقطر والولايات المتحدة وبعض الدول الغربية كفرنسا جزءا من الحل، عليهم أن يوافقوا على استمرار الرئيس بشار الاسد في الحكم كآلية للحل. وهذا الرفض من قبل تلك الدول له أيضًا ما يبرره من منطلق الدوافع المصلحية لكل دولة.
لا أحد ينكر الموقف تركيا الأخلاقي الداعم للانتفاضة السورية، كما لا أحد ينكر أيضاً مصلحتها في رحيل بشار الأسد عن الحكم لاسيما بعد الانتهاكات الإنسانية التي ارتكبها بحق شعبه، فعلى الرغم من تقدم العلاقات الايرانية التركية في ظل حكومة العدالة والتنمية، إلا أن ذلك لا يخف شدة التنافس الإقليمي بينهما. فمن وجهة النظر التركية أن سوريا ” بشار الأسد” يشكل إحدى دعائم القوة الخارجية الاقليمية لإيران، فرحيله أو سقوطه أو تغييره يعني إضعاف القوة الإيرانية، فأي تغيير في المشهد السوري هو تعزيز مكاسب القوة التركية.
أما المملكة العربية السعودية، فتسعى إلى ضمان أمن شبه الجزيرة العربية وتقليص النفوذ الايراني المتزايد في البيئة العربية، فالمملكة تدرك محاولات إيران الجادة في زعزعة استقرار الجزيرة العربية من خلال خلاياها النائمة في بعض دول شمال الجزيرة العربية كدولة مملكة البحرين على سبيل المثال، أما جنوب الجزيرة فقد أبطلت المملكة العربية السعودية من خلال عاصفة الحزم ضد جماعة الحوثيون حلفاء إيران في اليمن من تمدد نفوذها إليه.
وحسب هذه المعطيات الراهنة فالمملكة العربية السعودية تعي جيدًا إن إنهاء النفوذ الإيراني في المشرق العربي يبدأ عبر رحيل بشار الأسد عن حكم سوريا، فانسلاخ سوريا عن ايران، يعد تقوية للموقف السعودي، ومما لاشك فيه، أن أي نظام سياسي سوري في مرحلة ما بعد بشار الأسد سيكون في حالة قطيعة مع إيران ليس فقط بوصفه حليفًا لها، وإنما أيضا لمشاركتها الفعالة في الإجهاز على الانتفاضة السورية بتقديم كل أشكال الدعم العسكري للرئيس بشار الأسد، واستقدام مليشيات شيعية من مختلف الدول العربية والإسلامية للقتال معه.
أما قطر التي شهدت علاقاتها تقدماً “حذراً” مع سوريا في مرحلة ما بعد العدوان الإسرائيلي على لبنان في صيف عام 2006م، إلا أنها تراجعت وبشكل ملحوظ مع انطلاق الانتفاضة السورية ودعمها لها. فقطر كالمملكة العربية السعودية وسائر دول الخليج العربي باستثناء سلطنة عُمان التي تجمعها علاقات جيدة مع سوريا الأسد وإيران، لا يروق لهم العلاقة الاستراتيجية بين ايران وسوريا تلك العلاقة التي يشكل البعد الطائفي إحدى أبعادها الرئيسة، والذي من شأنه أن يهدد أمن الخليج، ناهيك عن طبيعة العلاقات المتميزة التي تربط دولة قطر مع الدول الغربية وبمقدمتها الولايات المتحدة الامريكية. فجاءت الانتفاضة السورية كحدث تاريخي لا بد من توظيف استراتيجي له، لفصم عرى العلاقة بين ايران وسوريا.
أما الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، منطقياً ما يحدث في سوريا يصب في مصالحها العليا، يكفي أنه في رحيل الرئيس بشار الأسد يعد ضربة موجعة لإيران التي ترتبط علاقاتها مع الولايات المتحدة الأمريكية منذ الثورة الإيرانية بتاريخ من العداء كما هو مُعلن. لكن موقفها المتفرج من مجازره تضع العديد من علامات الاستفهام؟ هل حقّا عدم التوافق الدولي في مجلس الأمن هو السبب في عدم تحركها؟ الاجابة كلا، لانها سبق وتحركت خارج اطار الامم المتحدة سواء كان في حالة كوسوفا 1999م، وحالة العراق في عام 2003م. أم عدم تحركها يعود إلى فرضية “عام الرئاسة الأمريكية” ذلك العام الذي تنكفئ فيه الإدارة الأمريكية إلى شأنها الداخلي. لكن السؤال الذي يطرح في هذا السياق، لو كانت سوريا وما يحدث فيها على مدار أكثر من خمسة أعوام تدخل في اطار المصالح الحيوية للولايات المتحدة الأمريكية، هل كانت ستترك على هذا النحو؟ أما أن السلطة الحاكمة في سورية تحولت الى مجال رحب للسياسة الامريكية لكي تساوم من يهمه أمر بقاؤها في السلطة، أو تتركها تسقط تدريجيا لإنهاكها وإنهاك حلفائها وانهاك الشعب السوري معها، وبذلك تكون الولايات المتحدة الأمريكية حققت أهدافها في سوريا دون تدخل مباشر.
مما تقدم، يمكن القول بأن الوضع الميداني في سوريا من تدخل عسكري روسي مباشر واغتيال قيادات من المعارضة العسكرية السورية المعتدلة كزهران علوش تكون قد تجاوز كل مبادرات الحل الدبلوماسي، والذي كان آخرها قرار مجلس الأمن الدولي الذي صدر في 20 كانون الأول/ديسمبر من العام الماضي، والمرقم “2254” يتعلق بخارطة طريق لحل الأزمة السورية، فالقرار لم يأتي من قريب أو بعيد عن مصير بشار الأسد الذي يعتبر من وجهة نظر المعارضة السورية والقوى الإقليمية كتركيا والمملكة العربية السعودية جوهر المشكلة. لنصبح أمام ثلاث احتمالات، أولهما، أما أن تسحق السلطة الحاكمة في السورية بالتعاون مع حلفائها الروس والإيرانيون وحزب الله والمليشيات الشيعية الانتفاضة، وما أدل على هذا الاحتمال هو، التدخل العسكري الروسي المباشر في الأزمة السورية في 30أيلول/سبتمبر من العام الماضي، بذريعة محاربة تنظيم الدولة في العراق وبلاد الشام”داعش” ونقل بعض صواريخها النوعية كصواريخ”إس400″، وعدم استهدافها لغاية الآن ذلك التنظيم، واستهداف فقط المعارضة المعتدلة التي تقاتل حليفها بشار الأسد.
ثانيهما، أن يسقط حكم الرئيس السوري بشار الأسد نتيجة الدعم العسكري للمعارضة السورية من قبل دول إقليمية كالمملكة العربية السعودية وتركيا ولعل تأسيس مجلس التعاون الاستراتيجي بينهما يُبنى عليه هذا الاحتمال.
أما الاحتمال الثالث فيتمثل في تقسيم سوريا إلى مقاطعات طائفية كالمقاطعة السنية في وسط سوريا والعلوية على ساحل البحر المتوسط والدرزية في جنوبي سوريا، وعرقية كالمقاطعة الكردية شمالي شرق سوريا. وهذا ما توضحه الخارطة أدناه: