المنظور الحكومي الرسمي العراقي لتواجد عناصر حزب العمال الكردستاني على الأراضي العراقية قد لا يتضارب مع المنظور التركي للحزب باعتباره عبئا أمنيا وعائقا في طريق توسيع الشراكة بين أنقرة وبغداد، لكن علاقات أحزاب وفصائل مسلحّة مع الحزب ذاته ومواقفها من تركيا تكبح ترجمة ذلك المنظور إلى إجراءات عملية ضدّه.
بغداد – بات الموقف من وجود مقاتلي حزب العمال الكردستاني على الأراضي العراقية يشكّل مصدر إزعاج متزايد لحكومة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني لا يقل عن الإزعاج الذي يسببه لها ملف وجود القوات الأميركية في العراق.
وفي كلا الملفين تجد حكومة السوداني الراغبة في تقديم أداء مختلف عن سابقاتها في مجالات الأمن والتنمية والخدمات نفسها عالقة بين أطراف وشركاء جميعهم مهمّون لها.
ومثلما تجد الحكومة صعوبة في التوفيق بين الأحزاب والفصائل المسلحة المشاركة بقوة في تشكيلها وتوفير الغطاء السياسي لها والمطالِبة بإخراج القوات الأميركية من البلاد، من جهة، والولايات المتحدة الأميركية المصرّة على الإبقاء على تلك القوات من جهة مقابلة، تجد بنفس القدر صعوبة في التوفيق بين تركيا والأحزاب والفصائل ذاتها والمعترضة بشدّة على التدخّل العسكري التركي بشمال العراق لملاحقة مقاتلي حزب العمّال الكردستاني.
وتخشى جهات عراقية أن يؤدي تصاعد التراشق بين أنقرة وبعض تلك الأحزاب والفصائل إلى تفجير مسار الشراكة التركية – العراقية الناشئة وشديدة الأهمية للطرفين لشمولها ملفات حيوية مثل ملف المياه ومشروع طريق التنمية الذي توافق العراق بشأن إنجازه مع بلدان إقليمية من بينها تركيا.
فشل سياسي تركي في إقناع بغداد بانخراط كامل في مواجهة حزب العمال عقّد جهود الحسم العسكري ضد الحزب
وشهد ذلك التراشق خلال الأيام الأخيرة تصعيدا نوعيا بتوجيه تركيا اتهاما صريحا لجهات عراقية بالتواطؤ مع حزب العمال الكردستاني وإمداده بالأسلحة التي يستخدمها في مواجهته ضدّ الجيش التركي، مهدّدة بضرب طرق ومواقع إمداد تلك الأسحلة لاسيما مطار السليمانية بشمال العراق.
وورد في تقرير صحفي تركي أنّ فصائل عراقية تشارك في تأمين تدفق شحنات من السلاح إلى مناطق تواجد مقاتلي حزب العمال بشمال العراق تحتوي على طائرات دون طيار وصواريخ، مستخدمة مطار السليمانية كمحطة لوجستية رئيسية في عمليات إمداد الحزب بالأسلحة والذخائر.
وتقع محافظة السليمانية ضمن دائرة نفوذ حزب الاتّحاد الوطني الكردستاني والذي تتهم أنقرة قيادته بالتواطؤ مع حزب العمال واحتضان قادته ومقاتليه بالتنسيق مع فصائل عراقية مسلّحة.
ولم يخل التقرير الذي نشرته صحيفة يني شفق المقربة من حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا من تهديد باستخدام القوة في ضرب سلسلة إمداد حزب العمال بالسلاح في العراق بما في ذلك المطار الذي قالت الصحيفة إنّ الحزب يتخذه أيضا موقعا لتدريب مقاتليه وإنّه تلقى عبره مؤخرا شحنة منظومات جوية، دون الإشارة إلى مصدرها.
كما ورد أيضا بذات التقرير أنّ “قوات الأمن التركية قامت بتوثيق جميع الشحنات التي أرسلت لحزب العمال الكردستاني بعد أن تمّ التأكد من أن طائرة مدنية محمّلة بالذخائر هبطت في مطار السليمانية، وأن تركيا لن تبقى مكتوفة الأيدي باستمرار حيال هذه الشحنات المرسلة إلى المنظمة الإرهابية، وصدر أمر باستهداف كل شحنة مرسلة إلى حزب العمال الكردستاني”.
جهات عراقية تخشى أن يؤدي تصاعد التراشق بين أنقرة وبعض تلك الأحزاب والفصائل إلى تفجير مسار الشراكة التركية – العراقية الناشئة
ونُقل عن مسؤولين أتراكا قولهم إنّهم طالبوا قوباد طالباني القيادي في حزب الاتحاد الوطني الذي يشغل منصب نائب رئيس حكومة إقليم كردستان العراق ببسط السيطرة على مطار السليمانية وإغلاقه في وجه أنشطة حزب العمال وتلقوا وعودا بذلك لكن حزب الاتّحاد لم يلتزم بها، ما جعل أنقرة تمدّد حظر الرحلات الجوية من المطار السليمانية وإليه حتى نهاية العام الجاري.
واعتبر مطلعون على ملف العلاقات بين تركيا والعراق أنّ تصاعد لهجة التهديدات من قبل تركيا مؤشر على فشل مزدوج سياسي وعسكري.
وقال أحد هؤلاء إنّه يبدو أن حكومة الرئيس رجب طيب أردوغان لم تحقّق النجاح المأمول من حملتها السياسية والدبلوماسية وتواصلها الكثيف مع المسؤولين العراقيين من مختلف الاختصاصات والمستويات، في إقناع الجانب العراقي بالانخراط بشكل عملي وفاعل في المواجهة ضد حزب العمّال الكردستاني، وأن أقصى ما توصلت إليه هو ضمان صمت بغداد على توسيع الجيش التركي لمسرح عملياته ضدّ الحزب داخل أراضي العراق.
وأوضح أن ذلك لا يعود لعدم رغبة حكومة السوداني في حسم ملف حزب العمال والتخلّص من عبئه، بقدر ما يعود إلى ارتباطاتها مع قوى سياسية وفصائل مسلّحة داعمة للحزب ومناوئة لتركيا لأسباب معقدّة من بينها التنافس على النفوذ في العراق بين أنقرة وطهران الحليفة للأحزاب والفصائل نفسها.
وبشأن المظهر العسكري للفشل التركي، أوضح نفس المتحدّث أنّ ما أعلنت عنه تركيا خلال الأشهر الأخيرة بشأن عزمها على حسم الحرب ضد حزب العمّال خلال الصائفة الجارية يبدو بعيد المنال إذ لم يسفر تكثيف القوات التركية لعملياتها في عدد من مناطق تواجد مقاتليه بالشمال العراقي سوى عن خسائر محدودة له، حيث ماتزال تلك القوات تعوّل بشكل كبير على القصف المدفعي والغارات الجوية بالطيران المروحي والنفاث والمسيّر، غير الفعال ضدّ تحصينات الحزب في المناطق الوعرة وكثيفة الغطاء النباتي، أما محاولات النزول على الأرض وتنفيذ اقتحامات برية محدودة فجوبهت في الغالب بكمائن وهجمات مضادّة خاطفة أوقعت خسائر بشرية في صفوف الجيش التركي.
توجيه جزء من العملية العسكرية ضدّ السليمانية أمر غير مستبعد في ظل التهديدات المتعدّدة الصادرة عن أنقرة
وتنفيذا لوعيد أطلقه الرئيس التركي في وقت سابق بحسم الحرب ضدّ حزب العمال في وقت قريب، صعّدت القوات التركية خلال الفترة الأخيرة بشكل لافت من عملياتها العسكرية في مناطق شمال العراق، وأرفقت جهدها بإجراءات لتركيز وجود عسكري ثابت لها في تلك المناطق من خلال إقامة القواعد العسكرية على أرضها.
وشرعت تركيا حديثا في بناء قاعدة عسكرية جديدة في محافظة دهوك بإقليم كردستان العراق في ظل صمت رسمي عراقي.
وتقول مصادر أمنية وعسكرية عراقية إنّه في مقابل عدم تحقيق الحسم المنشود للحرب ضدّ حزب العمال الكردستاني، تعمل تركيا بشكل متسارع على تركيز وجود عسكري دائم لها على أراضي العراق.
ورصدت مصادر محلية خلال الثماني والسبعين ساعة الماضية تدفّق أعداد كبيرة من القوات التركية المدجّجة بالأسلحة الثقيلة إلى مناطق بإقليم كردستان العراق. وأظهرت لقطات فيديو تقدّم رتل طويل من الآليات العسكرية الثقيلة في محافظة دهوك التابعة للإقليم.
وقالت المصادر إنّ ذلك يؤشّر على تصعيد عسكري تركي في تلك المناطق في نطاق ما وعدت بها السلطات التركية من حسم وشيك للحرب ضدّ الحزب.
ولفتت إلى أنّ توجيه جزء من العملية العسكرية ضدّ السليمانية أمر غير مستبعد في ظل التهديدات المتعدّدة الصادرة عن أنقرة.
تصاعد لهجة التهديدات من قبل تركيا مؤشر على فشل مزدوج سياسي وعسكري
وأشار غياث السورجي القيادي في حزب الاتّحاد الوطني إلى “دخول قوات كبيرة مدرعة لجيش الاحتلال التركي لقضاء العمادية بمحافظة دهوك شمالي العراق”. وقال إن “القوات التركية مهيمنة ومسيطرة على نصف شمال العراق”، مشيرا إلى أن “القوات التركية تستخدم جميع الأسلحة لاستهداف المناطق السكنية في محافظة دهوك وقضاء سنجار ضمن محافظة نينوى”.
وأضاف في تصريحات لوسائل إعلام محلية إلى أن “تركيا تواصل عمليات القصف الجوي على قرى في شمال العراق، ما تسبب في نزوح أهالي تلك المناطق وخلوها من سكانها”.
وتتالى خلال الفترة الأخيرة إعلان القوات التركية عن إلحاقها خسائر جسيمة بمقاتلي حزب العمّال في مظهر على تصعيد القتال ضدّهم في مواقع تمركزهم بشمال العراق، لكن ذلك يظل بعيدا عن السقف العالي الذي وضعته تركيا لعملياتها ضدّ الحزب والمتمثّل في حسم الحرب الدائرة منذ أربعة عقود في بحر هذا الصيف.
وقد يفسّر ذلك الخطابَ السياسي التركي الذي بدا بصدد البحث عوامل خارجية لما قد تشهده العملية العسكرية من تعثّر في تحقيق هدفها بالغ الطموح.
واتّهم وزير الدفاع التركي يشار غولر في وقت سابق قيادة حزب الاتّحاد الوطني بالتواطؤ مع حزب العمال، مشيرا بالإسم إلى بافل جلال طالباني رئيس حزب الاتّحاد.
وقال إنّ “بافل هو الإسم الذي كان على رادار تركيا لفترة طويلة، وإنّ الدعم المقدم للتنظيم الإرهابي في السليمانية يحظى بمتابعة وثيقة من أنقرة”.
وأضاف الوزير في تصريحات صحفية “المسألة التي كنت أتساءل عنها هي ما إذا كنا سنتخذ خطوات أخرى غير الحظر الجوي على أجواء السليمانية.. وعما إذا كانت تركيا ستتخذ خطوات أخرى ضد بافل طالباني”.
وشمل الوزير التركي بتصريحاته النارية إيران قائلا “في الآونة الأخيرة تزايدت الأخبار التي وصلتني حول دعم إيران للمنظمة الإرهابية.. وقلت لنظرائنا الإيرانيين: نحن أصدقاء وجيران، ونحن نبذل قصارى جهدنا لنبقى أصدقاء وجيرانا لقرون قادمة، ولسوء الحظ فإن أصدقاءنا الإيرانيين لا ينظرون إلى إرهابيي حزب العمال الكردستاني بنفس الطريقة التي ننظر بها إليهم”.
كما اتهم الإيرانيين بغض الطرف عن تسرّب عناصر حزب العمال إلى أراضيهم قائلا “نقول للإيرانيين الرجال موجودون هناك في ذلك المنزل، وهذا هو العنوان الذي يقيمون فيه، وبعد فترة قصيرة يأتي الجواب: لقد بحثنا في هذا العنوان ولم نجد من تبحثون عنهم”.
العرب