قمة “الناتو” فرصة أخرى للتصدي لروسيا في “الجنوب”

قمة “الناتو” فرصة أخرى للتصدي لروسيا في “الجنوب”

سبق أن بدأ حلف “الناتو” بالانخراط بشكل أكبر في الشرق الأوسط وأفريقيا، لكن التهديدات المختلفة ضد الملاحة البحرية والبنية التحتية تتطلب اهتماماً عاجلاً، شأنها شأن المشكلة الأكبر المتمثلة في التصدي للسردية الروسية.

من المقرر أن يعقد “حلف شمال الأطلسي” (“الناتو”) قمته الأخيرة في الفترة بين التاسع إلى الحادي عشر من تموز/يوليو في لحظة بالغة الأهمية من مسيرته. ومع بلوغ الحلف عامه الخامس والسبعين، تستمر حرب روسيا ضد أوكرانيا في تهديد الأمن العالمي، مما دفع الكثيرين إلى الإقرار بأن حل الصراع يتطلب النظر إلى أبعد من أوكرانيا، ويشمل ذلك وضع الشرق الأوسط والمناطق المجاورة في طليعة استراتيجية “الناتو” وصميمها، سواء في قمة واشنطن أو خارجها – وهذه رسالة أكدها مسؤولو الحلف مراراً وتكراراً، في السر كما في العلن.

والسؤال الذي يُطرح بعد ذلك هو ما هي أفضل طريقة لمواجهة موسكو في هذه المناطق، مع مواصلة التعامل بفعالية مع الشركاء المحليين؟ إن النقطة التي يمكن الانطلاق منها هي التركيز على ثلاث قضايا رئيسية: حماية طرق التجارة البحرية، وتأمين البنية التحتية الحيوية، والتصدي للسردية الروسية.

الحرب وجنوب “الناتو”
سلطت حرب أوكرانيا الضوء على مدى تأثير الأحداث في جنوب “الناتو” (أي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ومنطقة الساحل والمناطق البحرية المجاورة) بشكل مباشر على الأمن الأوروبي-الأطلسي. ولعل أوضح مثال على ذلك هو علاقة موسكو المتعمقة مع طهران، والتي تشمل استخدام الطائرات الإيرانية بدون طيار لتنفيذ مهام قتالية وانتحارية واستخباراتية في أوكرانيا. وعلى نحو مماثل، يفرض الوجود الروسي في سوريا وليبيا تحديات أمنية متعددة للغرب. فـ “مجموعة فاغنر” و”فيلق أفريقيا” الذي خلفها ساعدا فعلياً الكرملين على تحقيق أهداف متعددة لسياسته الخارجية بتكلفة منخفضة في مختلف أنحاء الشرق الأوسط وأفريقيا. وتفيد التقارير أيضاً أن روسيا تستخدم حليفتها بيلاروسيا لتحويل الهجرة من هذه المناطق إلى سلاح، وإعادة توجيه الأفراد الذين ربما حاولوا بصورة طبيعية دخول أوروبا عبر الطرق الجنوبية، وإرسالهم عبر الحدود الشرقية بدلاً من ذلك.

وتربط الممرات المائية الاستراتيجية حلف “الناتو” بـ”الجنوب” أيضاً، وفق ما تبين من حرب أوكرانيا وحرب غزة وأزمة الشحن في البحر الأحمر. على سبيل المثال، تُمثل قناة السويس 10-15 في المائة من التجارة العالمية (التي تشمل صادرات النفط) و30 في المائة من حجم الشحن بالحاويات، في حين يُعد البحر الأسود أساسياً في أزمة الغذاء العالمية التي تفاقمت إلى حد كبير بسبب الغزو الروسي لأوكرانيا. ومن المتوقع أن يكون الشرق الأوسط وأفريقيا أكبر الخاسرين من تلك الأزمة المستمرة، خاصة في أعقاب انسحاب روسيا من صفقة الحبوب في البحر الأسود في تموز/يوليو 2023. وتسعى موسكو أيضاً إلى الوصول إلى قاعدة بحرية على البحر الأحمر، مما يزيد من المخاطر الإقليمية لحلف “الناتو”.

وبطبيعة الحال، كانت دول الشرق الأوسط تتعامل مع “الناتو” لسنوات قبل هذه الأزمات، بدءً من “الحوار المتوسطي” وإلى “مبادرة اسطنبول للتعاون”. ولم يتردد “الناتو” قط في التدخل في الشرق الأوسط، وعلى الأخص في ليبيا عام 2011. لكن مناقشات الحلف حول الانخراط في المنطقة تحولت إلى مستوى استراتيجي أعمق خلال العامين الماضيين. ففي القمة المنعقدة في تموز/يونيو 2022 في مدريد، أنشأ «الناتو» “مقاربة شاملة للدفاع والردع”. وفي عام 2024، أصدر الحلف وثيقتين رئيسيتين حول مواضيع ذات صلة، هما تقرير صدر في أيار/مايو من قبل مجموعة من الخبراء المعينين بشكل مستقل وتضمّن مقترحات ملموسة لمعالجة مسألة الجوار الجنوبي، وتقرير في نيسان/أبريل أصدرته لجنة “الجمعية البرلمانية” لحلف “الناتو” سلط الضوء على دور روسيا المزعزع للاستقرار في هذه المناطق.

وعلى صعيد آخر، أصبح ينس ستولتنبرغ أول أمين عام لـ”حلف شمال الأطلسي” يزور المملكة العربية السعودية في كانون الأول/ديسمبر الماضي، حيث وضع رؤية لتعاون أعمق مع المملكة. ويسعى “الناتو” أيضاً إلى فتح مكتب في الأردن. وعلى الصعيد الداخلي، يوظف الحلف المزيد من الناطقين باللغة العربية، وقد عين مؤخراً إمرأة من أصل عربي كمتحدثة رئيسية باسمه.

التصدي لـ”أسطول الأشباح” الروسي
ثمة عامل خارجي آخر يؤجج الحرب على أوكرانيا وهو ما يسمى بـ”أسطول الأشباح” الروسي المكون من ناقلات النفط – وهو تكتيك تعلمته موسكو من إيران للتهرب من العقوبات وتسليم نفطها إلى جميع أنحاء العالم. وتحجب هذه السفن بانتظام ملكيتها، وتعمل على “التنقل بين الأعلام” (أي تغيير الأعلام بشكل متكرر لتجنب كشفها)، وتغلق أنظمة تحديد الهوية التلقائية الخاصة بها، مما يمكّنها من العمل دون عوائق تقريباً أثناء الحرب. وقد زادت أعدادها بشكل كبير، ووصلت إلى ما يقدر بنحو 1400 سفينة اعتباراً من كانون الثاني/يناير. وبحلول نيسان/أبريل، أفادت بعض التقارير أن “أسطول الأشباح” كان ينقل 3.1 ملايين برميل من النفط يومياً، أو 83 في المائة من إجمالي صادرات روسيا من النفط الخام. والجدير بالذكر أن غالبية هذا التدفق يمر عبر مياه “الناتو” في مضيق البلطيق والمضيق التركي، ثم عبر قناة السويس والبحر الأحمر والمحيط الهندي في طريقه إلى شرق آسيا.

وإلى جانب التهديد العسكري الذي يمثله هذا الأسطول من خلال تمويل الجهد الحربي الروسي في أوكرانيا، فإنه يشكل أيضاً تهديدات بيئية وتجارية خطيرة. فسفنه قديمة عادة ورديئة الصيانة، وتديرها أطقم عديمة الخبرة، كما أنها تفتقر إلى تأمين التعويض الكافي. وهذا يجعلها عبئاً خطيراً على الجهة الجنوبية لحلف “الناتو”، وبالتالي على التدفق الآمن للتجارة البحرية العالمية. وعلى وجه الخصوص، تنطوي هذه السفن على خطورة أكبر في التسبب بتسربات نفطية كبيرة يمكن أن تتسبب عواقبها بمعضلات لا يمكن حلها حول المسؤولية وواجبات التنظيف.

ولمواجهة هذه التهديدات، ينبغي على دول “الناتو” تقديم حجج بيئية لتصنيف هذه السفن كأصول غير مؤمن عليها وعرضة للعقوبات. وفي وقت سابق من هذا الشهر، أعلنت الحكومة الدنماركية عن خطوات للتعامل مع “أسطول الأشباح” إلى جانب مجموعة من الحلفاء، ولكنها لم تقدم تفاصيل حول هذه الخطط. وبالتوازي مع ذلك، يمكن لدول “الناتو” استخدام المبررات الحالية الناشئة عن غزو أوكرانيا لفرض عقوبات على الأسطول، كما أظهر الاتحاد الأوروبي هذا الأسبوع من خلال فرض عقوبات جديدة على الناقلات الروسية التي تنقل الغاز الطبيعي المسال إلى أوروبا ووجهات أخرى. وعلى أي حال، سيصبح تطبيق العقوبات الصارمة أكثر أهمية في الأشهر المقبلة – وهو التحدي الذي أشار إليه قادة مجموعة السبع في قمتهم في وقت سابق من هذا الشهر.

حماية البنية التحتية الحيوية تحت سطح البحر
في السنوات الأخيرة، حذر الخبراء من أن الغواصات الروسية تشكل تهديداً خطيراً للكابلات وخطوط الأنابيب تحت سطح البحر التي تُعتبر ركائز بمليارات الدولارات للإنترنت والتجارة العالمية وإمدادات الطاقة الإقليمية والخدمات اللوجستية العسكرية للحلفاء، والكثير غيرها. وفي غرب المحيط الأطلسي، أرسل الكرملين مراراً وتكراراً غواصات بحرية لفحص البنية التحتية تحت سطح البحر بحثاً عن نقاط ضعف. وفي الشرق الأوسط، قد تكون حقول ومنشآت الغاز الطبيعي البحرية التي تملكها مصر وإسرائيل ودول أخرى عرضة لمثل هذا التخريب. وفي الواقع، يشير المحللون سراً إلى أنهم لن يتفاجأوا إذا كانت روسيا قد قامت منذ سنوات برسم خرائط لكل هذه البنية التحتية الحيوية تحت سطح البحر. ومن شأن أي هجوم على أي من هذه الأنظمة المعقدة أن يعرّض اقتصاد أوروبا لخطر جسيم.

وربما جاء التحذير الصارخ بشأن نقاط الضعف هذه تحت سطح البحر في تقرير بريطاني صدر في شباط/فبراير الماضي. بالإضافة إلى ذلك، هدد كبار المسؤولين المقربين من الرئيس فلاديمير بوتين بمهاجمة الكابلات البحرية رداً على تورط الغرب المزعوم في حادث التخريب الذي وقع عام 2022 وألحق أضراراً بخط أنابيب الغاز الروسي “نورد ستريم”.

ولطالما كان “الناتو” قلقاً بشأن مرونة البنية التحتية العسكرية والمدنية والاقتصادية، لكن هذه المخاوف تزايدت بعد غزو روسيا لأوكرانيا. وقد دعا الحلف إلى تقوية هذه العناصر ضد الهجمات الهجينة أو العسكرية، مستشهداً بـ “المادة 3” من “معاهدة شمال الأطلسي” كأساس قانوني لهذه الجهود. وقد تشمل الجهود الجديدة لتعزيز القدرة على الصمود قيام تدريبات مشتركة مع شركاء “الناتو” وغيرها من الانخراطات الإقليمية الشاملة، بهدف فهم نقاط الضعف الرئيسية بشكل أفضل والاستثمار في التكنولوجيا لتعزيز حماية الأنظمة الرئيسية.

التصدي للسردية الإقليمية الروسية
للأسف، يتردد صدى سرديات موسكو المحرّفة حول حرب أوكرانيا على نطاق واسع في الشرق الأوسط وأفريقيا، كما هو مذكور في تقرير خبراء “الناتو” الصادر في أيار/مايو. ويمكن أن يساعد هذا التجاوب في تفسير سبب عدم دعم هذه الدول للغرب بنشاط في مساعيه لمساعدة أوكرانيا.

وإدراكاً لحرب السرديات هذه، تفتتح كييف المزيد من السفارات في جميع أنحاء أفريقيا، لكنها ببساطة لا تملك ما يكفي من الدبلوماسيين لتشغيل هذه المرافق. وبالتالي، ستستفيد كثيراً من مساعي “الناتو” الموحدة تجاه المنطقة فيما يتعلق بالتهديد الروسي، فضلاً عن الدعم المباشر لقدراتها الدبلوماسية وعملياتها الإعلامية من كل من دول “الناتو” الفردية والحلف نفسه.

وينطبق الأمر نفسه على الشرق الأوسط، حيث ستكون الزيادة في موارد “الناتو” والدبلوماسية العامة مفيدة للغاية إلى جانب الدعم الكبير للتواصل الدبلوماسي الأوكراني. على سبيل المثال، يمكن لحلف “الناتو” أن يستعين بالمسؤولين الأوكرانيين لإطلاع الشركاء في الشرق الأوسط على النشاط الروسي بشكل منتظم. وإلى جانب مساعدة المجهود الحربي، فمن شأن هذه المبادرات أن تشكل استثماراً استراتيجياً طويل الأجل.

الخلاصة
تستند جميع التوصيات المذكورة أعلاه إلى مبدأ مفاده أن قلب مجرى الأمور في أوكرانيا سيتطلب تغيير حسابات بوتين للتكاليف والفوائد – أي من خلال استنزاف روسيا من الموارد، والإرادة اللازمة لمواصلة حربها العدوانية. ويُعد الشرق الأوسط ساحة رئيسية في هذا الصدد، حيث يوفر لحلف “الناتو” العديد من الفرص لتشكيل معضلات استراتيجية لموسكو، والعمل بشكل أوثق مع شركاء الحلف الجنوبيين، وتمكين أوكرانيا من التواصل مع دول المنطقة.

وبالإضافة إلى خطوات محددة مثل إثارة مسألة حماية البيئة المتعلقة بـ “أسطول الأشباح” الروسي، يجب على “الناتو” التركيز بشكل أكبر على قضايا أوسع نطاقاً مثل تبادل المعلومات الاستخباراتية مع الشركاء الإقليميين. على سبيل المثال، يمكن أن يأخذ ستولتنبرغ مختلف مسؤولي الدفاع في “الناتو” في جولة في عدة مناطق وأن يعلن عن ورش عمل عسكرية احترافية مع شركاء “الناتو” الجنوبيين. وستكون هذه أيضاً منتديات جيدة لتعزيز حماية البنية التحتية تحت سطح البحر والتصدي للسردية الروسية.

إن “حلف شمال الأطلسي” هو في المقام الأول تحالف عسكري دفاعي، ولكن يمكنه اتخاذ الكثير من الخطوات دون القيام بعمل عسكري كامل للتصدي لروسيا وتعزيز المجهود الحربي الأوكراني. ففي نهاية المطاف، أصبح الأمن العالمي والنظام الاقتصادي على المحك، وبوسع جنوب حلف “الناتو” أن يؤدي دوراً بنّاءً في الحفاظ عليه.