وسط تحديات خارجية وداخلية هائلة، يلتقي قادة حلف “ناتو” في العاصمة الأميركية واشنطن بين اليوم الثلاثاء وبعد غد الخميس، في قمة مصيرية لحلف شمال الأطلسي كان يفترض أن تكون احتفالية في الذكرى 75 عاماً على إنشاء التكتل في الرابع من إبريل/نيسان 1949، الذي صمد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945). واستطاع جذب أعضاء جدد في السنوات الأخيرة، مع قائمة انتظار لعدد من الدول على رأسها أوكرانيا. وعلى مدار ثلاثة أيام، تخطف قمة “ناتو” الأضواء من الحملة الرئاسية المشتعلة في واشنطن، أهم مركز للقرار في الحلف، وسط مخاوف من صعود قادة قد يذهبون إلى تغيير قواعد الأمن الخاصة ببلادهم وتفضيل الدفاع الذاتي وتحالفات جديدة، في ظلّ خلافات داخلية حول سياسات الحلف وتمويله، وتوسيع عضويته، رغم حجم التحديات الخارجية الهائلة.
أولويات “ناتو” في قمته
في الأيام الأخيرة، كشف الأمين العام للحلف ينس ستولتنبرغ أن قمة “ناتو” واشنطن ستركز على ثلاثة مواضيع رئيسية: الأول؛ تعزيز دفاع الحلفاء والردع، وهو “العمل الأساسي لحلف شمال الأطلسي”. والثاني؛ دعم جهود أوكرانيا للدفاع عن ذاتها، وهو البند “الأكثر إلحاحاً” على جدول الأعمال. والثالث؛ الاستمرار في تعزيز شراكات “ناتو” العالمية “خصوصاً في منطقة المحيطين الهندي والهادئ”، في محاولة لاحتواء صعود الصين وروسيا. وكشفت مواقف وتصريحات المسؤولين في الدول الأعضاء في “ناتو” عن وجود خلافات كبيرة تعطل الوصول إلى استراتيجية واضحة شاملة بشأن البنود الثلاثة السابقة، ولكن الأخطر ربما هو حالة عدم اليقين بشأن قدرة “ناتو” على الاستمرار حلفا متماسكا في ظل صعود اليمين الشعبوي في أوروبا، واحتمال وصول دونالد ترامب إلى سدة الحكم في البيت الأبيض خريف العام الحالي، ما يفرض على كثير من الدول الأعضاء اختيار استراتيجيات دفاعية وأمنية جديدة تتناسب مع قدراتها الذاتية وموقعها الجغرافي، ضمن واقع عالمي جديد فرضته وقائع الحرب الروسية على أوكرانيا المستمرة منذ 24 فبراير/ شباط 2022.
وأظهر تقرير صادر عن معهد أبحاث الدفاع الشامل السويدي، مطلع شهر يونيو/ حزيران الماضي، أن قدرة أوروبا على الصمود في وجه أي هجوم روسي لا تزال منخفضة، كما كانت قبل ثلاث سنوات. وأكد معدو التقرير أن الأمر بالنسبة للأوروبيين سيكون صعباً ومحفوفاً بالمخاطر على المدى القصير. وأوضح التقرير أن القوات المسلحة في معظم البلدان الأوروبية بنيت على أساس الاحتياجات وقت السلم، وكانت كافية حينها، لكن في حالة الحرب هناك حاجة إلى عدد أكبر بكثير من الجنود والمعدات ومنظومات الأسلحة والذخائر. وإضافة إلى النقص الكبير في عدد الوحدات والأفراد، تعاني القوات المسلحة في البلدان الأوروبية أيضاً من تدني القدرات اللوجستية لنقل وحدات مقاتلة نحو الشرق، في مواجهة روسيا.
هناك حالة من عدم اليقين بشأن استمرار “ناتو” في ظل صعود اليمين الشعبوي في أوروبا
ورغم الميزة الديمغرافية والصناعية والاقتصادية الهائلة التي تتفوق بها البلدان الأوروبية على روسيا، إلا أن هذه البلدان ليست مستعدة لحرب طويلة. ويرجع هذا القصور إلى أن معظم البلدان الأوروبية لم تستثمر في مجال التسلح بشكل صحيح إلا بعد الحرب الروسية على أوكرانيا في فبراير 2022. ويضاف إلى ذلك أن بناء القدرات العسكرية يستغرق وقتاً طويلاً، حتى لو تم رصد ما يكفي من موازنات دفاعية، وتتطلب إضافة إلى الموازنات، تخصيص الأموال، ووضع خطة متكاملة، واتخاذ القرارات بشأن المشتريات والتطوير والإنتاج والتسليم والتشغيل. وقال رئيس اللجنة العسكرية للحلف الأميرال في البحرية الهولندية روب باور في مؤتمر صحافي في 18 يناير / كانون الثاني الماضي: “علينا أن نعترف بأننا إذا كنا في سلام الآن، فهذا ليس أمراً مفروغاً منه. ولهذا السبب نستعد للصراع مع روسيا. يجب أن يكون لدينا نظام لحشد الكثير من الناس إذا تعلق الأمر بالحرب، سواء حدثت أم لا. ثم نتحدث عن التعبئة أو الاحتياط أو التجنيد الإجباري. يتعلق الأمر أيضاً بالقاعدة الصناعية والأشخاص الذين يحتاجون إلى فهم أن لديهم دوراً يلعبونه. هناك إدراك أنه لا يمكن التخطيط لكل شيء، ولن يكون كل شيء على ما يرام خلال الـ20 عاماً المقبلة”.استناداً إلى بيانات “يوروستات” للتركيبة السكانية لعام 2023، يعيش أكثر من 108 ملايين رجل تتراوح أعمارهم بين 18 و55 عاما في دول “ناتو” الأوروبية (التي لا تشمل النمسا وقبرص ومالطا)، بالإضافة إلى النرويج خارج الاتحاد الأوروبي. وفي بريطانيا التي غادرت الاتحاد الأوروبي، هناك 16.4 مليون رجل في هذا العمر. وبالتالي، فإن لدى دول “ناتو” في أوروبا أكثر من 124 مليون رجل مناسب للخدمة العسكرية. وفي المقابل، ووفقاً للكتاب التحليلي السنوي التوازن العسكري 2023، بلغ عدد القوات المسلحة النشطة المشتركة لدول “ناتو” في أوروبا (باستثناء تركيا والولايات المتحدة) 1.593.080 عسكرياً. وتملك فرنسا أكبر قوات مسلحة في أوروبا 203250 جندياً. وجاءت بعد ذلك ألمانيا (183.150)، وإيطاليا (161.050)، وبريطانيا (150.350)، واليونان (132.200)، وإسبانيا (124.150)، وبولندا (114.050)، ورومانيا (71.500)، وبلغاريا (36.950).
وفي أعقاب قمة “ناتو” في 11 يوليو/تموز 2023، في فيلنيوس، تمت الموافقة على خطة لنشر 300 ألف جندي في جزء من قوات التحالف في إطار قوة الرد السريع التابعة لحلف شمال الأطلسي، على الجانب الشرقي للحلف في غضون 30 يوماً. وفي الوقت نفسه، يتم النظر في إمكانية نشر ما يصل إلى 100 ألف جندي في الأيام العشرة الأولى، و200 ألف في مدة تتراوح بين 10 أيام و30 يومياً، وما يصل إلى 500 ألف في 180 يوماً. وتم الإعلان عن حقيقة زيادة قوة الرد السريع إلى هذا الحجم من 40 ألف شخص في نهاية الشهر ذاته من قِبل ستولتنبرغ. وفي نهاية عام 2023 بلغ عدد قوات الرد السريع 60 ألف فرد في تسعة ألوية، وفقاً ما أفاد “ناتو” على موقعه. وبعيداً عن عدم قدرة “ناتو” على تأمين ما تعهد به القادة في فيلنيوس، من المؤكد أن قدرات أوروبا على التعبئة أضعف بكثير من روسيا لأن دول “ناتو” التي تطبق التجنيد الإلزامي هي اليونان وليتوانيا والنرويج وفنلندا وإستونيا والبرتغال فقط.
المهمة الأكثر إلحاحاً لحلف شمال الأطلسي ستكون الاستمرار في دعم أوكرانيا
نقص عديد الجيوش
وتعاني الجيوش الأوروبية وحتى الجيش الأميركي بالفعل من نقص في الأفراد، وربما يستغرق الأمر ما يزيد قليلاً عن عامين لإعادة بناء أو توسيع نظام التجنيد وإعادة تشكيل العمليات الإدارية، ولكن توفير معدات وتجهيز هؤلاء المجندين أكثر صعوبة بالنظر إلى الهيكل الاقتصادي الحالي والأولويات المتعلقة بتوزيع الدخل القومي في بلدان “ناتو”. وتمتلك جيوش “ناتو” الآن أسلحة وذخائر تعتمد على القوة النظامية للجيوش. وفي أحسن الأحوال، وفي سياق صراع واسع النطاق في الشرق، فإنهم قادرون على توفير قوات الخط الأول فقط. أما الاحتياطيات، فقد أصبحت الآن هزيلة، نظراً للمساعدات المستمرة لأوكرانيا، وكي يتمكن الأوروبيون من إحياء القدرة على التعبئة حقاً، يحتاجون إلى إعادة تشغيل وتوسيع مجمعهم الصناعي العسكري، وهذه مهمة تستغرق سنوات عديدة.
ولتأمين الردع يحتاج “ناتو” إلى الالتفات أكثر إلى درء مخاطر الحروب الهجينة باستخدام الهجمات السيبرانية وغيرها. مع انضمام فنلندا والسويد أخيراً، ارتفع عدد الدول الأعضاء إلى 32 عضواً. وافقت قمة العام الماضي في فيلنيوس على أول خطط مفصلة لحلف شمال الأطلسي للدفاع عن أراضي الحلفاء منذ الحرب الباردة (1947 ـ 1991). كذلك يتزايد الإنفاق الدفاعي في أوروبا. ومن المتوقع أن يحقق 23 حليفاً (من أصل 32) هذا العام (في بعض الحالات بهامش كبير) هدف إنفاق 2% من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع أو يتجاوزوه، مقارنة بثلاثة في عام 2014، عندما تم إضفاء الطابع الرسمي على التعهد. وفي مقابل الزيادة النوعية لقدرات الحلف في مواجهة روسيا بانضمام السويد وفنلندا، فإن المخاطر تزداد بشأن قدرة الحلف على الردع.
من المؤكد أن المهمة الأكثر إلحاحاً لحلف شمال الأطلسي ستكون الاستمرار في دعم أوكرانيا، بينما تواصل القوات الروسية تقدمها في دونباس (تضم إقليمي لوغانسك ودونيتسك) وخاركيف. ومن المرجح أن توافق القمة على خطة لتولي الحلف تنسيق المساعدات العسكرية لأوكرانيا، وتدريب القوات الأوكرانية والتي كانت تشرف عليها وزارة الدفاع حتى الآن. وتحدث ستولتنبرغ، بشكل غامض عن خطة “المهمة الجديدة” بعد اجتماع وزراء دفاع الحلف في 14 يونيو 2024. وقال في مؤتمر صحافي، حينها، إنه سيتم الإعلان عن الخطة في قمة واشنطن و”سنقدم دعمنا لأوكرانيا على أساس أكثر ثباتاً لسنوات مقبلة”. ووصف ستولتنبرغ المهمة الجديدة بأنها “نتيجة رئيسية للقمة”، وخطوة أخرى “على طريق أوكرانيا نحو عضوية حلف شمال الأطلسي”. وأكد أن “هذه الجهود لا تجعل حلف ناتو طرفاً في الصراع، لكنها ستعزز دعمنا لأوكرانيا للدفاع عن حقها في الدفاع عن النفس”.
وليس معروفاً إذا ستمنح “جائزة الترضية” الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي ثقة وتقلل من مخاوفه واستيائه. وفي نهاية الشهر الماضي، كشفت سلسلة من التقارير الإعلامية والتصريحات أن إدارة الرئيس جو بايدن، توصلت إلى اتفاق مع مسؤولي حلف “ناتو” لإرسال إشارة دعم قوية لأوكرانيا حتى مع تأكيدهم أن الوقت غير مناسب لانضمامها للحلف. وحسب التسريبات، سيعلن الحلف أنه وافق على إنشاء مهمة في ألمانيا لتنسيق المساعدات بجميع أنواعها لأوكرانيا على المدى الطويل. وستكون المهمة الجديدة تحت مظلة واحدة هي أنشطة “تحالف القدرات” الحالي للدول التي تقدم جوانب مختلفة من المساعدات العسكرية لأوكرانيا، مثل الدفاعات الجوية والمدفعية والطائرات المقاتلة من طراز “إف 16” والأسلحة والتدريب. ومن المنتظر، أن تنسق هذه المهمة تدريب الأفراد العسكريين الأوكرانيين في الدول الحليفة والاتفاقيات الأمنية الثنائية طويلة المدى التي وقّعتها دول مختلفة مع أوكرانيا، من دون أن تتأثر في حال عودة ترامب للحكم، لكن هناك خلافات بشأن المسؤول عن قيادة المركز مع إصرار الولايات المتحدة على أن يتولى جنرال أميركي قيادتها، ورغبة الأوروبيين بقيادة من طرفهم.وفي قمة “ناتو” العام الماضي، رفض التحالف تقديم جدول زمني ثابت ومسار واضح للعضوية لأوكرانيا أو السماح ببدء المفاوضات بشأن العضوية. في تلك القمة كان زيلينسكي مستاءً، لكن الموقف العام للحلف لن يتغير، على الأرجح، في هذه القمة. وتعهد أصدقاء أوكرانيا بتقديم نحو 319 مليار دولار في شكل مساعدات اقتصادية وعسكرية منذ أوائل عام 2022 لأوكرانيا، قرابة 60% منها جاءت من دول أوروبية، وفقاً لأحدث الأرقام التي جمعها معهد كيل في ألمانيا. ويعمل الحلفاء على منع تكرار التوقف الذي دام أشهراً للأسلحة الأميركية بسبب التأخير في التمويل من الكونغرس، وأدى التأخير إلى تقدم روسيا كثيراً، وتراجع الثقة باستمرار الدعم لأوكرانيا في دفاعها عن نفسها في وجه روسيا. في عام 1796 حضّ جورج واشنطن مؤسس الجمهورية الأميركية الفتية، حينها، على “الابتعاد عن التحالف الدائم” مع القوى الأجنبية. وبدا أن المسؤولين الأميركيين المتعاقبين منذ الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918) لم يصغوا إلى هذه النصيحة. وبعد الحرب العالمية الثانية، ازداد انخراط الولايات المتحدة في تحالفات عالمية، ووقعت اتفاقيات دفاعية مع نحو 60 دولة. وبمقتضى الاتفاقات المشتركة تتعهد واشنطن بالدفاع عن نحو 25% من سكان العالم مع 65% من الناتج المحلي الإجمالي. ورغم انتهاء الحرب الباردة فقد استمرت هذه التحالفات بعدها وتحولت إلى علاقات مؤسسية اضطلعت بمهمات جديدة أو أعادت اكتشاف مهمات قديمة.
يحضر القمة الحالية ممثلون من جميع شركاء “ناتو” الذين يزيد عددهم عن 40 شريكاً
حضور شركاء “ناتو”
ويحضر القمة الحالية ممثلون من جميع شركاء “ناتو” الذين يزيد عددهم عن 40 شريكاً، بما في ذلك دول في الاتحاد الأوروبي والبلدان القريبة منه التي تخشى من عدوان روسي على الجهة الشرقية لأوروبا مثل مولدوفا وجورجيا والبوسنة والهرسك. ويعمل قادة “ناتو” على الخروج بقرارات للوقوف في وجه التحديات في بحر الصين الجنوبي حيث يمر 40% من التجارة الأوروبية. وفي الشهر الماضي، أكد مساعد وزير الخارجية الأميركي للشؤون الأوروبية والأوراسية جيم أوبراين، أن الشراكات بين الهند والمحيط الهادئ ستكون الموضوع الرئيسي لقمة واشنطن. أصبح شركاء “ناتو” الأربعة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، أستراليا، واليابان، ونيوزيلندا، وكوريا الجنوبية، مشاركين منتظمين بالفعل في قمم “ناتو”. وفي مؤشر إلى علاقة “ناتو” الوثيقة مع المنطقة أكد رئيس الوزراء الياباني كيشيدا فوميو، في أن “أمني المنطقة الأوروبية الأطلسية ومنطقة المحيطين الهادئ والهندي مرتبطان ارتباطاً وثيقاً”.
وفي القمة الحالية، قد يلتزم حلفاء “ناتو” والشركاء في منطقة المحيطين الهندي والهادئ بتقديم المزيد من الدعم لأوكرانيا، وتبادل أفضل المعلومات والتجارب في مواجهة العمليات السيبرانية الروسية والصينية، ومكافحة الإكراه الاقتصادي الصيني، وتعزيز التعاون الصناعي الدفاعي. ومعلوم أن الصين اتهمت الولايات المتحدة ببناء “حلف شمال الأطلسي الآسيوي” في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. وتعمل واشنطن وحلفاؤها على نسج “شبكة” متزايدة القوة من الاتفاقيات لربط مختلف الأطراف العسكرية في المنطقة في مواجهة الصين، ووقّعت الولايات المتحدة على اتفاقية “أوكوس” (الموقعة في عام 2021) مع بريطانيا لتزويد أستراليا بغواصات تعمل بالطاقة النووية وتطوير أسلحة أخرى بشكل مشترك. وازداد التعاون مع اليابان وكوريا الجنوبية للدفاع ضد الصواريخ البالستية، وفتحت الاتفاقات الروسية الكورية الشمالية الشهر الماضي على زيادة دور “ناتو” في شمال شرقي آسيا. وفي الجنوب، تعمل الولايات المتحدة على تطوير قدرات الهند الدفاعية لمواجهة الصين، كما وقعت اتفاقية مع الفيليبين لمنح أميركا حق الوصول إلى العديد من القواعد. وتعمل اليابان، في سابقة هي الأولى، على إنشاء مقر عسكري مشترك لتنسيق القوات الجوية والبحرية والبرية، ما يدفع أميركا بدورها إلى إصلاح ترتيبات قيادتها الخاصة للعمل بسلاسة مع اليابان.
في أول قمة مع زعماء أوروبيين في عام 2021، بعد سنوات من الاضطرابات في عهد دونالد ترامب، قال جو بايدن بصوت عال: “لقد عادت أميركا”، فسأله الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من فرنسا “إلى متى؟”. واستطاع بايدن إعادة اللحمة إلى جناحي الأطلسي، وتجاوز تبعات الانسحاب من أفغانستان في أغسطس/ آب 2021. وصبّت النتائج العكسية للحرب الروسية على أوكرانيا في مصلحته، واختارت السويد وفنلندا مغادرة الحياد وانضمت لـ”ناتو” كما أدت واشنطن دوراً قيادياً لجهود دعم أوكرانيا اقتصادياً وعسكرياً. في المقابل، وفي ظل الأداء المتعثر لبايدن وإصراره على الاستمرار في حملته الرئاسية، يبدو أن سؤال ماكرون لم يفقد أهميته، وسيتردد بصياغات أخرى في أروقة قمة “ناتو” مع زيادة المخاوف من صعود ترامب، إضافة إلى التغييرات التي كشفت عنها الانتخابات في أوروبا على المستوى الوطني أو على مستوى الاتحاد ككل. وتسود مخاوف في أوروبا من أن عودة ترامب ستجر مشكلات كبيرة لبلدان حلف “ناتو” وربما تؤثر على مستقبل الحلف، إضافة إلى توقع انعكاسات مدمرة للجهود الغربية الداعمة لأوكرانيا في حربها مع روسيا. وتأججت المخاوف بعد التصريح الذي أدلى به ترامب أمام تجمع حاشد من مؤيديه في كارولاينا الجنوبية، منتصف شهر فبراير/ شباط الماضي، قال فيه: إنه سيبلغ روسيا بأنها “تستطيع أن تفعل ما تريد” مع الدول الأعضاء في “ناتو” التي لم تحقق هدف تخصيص 2% من ناتجها المحلي الإجمالي في مجال الدفاع.
ومن غير الممكن أن يذهب ترامب إلى حد الانسحاب من “ناتو” أو تعليق عضوية الولايات المتحدة، بعد إصدار الكونغرس الأميركي في ديسمبر/ كانون الأول، قانوناً ينص على أنه لا يجوز لأي رئيس أميركي تعليق عضوية أميركا في “ناتو” أو إنهاءها أو التنديد بها أو الانسحاب منها من دون قانون صادر عن الكونغرس، أو موافقة ثلثي أعضاء مجلس الشيوخ. وينبغي على رئيس الولايات المتحدة إخطار الكونغرس قبل 180 يوماً من الشروع في خطة الانسحاب. في المقابل، ورغم قانون الكونغرس، فإن تصريحات ترامب أن الولايات المتحدة لن تدافع عن جميع حلفائها تضعف الردع العسكري لحلف “ناتو”، الذي يشكل جوهر ميثاق الحلف. ونظراً لأن الرئيس الأميركي يشغل منصب القائد الأعلى للجيش الأميركي، يمكنه أن يأمر القوات الأميركية بعدم التدخل. ويمكنه كذلك خفض عدد القوات الأميركية المتمركزة في أوروبا أو المشاركة في التدريبات والمناورات، وخفض الإنفاق الدفاعي الأميركي. فضلاً عن أن ترامب، أو أي رئيس أميركي آخر، يستطيع استخدام حق النقض ضد القرارات والتوجهات في حلف “ناتو”، وبالتالي شل التعاون والعمل المشترك بين الدول الأعضاء في الحلف. ونتيجة اعتماد “ناتو” بشكل رئيسي على القدرات العسكرية الأميركية، من المشكوك به أن يكون الناتو قادراً على الصمود من دون الولايات المتحدة. وسيكون الأمن الأوروبي مهدداً إذا انحسرت عنه المظلة النووية الأميركية.
ومن أجل تبديد المخاوف عملت البلدان الأوروبية على أكثر من صعيد أولها رفع موازنات الدفاع إلى الحد الأدنى وهو ما أنجزه عدد من الدول، إضافة إلى أن تكثيف الجهود من أجل تحمل الاتحاد الأوروبي المسؤولية عن تأمين الدفاع بغض النظر عن التطورات المستقبلية في الولايات المتحدة، إذا فاز ترامب بالرئاسة. ودفع التهديد الروسي الاتحاد الأوروبي إلى تطوير التعاون الدفاعي بين دوله الأعضاء، وتم خلال الأعوام القليلة الماضي إنفاق المليارات على شراء الأسلحة، ومن المقرر تجديد قوات الرد السريع التابعة للاتحاد. إلا أن التساؤلات ما زالت قائمة حول إمكانية أن تستقل أوروبا دفاعياً عن الولايات المتحدة على المدى الاستراتيجي، وفي المدى المنظور استمرار تقديم المساعدات العسكرية لأوكرانيا في حربها مع روسيا.
ورغم أن التعاون الدفاعي في الاتحاد الأوروبي قطع خطوات كبيرة إلى الأمام، لكنه يفتقر إلى اتفاق سياسي بشأن عمليات إدارة الأزمات، وغايات وحدود التعاون الدفاعي، ما يجعله أقل من المستوى المطلوب. وتسود خلافات بين الأطراف الأوروبية، وفيما تريد فرنسا الدفع بالتعاون الدفاعي الأوروبي إلى أقصى حد ممكن، بهدف أن يكون الاتحاد الأوروبي قادراً على الاستغناء عن الولايات المتحدة في توفير الحماية للبلدان الأوروبية، لكن من الناحية العملية لم يتحول المطلب الفرنسي إلى توجه استراتيجي في مؤسسات الاتحاد لأن غالبية الدول الصغيرة في الاتحاد، ولا سيما المجاورة لروسيا، مثل دول البلطيق (ليتوانيا، إستونيا، لاتفيا) وفنلندا، ترى أنها بحاجة ماسة للحماية الأميركية، وهو ما يفسر الاتفاقيات الدفاعية الجديدة بين الولايات المتحدة والسويد والنرويج وفنلندا، بالإضافة إلى أن غالبية دول الاتحاد الأوروبي تنظر إلى المطلب الفرنسي بأنه طموح وينسجم مع المصالح العليا للاتحاد الأوروبي، إلى أن تحقيقه يحتاج إلى عملية بناء واستعداد تستغرق وقتاً طويلاً.
ومن الواضح أن العديد من البلدان الأوروبية تبدي اليوم اهتماماً كبيراً في تطوير الصناعة الدفاعية وزيادة قدرتها الإنتاجية. وأنشأت البلدان الأوروبية المصنعة للسلاح صندوقاً دفاعياً مشتركاً، لدعم القاعدة التكنولوجية الصناعية الدفاعية والأبحاث المتعلقة بها. كما أطلق الاتحاد الأوروبي صندوقاً للسلام، تستطيع الدول الأعضاء عبره أن تتقدم بطلب للحصول على تعويض عن تكاليف المعدات الدفاعية التي ترسلها إلى أوكرانيا، وهو ما يؤمن طريقة لموازنة التكاليف، لأن بعض البلدان ترسل الكثير من المساعدات والبعض الآخر يرسل القليل منها. وبتكامل دوري الصندوقين يمكن للصناعات الدفاعية الأوروبية أن تشهد انتعاشاً كبيراً من حيث المبدأ. وهذا جانب مهم من التعاون الدفاعي الأوروبي. لكن على أرض الواقع حتى الآن ما زالت الطاقة الإنتاجية للصناعة الدفاعية الأوروبية بطيئة، ومثقلة بالإجراءات الروتينية، في وقت يشكو فيه الجميع من أنه لم يعد هناك أي مخزون احتياطي من الاسلحة والذخائر يمكن الاستعانة به لمواصلة دعم أوكرانيا. وكشف الأحداث منذ بداية حرب أوكرانيا، أن الاتحاد الأوروبي غير قادر على المديين المنظور والمتوسط على تأمين دفاعاته بشكل مستقل من دون الاعتماد على حلف “ناتو” بقيادة أميركية، مع مواصلة العمل على تطوير التعاون الدفاعي الأوروبي والارتقاء به ليصبح على المدى البعيد قادراً على مواجهة التحديات الكبيرة التي فرضها الحرب في أوكرانيا.