على خط التحرك لنزع فتيل الحرب الموسعة بين إسرائيل و”حزب الله” على لبنان، دخلت ألمانيا. فزارت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك بيروت والتقت رئيس الحكومة نجيب ميقاتي ونظيرها اللبناني عبدالله بو حبيب، وأُعلن بعد أيام عن زيارة لنائب مدير الاستخبارات الخارجية الألمانية أولي ديال، الذي حضر إلى لبنان لليلة واحدة، والتقى نائب الأمين العام لـ”حزب الله” نعيم قاسم يرافقه مدير محطة الاستخبارات الألمانية في بيروت، من دون أن يلتقي أياً من المسؤولين اللبنانيين. وإذا كانت زيارة وزيرة الخارجية تعدّ طبيعية في إطار الحركة الدولية الدبلوماسية الناشطة باتجاه لبنان في محاولة لنزع فتيل الحرب، إلا أن زيارة المسؤول الاستخباري الألماني، التي تقصّد “حزب الله” الإعلان عنها، لا تعدّ عادية، خصوصاً أنها تأتي بعد إصدار محكمة “هامبورغ” حكماً على عنصرين من “حزب الله” الأول بخمس سنوات ونصف السنة والثاني بثلاث سنوات بتهمة الانتماء إلى تنظيم إرهابي.
وكانت ألمانيا من بين الدول الأوروبية التي صنّفت الحزب تنظيماً إرهابياً على عكس فرنسا التي أبقت على تمييزها بين الجناح العسكري والجناح السياسي للحزب. وعلى رغم ذلك فإن برلين كانت تبقي دائماً على خطوط خلفية مع “حزب الله”، استناداً إلى علاقة سابقة نجحت خلالها في إتمام صفقة تبادل للأسرى في عام 2004 بين الحزب وإسرائيل. لكن الأمور تغيرت، وحصل تباعد، على خلفية السياسة التي اتبعتها ألمانيا في ملفات المنطقة ومنها سوريا وفلسطين، والتي اعتبرها القريبون من الحزب بأنها منحازة بالكامل للولايات المتحدة ولإسرائيل.
لكن زيارة المسؤول الاستخباري إلى ضاحية بيروت الجنوبية طرح تساؤلات عدة عن عودة ألمانيا للعب دور الوسيط بين “حزب الله” وتل أبيب، على غرار تجربة الأسرى عام 2004. فهل تنجح برلين حيث فشلت أميركا وفرنسا؟
دقة الموضوع تستوجب الصمت
يتجنب سفير لبنان في برلين مصطفى أديب الحديث عن الدور الألماني الحالي، ويؤكد لـ”اندبندنت عربية” أن دقة الموضوع تفرض عدم الكشف عن التفاصيل، ويوضح أن معظم ما نشر في الإعلام عن لقاء المسؤول الاستخباري مع قاسم ليس صحيحاً، ويكتفي بالقول إن الحراك الألماني بدأ منذ فترة وهو بالتنسيق مع الولايات المتحدة وفرنسا، وإن الردّ اللبناني كان حاسماً لجهة ارتباط الحل في الجنوب بغزة. ولم ينفِ الدبلوماسي اللبناني أن تحصل زيارات أخرى مماثلة إلى لبنان، رافضاً تحديد موعدها.
وكان تردد أن نائب مدير الاستخبارات الخارجية الألمانية أولي ديال عرض على نائب الأمين العام للحزب مجموعة من الأفكار لضمان عودة الهدوء إلى الجنوب، شبيهة بتلك التي كان عرضها الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين على “حزب الله” من خلال رئيس مجلس النواب نبيه بري. وينص العرض على انسحاب “قوة الرضوان” (تابعة لحزب الله)، ومسلحي الحزب 10 كيلومترات حتى شمال نهر الليطاني مقابل تسوية الخلاف حول سبع نقاط برية حدودية (مع إسرائيل) كان تحفّظ عليها لبنان، وترفض إسرائيل الانسحاب، في المقابل، من النقاط الثلاث العالقة.
وأثار التحرك الألماني تساؤلات عدة، خصوصاً أن برلين كانت تعتمد دائماً على الدبلوماسية الفرنسية في ما يتعلق بالأزمات اللبنانية، على رغم مشاركتها في القرار الدولي 1701 (المتخذ عام 2006، وكان الهدف من القرار هو حل النزاع اللبناني- الإسرائيلي) عبر ترؤسها، منذ 2006، القوة البحرية للقوات الدولية العاملة في جنوب لبنان، ودورها في تجهيز وتشييد أبراج المراقبة على الحدود الشرقية مع سوريا، ولعب دور الوسيط في مجمل الحروب وعمليات تبادل الأسرى، وآخرها بين إسرائيل و”حزب الله” عام 2004.
وشرح مصدر دبلوماسي أوروبي فضّل عدم الكشف عن اسمه، أنه منذ أكثر من عام وقبل عملية “طوفان الأقصى”، تنامت معطيات عن دورٍ ألماني وإيطالي محتمل في لبنان على قاعدة فهم كلا الطرفين طبيعة هوية لبنان الحضارية والدور الاستراتيجي الممكن أن يستعيده في دعم قيم الحرية والديمقراطية والتعددية والليبرالية، وتشكيله حالة اعتدال استثنائية في مواجهة كل أشكال التطرف في الأيديولوجيات المعسكرة والتي تُستَغل فيها الأديان لضرب الاستقرار الإقليمي والدولي وتدمير الهويات الوطنية.
واعتبر المصدر الدبلوماسي أن الدور الإيطالي المتنامي أساسه تولي روما في مجموعة الدعم الدولية من أجل لبنان، التي أنشأها مجلس الأمن الدولي في سبتمبر (أيلول) عام 2013، توسيع مروحة دعم الجيش اللبناني والقوى العسكرية والأمنية الشرعية.
وأن الدور الألماني المتصاعد قائم على التواصل مع القوى الليبرالية الحرة في لبنان بما يسهم في حماية الهوية اللبنانية من ناحية وإطلاق مسار تشاركي في القيم والمصالح المشتركة من ناحية أخرى. وأكد أن ألمانيا التي دعمت على مدى عقود مسارات استشراقية ثقافية فاعلة، مقتنعة بأن لبنان يحتضن في جيناته التأسيسية قدرات هائلة في الوصل بين الشرق والغرب.
أما الحراك الدبلوماسي والاستخباري الألماني الأخير فيمكن وضعه في إطار الاستطلاع الجدي، الذي يؤشر إلى احتمال رفع مستوى الملف اللبناني إلى مستوى سياسي أعلى ليصبح بمتابعة مباشرة من رئاسة الحكومة الألمانية. واعتبر المصدر نفسه أن تدخل الألمان قد يكون سببه عدم فعالية الاتحاد الأوروبي ككل، وأن ألمانيا كانت تراقب منذ فترة مدى جدية وخطورة تمدد النفوذ الإيراني على حدود أوروبا في الشرق الأوسط، وبعد تهديد الأمين العام لـ “حزب الله” حسن نصرالله قبرص تأكّد بعض الشكوك حول جدية هذا النفوذ كخطر فعلي على دول الاتحاد الأوروبي.
وفي وقت فسّر البعض التواصل الألماني مع “حزب الله” وكأنه اعتراف أو تسليم بدوره في الإمساك الكامل بالقرار السياسي اللبناني، رأت مصادر دبلوماسية مطلعة هذا التفسير بأنه تحليل خاطئ، وبأنه قفز إلى استنتاجات سريعة في إطار بروباغندا تديرها قوى محسوبة على إيران.
ويتوقف متابعون عند تصنيف ألمانيا الحزب تنظيماً إرهابياً، وهي على تمايز بنيوي مع فرنسا في هذا الشأن. واللقاءات مع الحزب هي تقنية للبحث في مسألة الرهائن لدى “حماس” عبر قناة الحزب، وللتأكيد على موجب تنفيذ مندرجات القرار 1701 بالكامل مع مقترحات عملانية تستند إلى ما ورد في القرار في كل بنوده بعيداً من أي تسويات.
وتنفي المصادر ما يتردد عن مسايرة أوروبية لـ”حزب الله” بمعنى التسليم بدوره الكامل في السياسة الداخلية اللبنانية. وتؤكد أن “ألمانيا دقيقة وواضحة وصارمة، وهي معنية بحماية لبنان وليس التفريط بهويته، وتنظر إلى محور حزب الله وحلفائه في القبضة الإيرانية الشاملة مع عدم تجاهل امتدادها مع روسيا، وهنا بيت القصيد، الذي لن تتنازل أوروبا عن مواجهته حتى النهاية”.
أمن أوروبا أولاً
من جهته، اعتبر الأستاذ في جامعة “مونستر” الألمانية أسعد الياس قطان أنه يجب عدم تحميل الدور الألماني في لبنان أكثر من حجمه لأسباب عدة، أولاً، ألمانيا من حيث حضورها الثقيل في المجموعة الأوروبية مهتمة بعدم توسع الصراع على الحدود اللبنانية- الإسرائيلية لكون توسع من هذا النوع لا يهدّد إسرائيل فحسب، بل المصالح الأوروبية أيضاً. ثانياً، الفرنسيون اليوم منشغلون بترتيب أوضاع بيتهم الداخلي بعد تراجع نفوذهم في أفريقيا وغيرها، ولعلّ عملية الترتيب هذه ستأخذ وقتاً. وثالثاً، للألمان تجارب قديمة ناجحة في ترتيب بعض الشؤون الأمنية مع “حزب الله” على رغم تصنيفه إرهابياً في ألمانيا بشقّيه العسكري والسياسي. “ومن الواضح أنهم لا يقطعون شعرة معاوية معه على قدر ما تخدمهم هذه الشعرة. والحزب مهتم بأن تكون له علاقات مع الأوروبيين، والألمان تحديداً، فهذا يدغدغ غروره. لكن الألمان يدركون أن مفاتيح الحل بيد الولايات المتحدة وأنهم لا يمكن أن يحلّوا مكانها”. واعتبر قطان أن الضغط الألماني اليوم منسجم مع محاولة أميركا تحقيق نوع من اتفاق يستفيد منه الرئيس جو بايدن في حملته الانتخابية، لكن الدوافع الألمانية مختلفة وهي أمن أوروبا وأمن إسرائيل.