ربما لم يتوقع مسعود بزشكيان أبداً أن يصبح رئيساً لإيران، شأنه شأن معظم مواطنيه وحتى العالم الخارجي، وأياً كانت أسباب نجاحه، فإن فوز بزشكيان لا يحدث أي تغير جوهري، وإنما يعني فقط أن طهران تظهر الآن وجهاً مبتسماً للآخرين بدلاً من الوجه القاسي تحت السطح. لقد أساء الغربيون على وجه الخصوص منذ فترة طويلة فهم أن الرئاسة الإيرانية المنتخبة لا تتمتع بسلطة سياسية حاسمة، وبخاصة في ما يتعلق بقضايا الأمن القومي الحيوية في طهران مثل الأسلحة النووية والصواريخ الباليستية ودعم عدد من الجماعات الإرهابية, فخامنئي مثل سلفه مؤسس الثورة الإسلامية عام 1979 الخميني، هو المرشد الأعلى وهذا اللقب دليل على كل شيء.
والانتخابات الرئاسية في إيران ليست حرة ومفتوحة بأية حال، فالمرشحون الذين يوافق عليهم مجلس صيانة الدستور هم فقط من يمكنهم الترشح، ولم يتوان المجلس أبداً عن تطبيق معايير أيديولوجية صارمة على هؤلاء المرشحين، وغالباً ما تكون الانتخابات بين محافظين متشددين وإصلاحيين متشددين أيضاً. ولو أراد مجلس صيانة الدستور استبعاد بزشكيان من الانتخابات لفعل ذلك، ولو أراد أن يضمن هزيمته، لسمح لعدد من “المعتدلين” بالتنافس ضد “متشدد” واحد. بدلاً من ذلك فعلوا العكس وفاز بزشكيان. ولو كان النظام قلقاً في شأن هذه النتيجة لسرق الانتخابات ببساطة، كما فعل عام 2009، ومن المثير للاهتمام أن أرقام نسبة المشاركة في التصويت لا تزال محل خلاف شديد، لذلك قد لا نعرف تماماً عدد الأشخاص الذين أدلوا بأصواتهم بصورة شرعية.
إذا اختار بزشكيان حضور افتتاح الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، فمن السهل أن نتخيل الترحيب الذي ستقدمه له وسائل الإعلام والمؤسسات الأكاديمية الأميركية الساذجة. يبتسم يلوح يتصرف بصورة غير رسمية ربما يحب موسيقى الجاز التقدمية، ربما يشرب قليلاً من الويسكي في الخفاء (من يدري!) قد يقدمه هذا السلوك كأنه يريد حقاً عقد صفقة مع الولايات المتحدة
وإلى أن يُصدر النظام بياناً نهائياً حول سبب وفاة سلف بزشكيان، إبراهيم رئيسي، في حادثة تحطم مروحية ستظل التساؤلات حول مدى استقرار النظام قائمة. بغض النظر عن سبب الحادثة، بزشكيان هو رئيس بالصدفة، أما بالنسبة إلى رئيسي لم تكن الرئاسة على الأرجح إلا مجرد خطوة نحو الأعلى، نظراً إلى عمر خامنئي ومشكلاته الصحية، فقد أشار إليه المرشد الأعلى وآخرون باعتباره المرشد الأعلى الثالث لإيران بعد رحيل خامنئي أو عدم قدرة الأخير على تحمل مسؤولياته. في المقابل يبدو بزشكيان كأنه حل موقت بل أكثر صورية وأقل نفوذاً ممن سبقوه في هذا المنصب حتى يقرر الملالي والحرس الثوري كيف ستجري الأمور.
وعلى مدى 45 عاماً لم يزغ المرشدان الأعليان لإيران وعبر رئاسات متعاقبة، عن مبادئ الأمن القومي الأساسية، أولاً السعي إلى امتلاك أسلحة نووية وقدرات إطلاق صواريخ باليستية، وثانياً إنشاء عدد من الوكلاء الإرهابيين في جميع أنحاء الشرق الأوسط والعالم ودعمهم. وهذه أمور أساسية لطموحات طهران في الهيمنة الإقليمية وتطلعاتها الأوسع نطاقاً إلى الهيمنة على العالم الإسلامي، ولن يتمكن أي رئيس بديل من عرقلة هذه الرؤية الاستراتيجية.
وما يقوم به بزشكيان لمصلحة الملالي هو ما يسميه الروس “ماسكيروفكا”، أي التمويه الذي يخفي السياسة الخارجية الحقيقية لإيران، وهو مثل الدمى ورجال الواجهة الأخرى الذين استخدمتهم طهران على مر الأعوام بما في ذلك وزير الخارجية السابق جواد ظريف وحسين موسويان المفاوض النووي السابق الذي يستقر الآن بكل أريحية في جامعة برينستون.
بزشكيان عبارة عن حملة تضليل متحركة وناطقة، ولذا يملك الغربيون الذين يتوقون لاستئناف المحادثات النووية مع إيران الآن قشة يتشبثون بها، بالطبع لن يكون هناك أي جديد من استئناف المحادثات الدبلوماسية، لأنه ما من دليل على أن المرشد الأعلى لإيران قد اتخذ قراراً استراتيجياً بتغيير المسار.
ومن المفارقات أن الملالي حققوا انتصاراً دعائياً من خلال تعيين شخص مثل بزشكيان الذي يُنظر إليه على أنه مجرد رئيس صوري ليحل محل رئيسي، المعروف على نطاق واسع باسم “جزار طهران” لدوره في إعدام مئات (إن لم يكن آلافاً) من السجناء السياسيين.
إذا فاز دونالد ترمب وذلك أكثر احتمالاً بعد فشل محاولة اغتياله في الـ13 من يوليو (تموز) الجاري، فإن ميله لمعالجة قضايا الأمن القومي باعتبارها فرصاً لعقد صفقات يمكن أن يؤدي إلى اجتماع بينه وبزشكيان.
وإذا اختار بزشكيان حضور افتتاح الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك سبتمبر (أيلول) المقبل، فمن السهل أن نتخيل الترحيب الذي ستقدمه له وسائل الإعلام والمؤسسات الأكاديمية الأميركية الساذجة. يبتسم يلوح يتصرف بصورة غير رسمية ربما يحب موسيقى الجاز التقدمية، ربما يشرب قليلاً من الويسكي في الخفاء (من يدري!) قد يقدمه هذا السلوك كأنه يريد حقاً عقد صفقة مع الولايات المتحدة.يمكن لليبراليين الأميركيين وإدارة بايدن أن يأخذوا بهذا السيناريو، لكنهم قد لا يكونون في السلطة بعد انتخابات نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، وحتى لو كانوا كذلك فإن بزشكيان المتعاون الذي يتصورونه لن يكون الشخص الذي يقرر في شأن الأسلحة النووية، ولن يكون وزير خارجيته عباس عرقجي المفاوض الرئيس في الصفقة النووية لعام 2015.
يميل الأميركيون دائماً إلى الوقوع في ظاهرة دبلوماسية تعرف بـ”تصوير المرآة”، إذ ينظر المفاوضون عبر الطاولة ويرون أشخاصاً مثلهم: رجالاً ونساء عقلانيين يسعون ببساطة إلى إيجاد حلول عملية لمشكلات مشتركة، وهذا المنظور يتعارض تماماً مع الطريقة التي تنظر بها الثورة الإسلامية إلى العالم الخارجي.
وإذا فاز دونالد ترمب وذلك أكثر احتمالاً بعد فشل محاولة اغتياله في الـ13 من يوليو (تموز) الجاري، فإن ميله لمعالجة قضايا الأمن القومي باعتبارها فرصاً لعقد صفقات يمكن أن يؤدي إلى اجتماع بينه وبزشكيان، إذ حاول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إقناع ترمب بلقاء ظريف على هامش قمة مجموعة السبع في بياريتز في أغسطس (آب) 2019، وكادت “حماسة ترمب للصفقات” أن تؤدي إلى لقاء مع ظريف وهذا ما قد ينذر بنسخة معاصرة من هذا الاجتماع في بداية ولاية جديدة لترمب.
وفي حين أن زيارة الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون في بيونغ يانغ لإعادة فتح المفاوضات النووية قد تكون أولوية أعلى، فإن الاجتماع مع بزشكيان من شأنه أن يتماشى مع تركيز ترمب على الدعاية الشخصية.
لذا في حين أن انتخاب بزشكيان رئيساً قد لا يكون خداعاً إيرانياً متعمداً، إلا أن المرشد الأعلى وأعوانه يمكنهم بلا شك استغلال الفرصة المتاحة إذا أرادوا ذلك، ولا يعني ذلك بالضرورة أنه سيتم التوصل إلى اتفاق نووي جديد، لأن ذلك لن يكون بالتأكيد هدف طهران التفاوضي، فبدلاً من ذلك سيلعب الملالي لكسب مزيد من الوقت وهو مفيد دائماً للمتطلعين إلى امتلاك السلاح النووي، على أمل تحقيق القدرة على إنتاج هذه الأسلحة، ومن ثم اتخاذ القرار بكيفية استخدامها، وينطبق الأمر نفسه على أهداف إيران الإرهابية في المنطقة وخارجها، ولن يكون بمقدور ترمب أن يدرك حتى أنه كان يلعب وفقاً لما خطط له المرشد الأعلى.
على رغم أن مسعود بزشكيان قد لا يدرك ذلك فإنه قد يكون الهدية التي لم يتوقعها ملالي إيران.