منذ أن أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن بداية الأسبوع الماضي انسحابه من السباق الرئاسي كمرشح للحزب الديمقراطي، والأنظار تتجه إلى نائبته كامالا هاريس. وفق ما ظهر منذ الوهلة الأولى، فقد كانت هاريس هي البديل الأوفر حظا والأكثر قدرة على مقارعة المرشح الجمهوري والرئيس السابق دونالد ترامب. كان جو بايدن يثق بهاريس بلا شك، لكن هذه الثقة لم تكن كافية من أجل إعلانها مرشحة باسم الحزب، حيث كان يتوجب عليها تقديم برنامج مقنع والحصول على عدد كاف من الأصوات بأسرع وقت ممكن.
هاريس بدأت خلال الأيام الماضية تحديا مزدوجا يتمثل في كسب ثقة ناخبيها الديمقراطيين من جهة، والاستعداد لهزيمة منافس غير سهل، ولا يمكن التقليل من شأنه كترامب من جهة أخرى
هذا الارتباك تسبب به الرئيس بايدن، الذي ظل متمسكا بوضعه كمرشح وحيد ومصدر إجماع بين الديمقراطيين، على الرغم من الشكل الضعيف والمهزوز، الذي كان يظهر به، وأخطاؤه التي كانت مكان سخرية، والتي كان منها اختلاط أسماء الأماكن والرؤساء لديه، كما ظهر في خلطه بين اسمي الرئيسين الأوكراني والروسي. المفارقة هي أن بايدن إبان ترشحه الأول في عام 2020 كان واعيا لعامل السن، وبدا مقتنعا بأن عليه ألا ينافس لفترة رئاسية ثانية، لكن يبدو أنه أصيب خلال الفترة الرئاسية بحالة من حالات «الالتصاق بالكرسي». هذه الحالة، التي ظهرت من خلال تصريحات غريبة من قبيل قوله، إنه سيتنحى إن طلب منه الله ذلك، كانت تدلل على أنه كان يؤمن بأنه أحق بهذا المنصب من أي شخص آخر. مع كل هذا يُحمد للرجل اقتناعه بآراء المقربين ورضوخه لنصائح مستشاريه، الذين أجمعوا على ضعف فرص فوزه، والذين أقنعوه بأن انسحابا مشرفا مبكرا هو أفضل بكثير من الهزيمة.
العقلانيون من الديمقراطيين أجمعوا منذ اليوم الأول على ضرورة خلق التفاف حول هاريس كمرشحة وحيدة، بالفعل لم يضع أولئك الكثير من الوقت، فجمعوا الملايين من الدولارات لصالح حملتها، كما بدؤوا في التحضير لجولات انتخابية وعقد لقاءات مع ممثلي الحزب الولائيين، ما أنتج إجماعا سريعا وغير مسبوق. يذكّر هذا الإجماع بالالتفاف، الذي ظهر إبان ترشح بايدن، والذي جعل مؤسسات الحزب وشخصياته العامة تؤكد في كل محفل، وعلى الرغم مما ظهر عليه من ضعف وتشتت ذهن، أن الرجل هو مرشح الديمقراطيين الوحيد. الأصوات الداعمة لهاريس في سبيل الحفاظ على وحدة الكلمة، وفي سبيل منع أي خلاف داخلي، استطاعت أن تحوز الأغلبية مستفيدة من التخويف من فرضية فوز ترامب، الذي تعد محاولة منعه من العودة مجددا للبيت الأبيض هدفا مشتركا لجميع الديمقراطيين. الإجماع على هاريس، التي يتوقع أن تعلن قريبا مرشحة رسمية للحزب، يعني أنه تم تجاوز ما كان يعتبر نقاط ضعف كان يُخشى أن تعيق تقدمها. تلك النقاط كان على رأسها كونها سيدة وملونة أولا، وكونها محسوبة على تيار اليسار المتطرف، أو ما يعرف باليسار الجديد ثانيا. كان المشفقون يعتبرون أن كل هذا يخصم من الرصيد الانتخابي للسيدة، التي لم يساعدها منصبها السابق كنائبة للرئيس، على اكتساب قدر كافٍ من الشعبية. استطاعت الدعاية المكثفة لأنصار كامالا هاريس، التي لم تضع وقتا وعملت منذ إعلان خطاب الانسحاب على كسب المتعاطفين، أن تحقق نجاحات مهمة، حيث تركزت على فكرة أن بإمكان ما اعتبر نقاط ضعف أن يتحول لنقاط قوة. كانت هذه الدعاية تقول إن كون هاريس سيدة، فإن هذا قد يجعلها تكسب أصوات السيدات والفتيات، في مقابل ترامب المعروف بمعاداة النساء، والذي يتعمد التقليل من شأنهن وازدراءهن بشكل بذيء في كثير من الأحيان، أما كونها سوداء، تجمع بين الأصول الإفريقية والآسيوية، فهذا قد يجعلها المرشح المفضل للسود والملونين والمهاجرين في ظل عداء ترامب، الذي لا يخفى، لهم.
اختيار كامالا هاريس لا يعني بالضرورة اقتناع الديمقراطيين بهذا المنطق، الذي يحاول أن يتجاهل حقيقة الأزمة، التي يمر بها الحزب الديمقراطي حاليا، والتي تتمثل في خروج أعداد كبيرة من المنتمين السابقين من تحت عباءته، واختيارهم المظلة الجمهورية. ليس هذا فقط، بل إن جزءا من أولئك «الخارجين» هم من السود والملونين. هذه الأزمة، المتمثلة في «انفضاض الناخبين» هي موضع بحث لدى كثير من المحللين، وفي نهاية العام الماضي، صدر كتابان ناقشا هذا الموضوع باستفاضة، هما «حزب الشعب» لباتريك روفيني و»أين ذهب كل الديمقراطيين؟» لروي تايكسيرا وجون جاديس. تبقى مما يمكن تسميته نقاط ضعف الانتماء اليساري لهاريس، الذي ظهر بشكل جلي في تصريحاتها السابقة، التي جعلت فيها الحق في الإجهاض والدفاع عن المثليين من أولويات عملها. وعيا بأثر ذلك السلبي على الناخبين الديمقراطيين من غير الليبراليين تقترح أطراف داخل الحزب أن يتم صنع توازن عن طريق اختيار نائب رئيس من الوسط أو اليمين المعتدل، وذلك حتى لا تتم خسارة الأصوات المحافظة.
الخلاصة هي أن هاريس بدأت خلال الأيام الماضية تحديا مزدوجا يتمثل في كسب ثقة ناخبيها الديمقراطيين من جهة، والاستعداد لهزيمة منافس غير سهل، ولا يمكن التقليل من شأنه كترامب من جهة أخرى. إذا كانت هاريس قد نجحت في التحدي الأول، من دون بذل جهد يذكر، فإن طريقها إلى البيت الأبيض ما يزال غير مضمون النتيجة، فهي في مواجهة مرشح شرس وقادر على خلق مفاجآت. الجدير بالذكر أنه ووفقا لمتابعي استطلاعات الرأي، فقد انتقلت التوقعات خلال أسابيع قليلة من ترجيح فوز ترامب وسيطرة الجمهوريين على مجلسي الشيوخ والنواب، وهو ما تأكد عقب المناظرة الكارثية مع بايدن، ثم ما تلاها من محاولة اغتيال للأخير، إلى النقيض تماما من خلال ارتفاع في رصيد الديمقراطيين ومنحهم فرصة أكبر في الفوز بالرئاسة بعد انسحاب بايدن وظهور هاريس كمرشحة. هذا التحول كان له أثر وأصداء في نواح عديدة على رأسها الاقتصاد، الذي يمثل التحدي الأبرز للسياسيين في بلد قد لا يتذكر كثيرون أنه يعاني من أزمة تراكم ديون مستفحلة. البرامج الاجتماعية، التي تُجبَر الدول الكبرى، كالولايات المتحدة، على تقديمها، كتلك، التي تم تفعيلها عقب جائحة كوفيد، ساهمت في مضاعفة الأزمة الأمريكية، التي يتشارك الديمقراطيون والجمهوريين في المسؤولية عنها، سواء عن طريق تقديم المساعدات والدعم المباشر، أو عن طريق تخفيض الضرائب على الشركات وأصحاب رؤوس الأموال، كما فعل وسيفعل ترامب. الارتباك ظهر بوضوح في عالم الأسواق والبورصة خلال الأسبوعين الماضيين، حيث بدأ بارتفاع قيمة أسهم شركات تعمل في مجالات كان ترامب أعلن اهتمامه وارتباطه بها، كالنقود المشفرة والسلاح ومؤسسات السجون الخاصة، التي ستكون مهمة ومرتبطة مع سياسة مرتقبة تقضي بإبعاد أعداد أكبر من المهاجرين غير الشرعيين، الذين لن تسعهم السجون. لحظة الانتعاش، التي عاشتها هذه الشركات لم تستمر، حيث عادت مرة أخرى إلى حالة انعدام اليقين والانفتاح على كل الاحتمالات. في المقابل، كانت شركات صينية شريكة قد تراجعت إلى الظل مع إرهاصات عودة ترامب، الذي لا يخفي رغبته في تحجيم التمدد الصيني. هذه الشركات تتنفس اليوم الصعداء أملا في تزايد فرص الديمقراطيين.
معرفة الرئيس القادم ستشكل كذلك فارقا للعاملين في مجال التعدين، الذين يعانون حاليا ويتهمون بالتسبب في التلوث البيئي والتغير المناخي، والأكيد أنهم سيعملون براحة أكثر مع رئيس لا يكترث للاحتباس الحراري.