“لا أعتقد أننا عَمَينا، بل إننا عُميان، عُميان يرون، بشر عُميان يستطيعوا أن يرون، لكنهم لا يرون”[1]. بهذه العبارة موحية الدلالات يختتم الأديب البرتغالي جوزيه ساراماجو، الفائز بجائزة نوبل للآداب عام 1998، أحداث روايته “العَمَى”، والتي يلجأ فيها إلى رمزية فقدان البصر كحاسة إنسانية لفهم مأزق السياسة في الدول والمجتمعات، عندما تتعرض إلى حالة عَمَى البصيرة في أوقات الاستثناء والطواري.
في تلك السردية المتخيلة، يُظهر ساراماجو استهانة حكومة ما بوباء أبيض أصاب أعين الأفراد، حتى انهارت مؤسسات الدولة وضربت الفوضى المجتمع في وقت وجيز. في الوقت نفسه، يكشف ما يسميه “التوحش السلوكي” للعُميان، الذي بلغ حرب الكل ضد الكل في الحجر الصحي، بعد أن حشرتهم فيه الحكومة لمنع انتشار العدوى. مع ذلك، يرمز للبصيرة، من خلال شخصية زوجة الطبيب التي لم تصب بالوباء، حيث مارست سلوكاً يتسم بالتعاطف والكرامة والتضامن ومساعدة العُميان على “تنظيم” أنفسهم للتعامل مع الفوضى إلى أن بدأ الوباء يزول عن العُميان واحداً تلو الآخر.
تناقش الرواية، التي تعد من العلامات البارزة في الأدب السياسي العالمي، عَمَى البصيرة من منظورات سياسية واجتماعية وأخلاقية، حيث تربطه بأبعاد متعددة، كإنكار الحقائق وعدم التعامل معها بجدية، وانتشار الخوف والأنانية وتجنب المسئولية وإهدار الكرامة وحقوق الآخرين، فضلاً عن انعدام الأمل في غدٍ أفضل. غير أن تلك المعاني لا تمس فقط التفاعلات داخل الدول والمجتمعات، وإنما تمتد أيضاً إلى السياسات في العالم والإقليم، بحكم عدم انفصال عوامل الداخل والخارج في تشكيل الظواهر السياسية.
قبل سنوات، برزت سلوكيات الأنانية في خضم جائحة كورونا، عندما استأثرت دول الشمال بتوزيع اللقاحات على حساب دول الجنوب، فيما تباطأت الدول الصناعية الكبرى في تحمل كلفة الأضرار المناخية برغم مسئوليتها عن غالبية انبعاثات الكربون المسبب للاحتباس الحراري. أما في الحرب الراهنة على قطاع غزة، فتغض القوى الغربية الطرف عمداً عن جرائم الإبادة والتجويع التي تقترفها إسرائيل بحق الفلسطينيين، بينما على العكس يبدو دعمها المعنوي والمادي لأوكرانيا نشطاً في مواجهة الغزو الروسي.
قد يجادل البعض بأن السياسة العالمية، في جوهرها، لعبة “عَمْياء” عن القيم الإنسانية والأخلاقية والإيثارية، حيث يحكمها منطق المصالح والقوة. إلا أن هذا الفهم الواقعي قد يكون صحيحاً جزئياً وليس كلياً، فالقادة والحكومات قد يلجئون إلى القيم الإنسانية وسياسات التعاطف لتسويغ سياساتهم البراجماتية ومصالحهم في الخارج، كما أن طبيعة القوة تغيرت في عالمنا المعاصر، فباتت تنطوي على أبعادٍ مادية ومعنوية، بل إن استخدام القوة المادية لتحقيق أغراض جيوسياسية يواجه قيوداً دولية. فليس مفارقة نشوء احتجاجات عالمية وتحركات حقوقية وقانونية لإيقاف حرب غزة ومحاكمة قادة إسرائيل على جرائم الإبادة كي لا يتحول العالم إلى “غابة” تنهار فيها القيم والقوانين والمؤسسات الدولية.
إن حالة عَمَى البصيرة، كطريقة تفكير وسلوكيات في المجال السياسي، تستدعي محاولة فهم وتفسير أبعادها وتجلياتها في إنتاج خطابات وسياسات “عَمْياء” في إدارة الأزمات والصراعات حول العالم. صحيح أن تلك الحالة تنطوي على مدلولات واسعة بسبب أبعادها المتعددة (النفسية والمعرفية والسلوكية والسياقية)، مع ذلك، فقد تكون أحد العوامل المفسرة لنشوب الأزمات والصراعات أو تفاقمها بدلاً من احتوائها أو الحد من آثارها.
العَمَى في السياسة.. مقصود وغير مقصود
تقترن لفظة العَمَى بالبصيرة، كي ينصرف الذهن إلى مناقشة عدم إدراك المرء الصواب والحقائق وليس الإعاقة البصرية للأعين، وهي حالة لاقت اهتماماً واسعاً في الأديان السماوية والفلسفات الإنسانية التي تنظر لها، كانغلاق للقلوب والعقول يحجب عن البشر القدرة على التمييز بين الخير والشر أو الإيمان والضلال أو امتلاك الحكمة اللازمة للرؤية المستقبلية.
انتقل معنى عَمَى البصيرة إلى العلوم الإنسانية ليأخذ معانٍ متعددة، تارة قد يرادف الجهل المعرفي أو الاستراتيجي للأفراد أو المؤسسات. تارة ثانية قد يرتبط بسوء التفكير والإدراك للذات أو الآخرين أو الواقع، تارة ثالثة قد يتعلق بالسلوكيات المنحازة، تارة رابعة قد يتصل بعدم القدرة على توقع الأحداث القادمة. تلك المعاني تشتبك مع تفاعلات الظواهر السياسية ليعبر عَمَى البصيرة عن تجاهل أو تغافل الفاعلين السياسيين (أفراد، جماعات، مؤسسات، دول) عن الحقائق أو القيم أو الحقوق أو موضوعات بعينها مطروحة في الحاضر أو متوقعة في المستقبل أثناء عملية صنع واتخاذ القرارات والسياسات.
يعبر هذا التغافل عن ما تسميه الأدبيات النقاط العَمْياء (Blind spots)، أي المناطق المظلمة التي لا نتمكن من رؤيتها بسبب تحيزات ضمنية أو صريحة في التفكير أو التعامل مع الواقع، بما قد يقود إلى استجابات أو سياسات تنطوي على الانحياز أو عدم المساواة أو الأنانية أو إهمال دروس الماضي أو عدم الموازنة بين الحاضر والمستقبل. قد تطول تلك السياسات العمياء مجالات عديدة، كالسياسة الخارجية، الديمقراطية، الاقتصاد، المناخ، التكنولوجيا، الصراعات، النظريات السياسية، مؤسسات الأعمال، البيروقراطية، وغيرها، وهو ما جعل فكرة عَمَى البصيرة تُستخدم على نطاق واسع للتعبير عن اختلالات الرؤية أو السياسات أو السلوكيات السياسية.[2]
إلا أن دراسات علم النفس أعطت أبعاداً أكثر عمقاً لفهم ديناميات ظاهرة العمى كفقدان للبصيرة لا البصر في المجال السياسي، حيث فرّقت بين نمطين رئيسيين، أحدهما، العَمَى المقصود Willful Blindness، والآخر العَمَى غير المقصود Inattentional Blindness، ويمكن توضيحهما على النحو الآتي:
أولاً: العَمَى المقصود: لا يتعلق هذا النمط من العَمَى بغياب المعلومات أو الحقائق أو إدراك أن سلوكاً ما منحاز أو يتنافى مع القيم والمعايير أو حتى وجود تنبؤات حول المستقبل، فقد يكون كل ذلك متاحاً ومدركاً، لكن يتم تجاهله أو التقليل من أهميته “عمداً”، أي يتوافر لدى المرء النية والوعي والإرادة لتجنب رؤية أمور دون أخرى.[3]
يشيع هذا النمط السلوكي لدى الأفراد، فقد يرون ظلماً أو انتهاكاً لأنفسهم أو للآخرين أو تحذيرات مما هو قادم، لكنهم يتعامون عنها عن قصد، خشية الدخول في صراعات أو تلقي صدمات، أو تجنب الحرج، أو السعي إلى الحياد، أو الحفاظ على مصالحهم الذاتية أو التنصل من المسئولية. ومع أن تلك الممارسات الفردية تشكل جزءاً اعتيادياً في التفاعلات اليومية المجتمعية، لكن تراكمها وامتدادها من أحداث يومية إلى قضايا كبرى قد يشكل العَمَى الجماعي المقصود بما يحمله من مخاطر على الدول والمجتمعات.
قد يتحول نمط العَمَى المقصود في المجال السياسي إلى نهج للقادة أو المؤسسات أو الحكومات لعدم الشفافية أو التجهيل العمدي للرأي العام الداخلي أو الخارجي، من خلال حجب المعلومات عن قضايا معينة، كإخفاء الحكومات اتفاقات سياسية تنطوي على تنازلات للدول الأخرى لتجنب اللوم والمحاسبة. كما قد يظهر في الانحياز الواعي لطرف سياسي على حساب آخر أو تهميش مخاطر محدقة على الرغم من وجود مؤشرات عليها، أو التركيز على سياسات ضيقة الأفق تستنزف موارد الحاضر على حساب المستقبل، كالتعامل غير المستدام مع الموارد الطبيعية، أو تحميل الدول بأعباء اقتصادية مثل الديون يدفع ثمنها الأجيال القادمة.[4]
يعزو بعض الدراسات العَمَى المقصود إلى عوامل معرفية ونفسية واجتماعية، حيث قد يصاب الأفراد أو المسئولون في الحكومات والشركات على حدٍ سواء بالغرور والغطرسة أو الإيمان بأفكار كبرى تجعلهم يتعمدون رفض الحقائق المتاحة التي لا تتسق مع تصوراتهم حول العالم، كما قد ينظرون إلى العلاقات المؤسسية والتنظيمية على أنها جزء من ذواتهم، من ثم يرفضون ما تطرحه من معرفة وبدائل ما لم تكن متوافقة مع رؤاهم، ناهيك عن معضلة الرغبة في التشابه وتفضيل التفكير الجماعي المتماثل الذي يُبقِي أولئك الأفراد أو المسئولين في الدائرة الآمنة ويجعلهم يرفضون أي حقائق غير مريحة قد تسبب لهم تنافراً معرفياً، بالتالي يصبح كل ما هو خارج تلك الدائرة نقاطاً عَمْياء لهم.[5]
ثانياً: العَمَى غير المقصود: يعني فشل المرء في إدراك أو رؤية شيء ما عن غير قصد لأن انتباهه أو تركيزه ينصب على شيء آخر، بالتالي، فهو لا يدرك عجز بصيرته. لاحظ علماء النفس تلك الحالة في سلوكيات الأفراد أثناء قيادة المركبات، فقد يعانون نقاطاً عَمْياء غير مقصودة قد تؤدي لحوادث مفاجئة، وربطوها بعوامل متعددة كالقدرة الإنسانية المحدودة على الانتباه، أو التعرض للتشتيت الذهني أو كوسيلة للتعامل مع تعقيد المعلومات في موقف ما عبر التركيز على بعضها دون الآخر.[6]
غير أن العَمَى غير المقصود يعبر هو الآخر عن حالة اعتيادية عرفتها المجتمعات، فكل تقدم إنساني في حياة البشر قد ينطوي على نقاط مظلمة قد لا يتم الالتفات لها عن غير قصد، إلا بعد التنبيه اللاحق، كأدوات ثورة الاتصالات والتكنولوجيا مثل وسائل التواصل الاجتماعي والذكاء الاصطناعي وغيرها، فمع انتشارها الواسع في العالم برزت معضلات كالخصوصية والبعد الأخلاقي وتدخلات الشركات التكنولوجية الكبرى في تقييد المحتوى الإلكتروني.[7]
ينتقل هذا النمط من العَمَى إلى المجال السياسي، عندما لا يرى الفاعلون السياسيون عن غير قصدٍ حقائق أو قيم أو قضايا أو تهديدات أو تناقضات سلوكياتهم أو تأثير سياساتهم الراهنة على المستقبل. يصبح هنا العَمَى نابعاً من تحيزات ضمنية، أي أن أولئك الفاعلين قد لا يسيطرون على تلك التحيزات بشكل واعٍ لكونها تشكلت عبر مخزون متراكم من الخبرات والمواقف والمشاعر، بما يجعل رد فعلهم تلقائياً إزاء المواقف والأزمات[8]، ويترتب على ذلك عدم إدراك عَمَى السياسات إلا متأخراً، أي بعد وقوع الأزمة أو تفاقمها.
ينعكس العَمَى، سواء أكان مقصوداً أم غير مقصود، في دورة صنع واتخاذ القرار في السياسات الداخلية أو الخارجية، فقد يكون هنالك تحيز انتقائي في تشخيص موقف أو أزمة مما يقيد نطاق التحليلات والتقييمات، ومن ثم قد يؤدي إلى اختلال أولويات التعامل، وإنتاج سياسات لا تتلائم مع الاستجابات المنطقية المفترضة للأزمة. وعندما لا تتعرض تلك السياسات العَمْياء إلى تعديل أو تغيير، بفعل ضعف أو غياب آليات المراجعة والمحاسبة أو ارتباطها بشبكات مصالح أو تحالفات سياسية، فقد يتحول العَمَى إلى مسار متكرر في عملية صنع واتخاذ القرار في الأزمات المختلفة، خاصة إن لم يكن هنالك ضغوطات من المتضررين منه.
مع أهمية التفرقة العامة في الأدبيات بين نمطي العَمَى المقصود وغير المقصود، لكنها تثير عدة إشكاليات وملاحظات لفهم طريقة تأثيرهما في الواقع السياسي، منها:
1- إن العَمَى المقصود الذي يُقدم عليه المرء بوعي، قد يتضمن أيضاً في دينامياته جانباً من العَمَى غير المقصود، فالتصرف بوعي لرفض رؤية أمور أو الانحياز لشيء دون آخر ليس معزولاً عن السياقات التي تخلق تحيزات ضمنية، فالتنشئة السياسية والخلفيات الأيديولوجية والثقافة المؤسسية للقادة والمسئولين تلعب دوراً مؤثراً في بناء تصوراتهم وسياساتهم وقناعتهم بصحتها، حتى لو ثبت تجاهلهم عمداً لمعلومات أو بدائل. يعني ذلك أن العَمَى المقصود وغير المقصود قد يحضران بدرجات متفاوتة في طريقة التعامل مع الأزمات.
على سبيل المثال، فعلى الرغم من وجود إنذارات مبكرة على الأزمة المالية العالمية في 2008، بسبب تنامي أزمة مشتقات الرهن العقاري وتهافت البنوك على منح قروض عالية المخاطر، إلا أنه تم غض الطرف عليها من المسئولين والخبراء الماليين، حتى تفجرت الأزمة، وهو ما أرجعه البعض إلى عوامل متداخلة تجمع بين إيمانهم بأفكار كبرى حول قدرة نموذج السوق الرأسمالي على تصحيح ذاته، إضافة إلى وقوعهم في فخ التفكير الجماعي المتماثل في الأزمات بسبب تشابه الخلفيات المهنية والفكرية للمسئولين على إدارة السياسات المالية.[9]
2- إن الحكم على طريقة تفكير أو سلوك ما بأنه أعمى البصيرة عن قصد يتطلب دليلاً بأن هنالك تجاهلاً “عمدياً” من قبل صناع القرار والسياسات لمعلومة أو حقيقة أو بديل كان مطروحاً أو متاحاً لمنع أزمة أو الحد من تفاقمها، ولم يتم الإقدام على معرفته. لذلك، تعمد بعض الدول إلى إنشاء لجان تحقيق لمعرفة ما إذا كان هنالك سلوكيات مقصودة أم غير مقصودة من قبل صناع القرار في تجاهل معلومات أو حقائق بما قاد إلى الأزمات وذلك لضمان المحاسبة وتحديد المسئولية السياسية والمؤسسية، فضلاً عن عدم تكرار الأخطاء مثل، لجنة التحقيق في أحداث 11 سبتمبر في الولايات المتحدة.
3- يثير العَمَى غير المقصود جدالاً عند ارتباطه بالعامل القيمي والأخلاقي، فالقادة والمسئولون قد يتخذون قرارات غير أخلاقية لكنهم قد يكونون مقتنعين بأنهم يفعلون الصواب، أي لا يرون أنهم مخطئون إلا لاحقاً. ارتبط هذا المعنى بمفهوم “تفاهة الشر” لحنا أرندت، أي أن من يقوم بفعل الشر لم يكن شريراً بطبيعته أو لا يقصد ذلك بسبب الجهل. ربطت أرندت مفهومها بحالة أدولف إيخمان، أحد كبار القادة في النظام النازي الألماني المتهم بارتكاب جرائم حرب بسبب مسئوليته عن معسكرات الاعتقال في الحرب العالمية الثانية. فإيخمان اعترف بمسئوليته عن الاعتقالات، لكنه قال إنه كان ينفذ أوامر هتلر، ولم يقصد ذلك، أي أنه كان بيروقراطياً عادياً يلتزم بتعليمات رؤسائه من وجهة نظر أرندت، لكن آخرين رفضوا ذلك، معتبرين أن إيخمان، الذي أعدم لاحقاً بعد اختطافه ومحاكمته في إسرائيل، كان محملاً بأيديولوجية نازية، أي أنه لم يكن أعمى عن جهل.[10]
4- إن عَمَى البصيرة يصبح أكثر خطورة وترسيخاً في المجال السياسي، عندما لا يتعلق فقط بالقادة وإنما أيضاً بالنخب والهياكل المؤسسية والدعم المجتمعي، أي يصبح هنالك عَمَى متطابق المستويات، يتضح ذلك الأمر في ظاهرة العنف ضد الآخر دون تمييز في مناطق الصراعات والحروب، فانتهاج القادة والنخب للعنف كسياسة ممنهجة مدعومة من المؤسسات ولديها تأييد من شرائح مجتمعية يؤدي إلى تجذره في الوعي العام، حيث ينظر حينها إلى إيذاء أو انتهاك حقوق الآخرين على أنه ليس اقترافاً لخطأ. هنا، فإن السياقات الاستقطابية في الصراعات قد تخلق معنى ومعايير الصواب والخطأ، وهو ما قد يفسر انخرط الناس العاديين في دعم أو ممارسة القتل الجماعي في الصراعات المسلحة دون استشعار للذنب في وقت الأزمة، على غرار حالة الابادة الجماعية في رواندا في تسعينيات القرن العشرين.
السياسات العَمْياء.. الانحياز والأنانية والإنكار
تتجلى ظاهرة العَمَى في إنتاج الفاعلين السياسيين لخطابات أو سياسات عَمْياء قد تتسم إما بالانحياز أو الأنانية أو الإنكار أو الإقصاء أو التهميش للآخر أو عدم القدرة على التفكير في عواقب سياسات الحاضر على المستقبل. ويمكن استكشاف نماذج من تلك السياسات، على سبيل المثال لا الحصر، في ديناميات بعض الأزمات في العالم والإقليم، وذلك على النحو الآتي:
أولاً: سياسات الانحياز: أي أن الفاعل السياسي قد ينتهج سياسة تتسم بعدم الحياد عند التعامل مع أزمة أو قضية ما، بفعل وجود موقف أو حكم مسبق له. تبرز في هذا الصدد حالة السياسة الأمريكية في المنطقة، والتي تنطلق من تشخيص منحاز للصراع الإسرائيلي- الفلسطيني سواء أكان يحكمها إدارات جمهورية أم ديمقراطية، وهو تشخيص مدعوم بعوامل متداخلة تجمع بين التاريخ والأيديولوجيا وشبكات مصالح داخلية (اللوبي اليهودي) أو خارجية في الشرق الأوسط (أمن إسرائيل، النفط، مكافحة الإرهاب، مواجهة نفوذ روسيا والصين).
قد يكون هنالك اختلاف في درجات الانحياز وأدوات تلك الإدارات الأمريكية، من حيث تشدد الجمهوريين (اعتراف ترامب بالقدس المحتلة عاصمة لإسرائيل في عام 2017) مقارنة بمرونة الديمقراطيين (التركيز على خطاب حل الدولتين دون إجراءات فعالة)، إلا أنها تتفق على إيلاء أهمية أكبر للمطالب الإسرائيلية مقارنة بالفلسطينية وتجاهل تفاوت القوة بين الجانبين، كما تغفل أن القضية الفلسطينية تتعلق باحتلال إسرائيلي لأرضٍ عربية يستدعي حق المقاومة إلى أن تتحقق للفلسطينيين دولتهم المستقلة. يقود ذلك إلى سلسلة من الانحيازات الأمريكية في التقييم والأولويات والقرارات الداعمة معنوياً ومادياً بالمساعدات والسلاح لحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، والصامتة على جرائمها كما في حرب غزة الأخيرة، والمنكرة على الفلسطينيين حقهم في تحرير أراضيهم من الاحتلال بالقوة.
اللافت أن تلك السياسات المنحازة تنعكس على رؤية واشنطن لتهديدات أخرى بالمنطقة في مسار يعبر عن عَمَى متصل، مثل، التعامل مع أزمة الملاحة الأخيرة في البحر الأحمر التي نتجت عن مهاجمة جماعة الحوثيين في اليمن للسفن المارة بالمنطقة بهدف دعم الفلسطينيين في حرب غزة حسب تصريحات قادتها. فعلى الرغم من أن إيقاف تلك الحرب كان كفيلاً بإيقاف هجمات الحوثيين واستعادة الاستقرار في البحر الأحمر، إلا أن الانحياز الأمريكي بل والأوربي لإسرائيل، فضلاً عن مساعيهما لعسكرة الممرات الملاحية لمواجهة نفود روسيا والصين، دفع صناع القرار في الغرب إلى التشخيص الانتقائي المتحيز للأزمة، حيث تم قصر سبب تهديدات الملاحة على جماعة الحوثيين.
تبع هذا التشخيص القاصر سياسات غير فعالة، كتدشين تحالف عسكري أمريكي هجومي (حارس الازدهار) في ديسمبر 2023، وآخر أوربي دفاعي (قوة إسبيدس) في فبراير 2024 في منطقة البحر الأحمر، لكن أياً منهما لم ينجح في تقليص تهديد الحوثيين، بل تفاقمت الأضرار على حركة الملاحة في المنطقة، برغم التحذيرات المسبقة التي طرحتها العديد من التحليلات حول صعوبة ردع الحوثيين عسكرياً، فضلاً عن إغفال خبرات دول المنطقة في التعامل مع الحوثيين، فلم ينجح التحالف العربي بقيادة السعودية في هزيمتهم على مدار تسع سنوات من الحرب، مما قد يفسر رفض بعض دول المنطقة الانخراط في التحالفات الغربية في البحر الأحمر، ويعكس في الوقت نفسه تراجعاً للقيادة الأمريكية في المنطقة.[11]
ثانياً: سياسات الأنانية: أي ينزع الفاعل السياسي إلى تفضيل مصالحه أو الاستعلاء أو عدم التفكير فيما قد يصيب الآخرين من أضرار جراء سلوكياته. ترد هنا الأنانية (Selfishness)، كمعنى مضاد للإيثار الذي يتضمن مشاعر وقيم وسلوكيات تحمل نوعاً من التعاطف والتضامن والدعم والمنافع للآخرين. قد يظهر أحد أوجه الأنانية السياسية في منطق السياسات الأوروبية في الإزاحة أو الإبعاد الجيوسياسي لمخاطر اللجوء والهجرة لتخفيف العبء عليها، حتى لو تضمن ذلك انتهاكاً للقيم والمعايير الإنسانية الدولية أو زيادة المخاطر على دول أخرى أو تحويل قضية إنسانية إلى ساحة للمساومات الاقتصادية بين الدول على حساب حقوق البشر.
برز ذلك الأمر في اتفاقات الحد من تدفق الهجرة واللجوء مقابل مساعدات مالية، كما الاتفاق الأوروبي مع تركيا في 2016[12] الذي خفّض بالفعل تدفقات المهاجرين غير النظاميين إلى دول أوروبا لكنه خلّف بالمقابل انتهاكات لحقوقهم، كما جرى في نقاط تجمعهم على الحدود اليونانية-التركية. تظهر أيضاً حالة الأنانية في خطة الترحيل القسري لطالبي اللجوء إلى دول أخرى مثل، القانون البريطاني، الذي صدر في إبريل الماضي ويتيح ترحيلهم إلى رواندا، برغم أن المحكمة البريطانية العليا اعتبرت هذا الترحيل مخالفاً للاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان، وكان إلغاء تلك الخطة أول قرار لكير ستارمر زعيم حزب العمال اليساري بعد فوزه في الانتخابات البريطانية في يوليو 2024.[13]
صحيح أن الأنانية الأوروبية في ملف اللاجئين تعبر عن مصالح دول وتغيرات مجتمعية وهوياتية وصعود لليمين المتطرف ونظرة استعلائية تاريخية إزاء دول الجنوب بفعل تفاوت توازنات القوى. مع ذلك، فإنها تتناقض مع المنظور القيمي الإنساني والمعياري الذي لطالما روجت له أوروبا عن نفسها، كقوة معيارية في السياسة العالمية. أضف لذلك، أن إزاحة تهديدات الهجرة من أوروبا إلى دول في أفريقيا مقابل مساعدات مالية قد لا يضمن تحول تلك المساعدات إلى واقع تنموي مزدهر يحد من تدفقات الهجرة بسبب تعثر التنمية في بعض الدول الأفريقية بفعل سياسات الفساد وضعف آليات المحاسبة. من جانب آخر، تعمق الإزاحة الجيوسياسية للاجئين أزمة تراجع النفود الجيوسياسي الأوروبي عالمياً، على نحو يبرز في بعض دول الساحل الأفريقي التي تفقد الثقة في القوى الأوروبية كفرنسا مقابل تزايد ميلها الجيوسياسي لقوى غير غربية، كروسيا والصين.[14]
ثالثاً: سياسات الإنكار: أي رفض الفاعلين السياسيين الاعتراف بالحقائق أو عدم الإقرار بفشل سياسة ما أو تجاهل مطالب وحقوق أطراف سياسية ورفض استيعابها. تربط بعض الدراسات حالة الإنكار السياسي كأحد مظاهر العَمَى السياسي بمأزق سوء الإدراك الذي ينشأ لدى أولئك الفاعلين، بمعنى وجود فجوة بين تصوراتهم والواقع أو انحراف عن النموذج العقلاني في التعامل مع المعلومات[15] قد يقود القادة أو النخب أو المؤسسات إلى إدراك مشوه أو متأخر للواقع.
يذكر الكثيرون في منطقتنا العربية حالة الإنكار التي قادت إلى إدراك متأخر للأزمة، في الكلمة الشهيرة للرئيس التونسي الأسبق زين العابدين بن علي للمحتجين المطالبين برحيله في ثورة تونس في يناير 2011: “فهمتكم جميعاً”، حيث سبق تلك الثورة التي امتدت لدول أخرى بالمنطقة تجاهل التحذيرات من أن الهيمنة على السلطة لفترات طويلة وتعطل الإصلاح السياسي وتزايد التفاوتات الاقتصادية-الاجتماعية ومركزية النموذج التنموي على حساب تهميش الأطراف قد يقود في وقت ما إلى تفجر أزمات كبرى.
يستخدم هنا فؤاد السعيد سوء الإدراك للذات أو المتبادل بين الفاعلين السياسيين أو ما سماه العَمَى الإدراكي كمدخل لتفسير تعثر المراحل الانتقالية للثورات خاصة مع تغافل الفاعلين السياسيين عن اختلاف السياقات السياسية والثقافية والمجتمعية بين منطقتنا وتجارب الانتقال السياسي في شرق أوروبا، ناهيك عن تجاهل أهمية الدور الدولي أو الإقليمي في دعم الثورات من عدمه. وطرح السعيد أسباباً لهذا العَمَى من قبيل: خطأ القياس على نموذج سابق، التضارب الإدراكي بين القوى الثورية والدولة، خطأ الاحتكام للمنطق الصوري، تثبيت الصور الذهنية على الأحداث.[16]
لم تتعرض حالة سوء الإدراك المولدة للإنكار السياسي إلى إصلاح أو حتى تم أخذ درس تعثر الانتقال السياسي، كعبرة لدى الفرقاء السياسيين في منطقتنا، كي يتم الحد من حالة العَمَى السياسي لديهم، بل على العكس تفاقم الأمر أكثر بعد تحول الثورات في بعض الدول سواء في موجتها الأولى أو الثانية إلى صراعات مسلحة، على غرار ليبيا وسوريا واليمن والسودان. إذ فشلت الأطراف المتنازعة في التوصل إلى تسوية سلمية بفعل عدم استيعاب مطالب كل طرف للآخر أو ممارسة سياسات الاستقطاب والإقصاء، ناهيك عن الانكشاف الداخلي لدول المنطقة للتدخلات الخارجية.
مُحفِّزات العَمَى.. القادة والأنظمة والمجتمعات
ثمة مُحفِّزات متعددة لنشوء ظاهرة عَمَى السياسات في إدارة الأزمات الداخلية أو الخارجية، وهي تنبع بالأساس من العوامل المسئولة عن عملية صنع القرار أو ردود فعل المتأثرين به، والتي تتراوح ما بين القادة السياسيين والأنظمة السياسية والعلاقات المؤسسية وطبيعة الأزمات والسياقات المجتمعية. مع ذلك، يكتسب عامل القيادة السياسية وزناً نسبياً أكبر بحكم تصاعد أدواره على حساب المؤسسات في صنع واتخاذ القرار سواء في سياقات الأنظمة الديمقراطية أو التسلطية، وإن كان بدرجات متفاوتة بفعل اختلاف آليات المراجعة السياسية والمجتمعية، ويمكن توضيح ذلك كالآتي:
أولاً: القادة السياسيون: يلعب القادة دوراً أساسياً في إنتاج سياسات عَمْياء، وفقاً لعدة محددات منها: سماتهم الشخصية، طريقة توليهم السلطة (ثورة، انقلاب، انتخابات)، طبيعة نظام الحكم (رئاسي، برلماني)، حدود صلاحياتهم وعلاقاتهم بالمؤسسات، ردود فعل المجتمعات. وعلى الرغم من وجود أنماط عديدة للقادة طرحتها الأدبيات، إلا أن هنالك نمطين حديين على طرفي النقيض أحدهما القادة المرنين والآخر القادة غير المرنين، وبينهما توجد درجات متفاوتة. تتسم إجمالاً القيادة المرنة بالانفتاح والاستيعاب والتعديل والتكيف وتعبئة الموارد المؤسسية والاجتماعية في القضايا والأزمات، وهو نمط يسميه البعض “القيادة التحويلية”، على غرار شخصية “غاندي”، بينما على العكس، هنالك قيادات غير مرنة تنزع إلى استخدام القوة لفرض تصوراتها على الأتباع وإخضاعهم أو إجبارهم على الامتثال السياسي، على غرار جوزيف ستالين.[17]
قد ترتبط فرص ظهور سياسات عَمْياء أكثر بالقيادات غير المرنة، كونها تعاني جموداً أو تصلباً إدراكياً، أي ترفض تغيير أو تعديل تصوراتها ومعتقداتها بغض النظر عن التغييرات المحيطة، ويتفاقم الأمر إن كانت تملك سمات الشخصية النرجسية، أي النزوع لتضخيم الذات، الأنانية، توهم العظمة والمعرفة، ازدراء وجهات نظر الآخرين، تبني خطابات المؤامرة وسرديات تبرئة الذات للتنصل من المسئولية عند الفشل في مجابهة الأزمات.
تشير بعض الأدبيات إلى أن العزلة النفسية والاجتماعية لممارسة السلطة والاستمرار فيها لوقت طويل قد تحفز على عدم مرونة القادة، حيث تخلق لديهم ثقة مفرطة واستحقاقاً ذاتياً يجعلهم يعتبرون تصوراتهم وسلوكياتهم عادلة وأخلاقية، حتى لو لم يراها الآخرون كذلك. كما قد يتحيزون أكثر لخياراتهم أو المعلومات والحقائق، ولا يستوعبون وجهات النظر المتعارضة التي تنشأ إثر تعقيدات الأزمات، ناهيك عن الميل إلى الحدس الشخصي للتعامل مع الأزمات، مما يقودهم إلى تجاهل الأضرار الناجمة عن سياساتهم على المجتمعات.[18]
لا تولي أيضاً القيادات غير المرنة الثقة سوى للمعلومات والحقائق والآراء المتدفقة حول الأزمات من الدائرة الآمنة المحيطة بهم من المسئولين أو المستشارين الأكثر ولاءً لهم، والذين قد يمارسون تملقاً أو مجاراة لتوجهات أولئك القادة لإرضائهم، بما يخفض كفاءة صنع واتخاذ القرار. وعرفت السياسة العالمية هذا النمط من القيادات في سماته القصوى المتطرفة، كهتلر وموسوليني في الحرب العالمية الثانية، أو قادة أفارقة بعد الاستقلال، كعيدي أمين في أوغندا وجان بيدل بوكاسا في أفريقيا الوسطى وغيرهم.[19] غير أنه من المهم إدراك أن هنالك اختلافات في درجات وسمات عدم مرونة القادة، وفقاً للخلفيات الفكرية والخبرات والسياقات السياسية والزمنية والمؤسسية، والأهم أن القادة غير المرنين قد يكون لهم قابلية أكبر للظهور في النظم التسلطية من الديمقراطية، بفعل عدم تداول السلطة وضعف قوى المراجعة والرقابة المؤسسية أو الإعلامية.
ثانياً: الأنظمة والمؤسسات: مع أن فرص ظهور السياسات العَمْياء أكبر في سياقات الأنظمة التسلطية مقارنة بالديمقراطية، إلا أن هذا الافتراض على وجاهته وشواهده لا يمكن تعميمه، خاصة مع تطور طبيعة الأنظمة التسلطية، من حيث مدى انفتاح أو انغلاق القيادات أو درجات التماهي بين القيادة والنظام والدولة أو السياقات المؤسسية أو الثقافات المجتمعية.
قد تكون هنالك أنظمة تسلطية، لكن بنيتها الداخلية تسمح بقدر ما من المرونة السياسية التي تحد من السياسات العَمْياء. يعزو البعض ذلك إلى أن انتشار الرأسمالية عالمياً لم يرافقه تلازم بين سياسات السوق والديمقراطية، حيث برزت نماذج لأنظمة تسلطية، كالصين تنتهج سياسات رأسمالية دون قاعدة ديمقراطية بالمنظور الغربي[20]، مع ذلك تملك آليات لمراجعة السياسات في إطار نخبوي مؤسسي داخل الحزب الشيوعي الحاكم.
تظهر تلك المرونة في مثالين للسياسات الصينية، أحدهما، التراجع عن سياسة الطفل الواحد التي أدت إلى تقليل النمو السكاني بحوالي 400 مليون نسمة، وأسهمت نسبياً في النمو الاقتصادي الصيني، إلا أنه تم التراجع عنها، عندما برزت آثارها السلبية على صعيد تباطؤ النمو الاقتصادي، والاختلال الديمغرافي الاجتماعي، وزيادة شرائح كبار السن وغيرها. أما الحالة الأخرى، فتتعلق بتراجع سياسات الإقراض السيادي الصيني إلى أقل من مليار دولار في عام 2022، ليسجل أدنى معدل له مند عقدين، بعدما تفاقمت أزمة الديون للدول الأفريقية بسبب عدم قدرة بعضها على السداد، فضلاً عن تباطو النمو الصيني.[21]
من جانب آخر، تلعب المؤسسات البيروقراطية في الأنظمة السياسية دوراً مؤثراً في التحفيز على السياسات العَمْياء بفعل طريقة معالجة المعلومات، فمع تعدد الأجهزة ووظائفها المتخصصة قد ينشأ إدراك انتقائي للمخاطر، أي أن كل مؤسسة تدرك المعلومات حول الأزمات والقضايا من منظورها الوظيفي الضيق، أو منافستها مع المؤسسات الأخرى، وإذا رافق ذلك عدم تنسيق مؤسسي فقد يقود إلى تشوش في رؤية الخطر وعدم القدرة على توقع أزمات مفاجئة.[22]
المثال الأبرز في هذا الإطار هو فشل الولايات المتحدة في توقع أحداث 11 سبتمبر 2011. فبسبب إرث الحرب الباردة، كان هنالك تركيز أكبر للمؤسسات الأمنية على تهديدات الدول الفاشلة مقارنة بالفواعل المسلحة دون الدول كتنظيم القاعدة، برغم أن الأخير كان قد هاجم سفارتي الولايات المتحدة في نيروبي ودار السلام في عام 1998. عزز ذلك العَمَى ضعف التنسيق والتنافس بين وكالات الأمن والاستخبارات الأمريكية، مما خلق نقاطاً عَمْياء في رؤية تهديدات الأمن الأمريكي.[23]
قد يسهم العَمَى المؤسسي أيضاً في تضليل القادة ودفعهم إلى اتخاذ قرارات خاطئة حتى في سياقات الأنظمة الديمقراطية، يشير البعض هنا إلى تعليق الرئيس الأمريكي الأسبق جورج دبليو بوش بأن العراقيين لا يهتفون لقوات التحالف الدولي أثناء غزو العراق عام 2003. تجسد دهشة بوش حالة قصور المؤسسات في تقييم عراق ما قبل الحرب، حيث توقعت الاستقرار والدعم المجتمعي بعد الإطاحة بنظام صدام حسين، وهو ما لم يحدث من بعض شرائح المجتمع بعد الغزو، حيث شهد هذا البلد انقسامات طائفية وتصاعداً لتنظيمات الإرهاب، والمليشيات المسلح. يضاف إلى ذلك، تزييف المؤسسات الأمريكية الأدلة على امتلاك العراق أسلحة دمار شامل لتبرير سردية الغزو.[24]
ثالثاً: طبيعة الأزمات: أي أن طبيعة الأزمات قد تشكل مُحفِّزاً للعَمَى كونها مواقف طارئة وضاغطة تستحضر معها اللايقين والإرباك المعلوماتي وضيق الوقت لاتخاذ قرار سريع وفعال، بما يشكل ضغطاً نفسياً ومعرفياً وسياسياً على صناع القرار والسياسات. يتوقف حدوث العَمَى في التعامل مع الأزمات على محددات عدة، كحدة الأزمة وتعقدها ومدى ارتباطها بشرعية القادة والنظام، طريقة استقبال ومعالجة المعلومات المتاحة عنها، مدى القدرة المؤسسية على توقعها، طبيعة إدراك الخطر وتقييمه في نطاق الموارد المتاحة، تأثير التحالفات وشبكات مصالح في قرارات الأزمة.
في ظل كثرة المتغيرات الحاكمة للأزمات وتشابكها، قد ينخفض الحمل الإدراكي والمعرفي لصناع القرار والسياسات في التعامل مع المعلومات المتدفقة حول الأزمات، بما يجعلهم يغضون الطرف عن نقص المعلومات، ويبحثون عن حلول سريعة مقبولة، كما قد يتولد لديهم انتباه متحيز، بحيث يركزون أكثر على الأزمة، دون إدراك التغييرات المحيطة بها.[25]
تتفاقم أكثر سياسات العَمَى في الأزمات إن كان هنالك قبلها فترات استقرار طويلة تُصعِّب توقع حدوثها أو اعتبارها غير محتملة، بما قد يضعف من التعامل الجاد مع الإشارات الصغيرة المبكرة التي قد تسبق نشوب الأزمات (قرارات أو سياسات خاطئة في قضية معينة أو حوادث فردية تثير غضب المجتمع)، وهو نمط عرفه بعض دول المنطقة العربية، ففترات الاستقرار قبل ثورات 2011 صعَّبت توقع تحول الإشارات الصغيرة إلى أزمات كبرى، كواقعة إحراق الشاب بوعزيزي في تونس لنفسه احتجاجاً على مصادرة عربته لبيع الخضار، والتي قادت إلى غضب اجتماعي فجر ثورة حينها.
دفع ذلك دراسات عديدة حينها إلى محاولة تفسير العلاقات غير الخطية أو عدم التناسب بين مدخلات الإشارات الصغيرة ومخرجات الأزمات الكبيرة، من خلال نظريات الفوضى أو أثر الفراشة أو البجعة السوداء. وبدت هنالك شروط متزامنة قد تنقل أثر الإشارات الصغيرة من المستوى الجزئي إلى الكلي، مثل القابلية المجتمعية بسبب مشكلات هيكلية مزمنة، انتشار الغضب الكامن، جمود القادة وتاخرهم الإدراكي، ارتباك المؤسسات، نخب قادرة على الحشد[26]
في كينيا، اشتعلت الاحتجاجات الشعبية في يونيو 2024 إثر إشارة صغيرة تمثلت في رفض مشروع قانون يفرض ضرائب جديدة على المجتمع، وبالفعل سحبه الرئيس ويليام روتو، لكن الأزمة لم تتوقف، حيث اتسعت إلى مطالبات باستقالة الرئيس لإخفاقه بوعوده في تحسين أحوال المعيشة، فضلاً عن تفاقم أزمة الدين الخارجي التي دفعت الحكومة، تحت وطأة برنامج الإصلاح الاقتصادي، إلى فرض الضرائب وتقليل الإعانات الاجتماعية. أي أن أزمة مشروع القانون كشفت عن معضلات اقتصادية واجتماعية هيكلية التقطتها نخب شبابية خارج الأحزاب التقليدية لترفع سقف المطالب بالتغيير السياسي[27]. مع ذلك، فإن دولاً أخرى عرفت إشارات صغيرة مشابهة، لكن لم تتطور إلى أزمات كبرى بفعل عوامل وسياقات كابحة، كالتنبه المبكر أو الاستيعاب الإصلاحي أو ضعف البدائل أو الخوف من الفوضى.
رابعاً: السياق المجتمعي: لا يمكن فصل السياسات العَمْياء عن مدى قابلية وتأييد بعض الشرائح المجتمعية لها، لأن ذلك يمنحها شرعية سياسية. على سبيل المثال، فإن سياسات أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا التي تتسم بالانحياز ضد المهاجرين ورفض مشروعات التعاون الجماعي، وسياسات المناخ يراها البعض عَمْياء لكونها تطرح مشكلات لا حلول بما قد يؤدي إلى آثار وخيمة، ويتم التدليل على ذلك بحالة دفع الحركات الشعبوية واليمين المتطرف بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي (البريكسيت)، إلا أن هذا الخروج أعقبه آثار اقتصادية سلبية.[28]
تتلقى سياسات اليمين المتطرف في أوروبا دعماً من شرائح اجتماعية مدفوعة بصعود القومية والتراجع الاقتصادي، وتحميل المجتمعات أعباء التحول الأخضر وتزايد الانفاق العسكري إثر حرب أوكرانيا وفشل النخب التكنوقراطية والأحزاب التقليدية في إدارة الأزمات. انعكس ذلك الدعم الاجتماعي في اتساع حصص الأحزاب اليمينية المتطرفة سواء في انتخابات برلمان الاتحاد الأوروبي الأخيرة أو بعض برلمانات الدول الأوربية.[29]
لكن من المهم ملاحظة أن سياسات أوروبا مع اليمين المتطرف لم تكن عَمْياء، حيث لم يتم إقصائه سياسياً وإنما استيعابه كتيار سياسي في سياق ديمقراطي لكبح تحوله إلى إرهاب يميني كان قد برزت عليه مؤشرات في بعض دول أوروبا خلال العقد الأخير. يعزز سياسة الاستيعاب تلك وجود قوى سياسية موازنة من اليسار والوسط والخضر في أوروبا منعت، على سبيل المثال، فوز اليمين المتطرف بالأغلبية في الجولة الثانية من الانتخابات البرلمانية الفرنسية الأخيرة.
قد يخلق أيضاً انتشار أيديولوجيات الكراهية سلوكاً جماعياً في المجتمعات مُحفٍّزاً على سياسات العَمَى إزاء الآخر، فلا تنظر الاتجاهات الإسرائيلية اليمينية المتطرفة إلى الفلسطينيين كبشر لهم حقوق. لذلك، ليس مفارقة أن يقول وزير الدفاع الإسرائيلي يواف غالنت بعد هجوم حماس في السابع من أكتوبر 2023 أنه سيفرض الحصار على غزة وأنه يحارب “حيوانات بشرية” وسيتصرف على هذا الأساس، واعتبرت منظمات حقوقية مثل هكذا تصريحات دعوة لارتكاب جرائم حرب.[30]
لقي هذا الإدراك العام للقادة والنخب الإسرائيلية تأييداً من شرائح في المجتمع الإسرائيلي، مدفوعة بحالة الكراهية التي أعقبت هجوم حماس. من جانب آخر، لا يمكن فصل الوعي الجماعي في المجتمع الألماني، الذي لا يزال يشعر بعقدة الذنب التاريخي تجاه اليهود جراء الهولوكست، عن سياسة حكومته الداعمة لإسرائيل، برغم ما ترتكبه الأخيرة من جرائم ضد الفلسطينيين.[31]
مخاطر العَمَى.. تحفيز نشوب الأزمات وتعقيدها
قد تؤدي ظاهرة العَمَى في المجال السياسي إلى مخاطر عديدة، حيث قد تسهم في تحفيز نشوب الأزمات والصراعات أو تعقيد تداعياتها. فمن جهة، فإن التجاهل الغربي للاحتياجات الأمنية الروسية المتعلقة بالمخاوف من توسع حلف الناتو في شرق أوروبا شكل أحد عوامل الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير 2022. في المقابل، لم يبعد هذا الغزو المخاطر بل زادها، حيث لم تستطع موسكو إسقاط نظام كييف، كما توسع حلف الناتو ليضم فنلندا والسويد، ناهيك عن زيادة الإنفاق العسكري لدول أوروبا، بخلاف دعم أوكرانيا عسكرياً. من ثم، تعقدت الأزمة أكثر بين روسيا والغرب، وأسفرت عن إنهاك متبادل للطرفين، بفعل سوء الإدراك المتبادل لاحتياجات ودوافع وقدرات كل منهما.[32]
من جهة ثانية، قد يقود التغافل عن دروس الماضي إلى إعادة الأخطاء نفسها، فسوابق الخبرة في الصراعات تشير إلى صعوبة القضاء على حركات مسلحة إذا كانت لديها مشروع أيديولوجي وحواضن مجتمعية مثل عودة طالبان للسلطة بعد عقدين من سقوطها إثر الانسحاب الأمريكي في أفغانستان في عام 2021. إلا أنه يتم غض الطرف عن ذلك الدرس، كما يظهر في تجاهل التصورات الغربية لليوم التالي بعد حرب غزة، تغلغل حركة حماس، على مدار 17 عاماً من حكمها لغزة، في الأبنية الهوياتية والاجتماعية داخل القطاع أو عدم قدرة إسرائيل على الانتصار عليها بعد أكثر من تسعة أشهر من الحرب، حيث اعترفت تل أبيب بأن حماس فكرة لا يمكن القضاء عليها[33]. وفي ظل إضعاف إسرائيل للسلطة الفلسطينية وحصارها مالياً، واحتلال إسرائيل لممرات وأراضٍ في غزة، فضلاً عن تحفظ قوى إقليمية إزاء إرسال قوات إلى غزة لحفظ السلام حال توقف الحرب، ثمة مخاطر من أن تؤول تلك التصورات حول مستقبل قطاع غزة إلى حالة فراغ أمني خطر أو صراع أهلي أو احتلال إسرائيلي كامل.
من جهة ثالثة، قد تُخلِّف سياسات الانحياز آثاراً غير مقصودة، فالسياسة الأمريكية الداعمة لإسرائيل في حرب غزة أسهمت في تراجع الثقة في سياساتها لصالح منافسيها الجيوسياسيين الدوليين، حيث يشير أحد استطلاعات الرأي للبارومتر العربي في أواخر عام 2023 ومطلع 2024 إلى أن ما خسرته الولايات المتحدة من تدهور مكانتها في المنطقة بفعل تلك الحرب ربحته الصين. بل إن هنالك مخاوف من أن يمهد الانحياز الغربي لإسرائيل لبروز موجة إرهاب أو دورة جديدة من عدم استقرار بالمنطقة قد تستهدف مصالح الغرب وحلفائها.[34]
يظل في الأخير أن مكافحة ظاهرة العَمَى في المجال السياسي في التعامل مع الأزمات يرتبط بالأساس بقدرة القادة والنخب الحاكمة على تعزيز قيم وسلوكيات المرونة والشفافية وتحسين كفاءة الأداء المؤسسي على صعيد معالجة المعلومات والقدرة التنبؤية، والأهم وجود اتجاهات لمراجعة السياسات العَمْياء ، فمن دونها قد تستمر دورة العَمَى بلا انقطاع في سياسات الدول إلى أن تنحدر الأزمات إلى منزلق اللاعودة.