على الرغم من الحفاوة البالغة التي استقبل بها أعضاء الكونجرس الأمريكي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قبل وأثناء إلقاء خطابه في 24 يوليو 2024، إلا أن هذه الحفاوة لن تغير من واقع الأزمات العنيفة التي يمر بها سواء داخل إسرائيل أو على المسرح الدولي عامة والأمريكي خاصة.
لقد ذهب نتنياهو إلى الولايات المتحدة محملاً بخمسة مخاوف مختلفة، من الصعب معالجتها بمجرد إلقاء خطاب أمام المشرعين الأمريكيين، خاصة وأن الزيارة قد أتت في خضم انشغال الولايات المتحدة بالانتخابات الرئاسية المقبلة والتي تعقدت بيئتها الداخلية بعد انسحاب الرئيس جو بايدن من السباق الانتخابي وعدم وضوح موقف الحزب الديمقراطي حتى اللحظة من حلول نائبته كمالا هاريس مكانه. ومن المرجح أن تبقى مخاوف نتنياهو على حالها حتى نهاية هذا العام على أقل تقدير حتى لو نجح قبل هذا الموعد في إبرام هدنة مؤقتة مع حركة حماس تؤدي إلى الإفراج عن عدد من الرهائن الإسرائيليين من دون الالتزام بوقف نهائي للحرب كما تشترط الأخيرة.
ملاحظة ضرورية حول موقف النواب من اللقاء
قبل استعراض المخاوف الخمسة التي أشرنا إليها، ثمة ملاحظة أساسية حول مواقف نواب الكونجرس من الديمقراطيين والجمهوريين من حضور خطاب نتنياهو والذي تمت تغطيته بشكل مكثف في وسائل الإعلام العالمية، والتي ركزت على غياب ما يقرب من نصف النواب الديمقراطيين بالإضافة لعدد قليل من الجمهوريين، للإيحاء بأن هذا الغياب يؤشر إلى تغيرات جوهرية داخل الحزب الديمقراطي خاصة، وداخل الكونجرس عامة من إسرائيل.
والواقع أن ذلك ليس صحيحاً على الإطلاق. إذ أن ثمة فارقاً بين مواقف المتغيبين عن اللقاء لأسباب متنوعة مثل وجود ارتباطات مسبقة، أو الانشغال في عملية البحث عن مرشح الحزب الديمقراطي البديل لبايدن، وبين من أعلنوا مقاطعتهم للخطاب للتعبير عن احتجاجهم. فالفئة الأخيرة شملت 38 نائباً فقط من أصل 531 نائباً (يتكون الكونجرس من 535 نائباً ولكن في الوقت الراهن هناك أربعة مقاعد شاغرة في مجلس النواب)، وهو عدد قليل لا يمثل سوى 7% من مجمل نواب الكونجرس، كما أن أغلب النواب الذين أعلنوا مقاطعتهم للقاء عللوا ذلك برفضهم لسياسات نتنياهو، وأوضحوا أن ذلك لا يقلل من تأييدهم لدولة إسرائيل.
أيضاً، فإن مقاطعة نواب الكونجرس لخطاب نتنياهو الأخير لم يكن حدثاً جديداً، فقد خطب نتنياهو أمام الكونجرس ثلاثة مرات قبل هذا الخطاب الأخير، وكانت هناك مقاطعات لخطبه، بل إن من قاطعوا خطابه أمام الكونجرس في مارس عام 2015 كانوا58 نائباً. بمعنى أكثر وضوحاً، تثبت هذه الحقائق بالإضافة إلى حفاوة النواب الأمريكيين بنتنياهو في اللقاء الأخير والتي وصفتها الصحف بأنها غير مسبوقة بسبب مقاطعته بالتصفيق 83 مرة في خلال مدة الخطبة التي لم تزد عن 53 دقيقة، أن ذلك لا يؤشر إلى وجود تغيرات جوهرية في موقف الكونجرس من إسرائيل عامة ومن نتنياهو خاصة، وبغض النظر عن ذلك كله فلا يجب الرهان على تلك المظاهر الشكلية والمعلومات المنقوصة أو المشوهة للبناء عليها مستقبلاً في توقع توجهات السياسة الأمريكية.
مخاوف نتنياهو وتطوراتها المنتظرة
كما ذكر سابقاً، يمكن رصد خمسة مخاوف عبّر عنها نتنياهو في خطابه وإن بشكل غير مباشر أحياناً. وسوف نتناولها ببعض التفصيل لإيضاح مدى عمقها، ومدى تأثيرها المستقبلي على الدولة العبرية حتى في حالة رحيل نتنياهو عن السلطة.
أولاً: الخوف من نزع الشرعية القانونية والأخلاقية عن إسرائيل: خلال الحرب الدائرة في غزة، تعرّضت إسرائيل لاتهامات بارتكاب جرائم ضد الإنسانية أمام المحكمة الجنائية الدولية. كما أصدرت محكمة العدل الدولية حكماً باعتبار الاحتلال الإسرائيلي والاستيطان في الضفة الغربية غير شرعيين. ورغم أن المحكمة الجنائية لم تدن إسرائيل بشكل رسمي فيما يتعلق بجرائمها في غزة، ومع أن قرار محكمة العدل ليس إلزامياً، إلا أن العديد من دول العالم يمكن لها الاستناد إلى قرارات المحكمتين لفرض عقوبات على إسرائيل مستقبلاً، خاصة أن بريطانيا كانت قد أعلنت بالتزامن مع وجود نتنياهو في واشنطن عن سحب تحفظها على قرار المحكمة الجنائية بتقديم مذكرة جلب لكل من نتنياهو ووزير الدفاع يؤاف جالانت.
وعلى الجانب الأخلاقي، عبّر نتنياهو في خطابه عن قلقه من تزايد الاحتجاجات الشعبية في الولايات المتحدة والعالم ضد إسرائيل، واصفاً إياها بأنها مظهر من مظاهر “معاداة السامية”. غير أن استغلال هذه الظاهرة قد تم استهلاكه بشكل كثيف حتى فقد معناه، وجاءت الحرب في غزة وما تشهده من مقتل وجرح ما يزيد على مائة وخمسين ألف فلسطيني لتزيد من ضعف قوة الحجة التقليدية الإسرائيلية التي طالما أرهبت في السابق كل من يتصدى لعنفها في مواجهة الفلسطينيين. وما تخشاه إسرائيل أكثر أن تستغل الحركة المعروفة باسم Boycott, Divestment and Sanctions أو اختصاراً BDS (وهي حركة عالمية لمقاطعة إسرائيل تأسست عام 2005، على يد قوى مدنية فلسطينية) جرائم إسرائيل في غزة لتزيد من أنشطتها المعادية لها على مستوى العالم في السنوات القادمة.
ثانياً: الخوف من زيادة العقوبات الأمريكية ضد المستوطنين الإسرائيليين: بدأت إدارة الرئيس بايدن في فبراير الماضي في فرض عقوبات على المستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية المحتلة بسبب أعمال العنف التي يرتكبونها ضد الفلسطينيين، وقبل خطاب نتنياهو أمام الكنيست بأيام قليلة (11 يوليو الجاري) أصدرت الإدارة الدفعة الخامسة من العقوبات ضد المتطرفين الإسرائيليين والبؤر الاستيطانية غير القانونية. وبسبب فشل نتنياهو في إيقاف قرارات الإدارة الأمريكية، بات من المتوقع أن تطول تلك العقوبات في مرحلة لاحقة أهم حلفاءه في الائتلاف الحاكم، وهما بتسلئيل سموترتش وزير المالية وزعيم حزب الصهيونية الدينية، وايتمار بن غفير وزير الأمن القومي وزعيم حزب القوة اليهودية. وإذا ما حدث ذلك، فإن ائتلاف نتنياهو سيتعرض للتفكك حتى لو استمرت الحرب في غزة، والتي منعت تفكك الائتلاف حتى اليوم رغم كل التحديات التي تواجهه من جانب المعارضة والشارع الإسرائيليين. وإذا كان نتنياهو لم يأت على أى ذكر لهذه القضية في خطابه أمام الكونجرس، إلا أنه من المؤكد أنها كانت حاضرة في اللقاءات الجانبية مع كل من بايدن ونائبته هاريس، وأيضاً مع المرشح الجمهوري الرئيس السابق دونالد ترامب، وعلى الأقل سيحاول نتنياهو تأخير فرض دفعات جديدة من العقوبات خلال الفترة القادمة، ولكن مثلما عاقب الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما إسرائيل قبل رحيله عن البيت الأبيض بأقل من شهر وبالتحديد في ديسمبر 2016 بأن امتنع عن التصويت ضد قرار من مجلس الأمن كان يدين المستوطنات الإسرائيلية، فمن المحتمل أن تفعلها أيضاً إدارة بايدن قبل رحيلها عن البيت الأبيض خاصة إذا ما فاز ترامب بالانتخابات.
ثالثاً: الخوف من إبطاء شحنات السلاح الأمريكي: كانت تلك النقطة هي الأكثر وضوحاً في خطاب نتنياهو، حيث طالب الولايات المتحدة بالإسراع في شحن الأسلحة التي طلبتها إسرائيل. وقد وضع نتنياهو في اعتباره خطورة أن توسع إدارة بايدن من استخدامها لشحنات السلاح كأداة ضغط على حكومته، حيث سبق لبايدن اتخاذ قرار بمنع إرسال أنواع معينة من القنابل لإسرائيل إذا لم تلتزم بتقييد عملياتها في منطقة رفح الفلسطينية. ولكن من غير المرجح أن تتمادى إدارة بايدن في قرارات منع السلاح عن إسرائيل، فمن جانب هناك الالتزام الأمريكي الثابت بضمان أمن إسرائيل، ومن جانب آخر تخشى واشنطن أن يؤدي منع السلاح الأمريكي عن إسرائيل إلى قيام حكومة نتنياهو باتخاذ قرار كارثي باستخدام سلاحها النووي في الحرب، خاصة في جبهة المواجهة المفتوحة مع حزب الله في لبنان. وبالتالى، لا يمكن اعتبار استمرار تدفق شحنات السلاح الأمريكي إلى إسرائيل بمثابة نجاح يُعزى لقدرات نتنياهو السياسية ولخطابه أو لقاءاته في واشنطن، بل هو نتيجة حسابات صرفة للمصالح الأمريكية.
رابعاً: تراجع فرص توسيع اتفاقات السلام الإبراهيمي: أشار نتنياهو – دون أى سند من الحقائق- إلى أن انضمام العديد من الدول العربية لاتفاقات السلام الإبراهيمي وعلى رأسها المملكة العربية السعودية بات قريباً، بالرغم من معرفته بتقارب وجهات نظر العديد من الدول العربية حول ضرورة ربط أى تحركات لتطبيع العلاقات بين العرب وإسرائيل بإقامة دولة فلسطينية. وبمعنى آخر، فإن حرب غزة وتداعياتها فرضت من جديد اهتماماً ليس عربياً فقط بل وعالمياً أيضاً بضرورة تطبيق حل الدولتين، وهو ما لا يستطيع اليمين الإسرائيلي بقيادة نتنياهو قبوله وإلا انهارت شرعيته في الداخل الإسرائيلي، ولذلك يبدو مفهوماً لماذا تفادى نتنياهو في خطابه الحديث عن اليوم التالى لنهاية الحرب في غزة.
خامساً: الخوف من نجاح ايران في صناعة القنبلة النووية: يدرك نتنياهو أن انشغال الجيش الإسرائيلي في حرب مستمرة على ستة جبهات مختلفة (أخطرها الحرب مع حزب الله التي قد تتحول لحرب شاملة في أي لحظة)، قلل، إلى حد كبير، من تركيزه على احتمال القيام بضربة ضد ايران (الجبهة السابعة) لمنعها من تصنيع أسلحة نووية. وبالتالى، طالب نتنياهو في خطابه بتشكيل تحالف دولي بقيادة واشنطن يضم بعض الدول العربية بهدف تحجيم طموحات إيران ومنعها من حيازة السلاح النووي حتى لو اقتضى الأمر استخدام الخيار العسكري. والواضح أن نتنياهو يتجاهل حقيقة صعوبة قبول هذه الدول الانخراط في مثل هذا التحالف، ولكنه على الرغم من ذلك سيظل على محاولاته لتأسيس هذا التحالف اعتماداً على أن سياسة إيران الحالية قد زادت من قلق العديد من الدول العربية خاصة بعض دول مجلس التعاون الخليجي، وأن هذه الدول لن ترهن أمنها في نهاية المطاف لنوايا إيران الغامضة وستبادر لتطبيع علاقاتها مع إسرائيل خاصة إذا ما وصل ترامب للسلطة في العام القادم. ولكن المشكلة تبقى في احتمال وقوع مفاجأة بخسارة ترامب الانتخابات واستمرار سيطرة الديمقراطيين على البيت الأبيض وهم المعروفون بتأييدهم القوي لحل الدولتين.
خلاصة ونتائج
أتى خطاب نتنياهو أمام الكونجرس خالياً من أي تماسك موضوعي في تناوله للمخاوف الخمس الكبرى التي تشغله، والتي من المتوقع أن تبقى مخاوف إسرائيلية عامة بغض النظر عمن يحكم في إسرائيل. لذلك، يمكن تفهم الأسباب التي حدت بنتنياهو لاستخدام كل أنواع البلاغة والاستشهادات الدينية والحجج المنتهية المفعول مثل العداء للسامية لجذب التعاطف لمطالب لا يمكن تحقيقها إلا بتنازلات مؤلمة يصعب عليه شخصياً وعلى أى رئيس وزراء إسرائيلي قادم تقديمها بسبب اتجاه الرأى العام الإسرائيلي إلى التشدد ورفض أى مشروع لتطبيق حل الدولتين. ولن يكون أمام نتنياهو الكثير من الوقت لكى يغير من هذا الواقع قبل رحيله المحتوم عن السلطة، فبدون تحقيق انتصار حاسم على حماس وتحرير الرهائن الإسرائيليين قبل وصول رئيس جديد للبيت الأبيض، لن يتمكن نتنياهو من البقاء في منصبه لفترة أطول.