عيد العرش في المغرب ليس تظاهرة احتفالية فقط ترفع خلالها الرايات الوطنية وإنما هو مصافحة سنوية لعرض الإستراتيجيات المستقبلية لجميع القطاعات التنموية والاقتصادية والسياسية. ويمثل خطاب عيد العرش خطة متكاملة لمواجهة التحديات والمزيد من تثمين المكتسبات.
الرباط- يحتفل المغاربة طيلة هذا الأسبوع بالذكرى الخامسة والعشرين لتولي الملك محمد السادس عرش المملكة المغربية وسط طموحات أكبر لمراكمة الإنجازات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تحققت طيلة ربع قرن.
وجاء خطاب العرش للعاهل المغربي متسقا مع تطلعات المواطنين، حيث حدد فيه البنود العريضة للإستراتيجيات المستقبلية على أن يترك مزيد تفصيلها والغوص فيها للحكومة والمؤسسات ذات الصلة.
وحدد الملك محمد السادس المسارات الإستراتيجية المهمة التي تشغل بال الفاعل المؤسساتي في المملكة، والتي يجب العمل عليها من طرف كل أطياف النخبة السياسية بشكل آني ومستعجل، ما يجعلها أولويات وطنية كبرى.
ووجه العاهل المغربي في خطابة بضرورة تجاوز التشخيص التقليدي للمشكلات والعمل وفق أهداف محددة وواضحة وبأرقام دقيقة وجب على المسؤول، كيفما كان موقعه، لزوماً تنزيلها.
ويحي المغاربة كل سنة عيد العرش باعتباره مناسبة يؤكدون فيها التمسك بالثوابت الوطنية الجامعة، وفي مقدمتها المؤسسة الملكية، الضامنة للسيادة الترابية واستقلالية القرار الوطني.
طموحات مغربية أكبر لمراكمة الإنجازات التي تحققت خلال ربع قرن والمزيد من تثمين المكتسبات
وجدد العاهل المغربي تأكيده على ذلك قائلا في خطاب العرش “وعملنا كذلك، على تكريس الوحدة الترابية، وتعزيز مكانة المغرب، كفاعل وازن، وشريك مسؤول وموثوق، على الصعيدين الجهوي والدولي”.
ويقول مراقبون إن الإصرار الملكي على تجاوز المقاربات التقليدية حل المشكلات ومواجهة التحديات يأتي من الإدراك الدقيق لخطورة المرحلة وجسامة الأمانة الملقاة على عاتقه وتأثير التزامه الوطني بشكل مباشر على المعيش اليومي للمواطنين.
وأكد الملك محمد السادس على ذلك قائلا “التحديات التي تواجه بلادنا، تحتاج إلى المزيد من الجهد واليقظة، وإبداع الحلول، والحكامة في التدبير. ومن أهم هذه التحديات، إشكالية الماء، التي تزداد حدة بسبب الجفاف، وتأثير التغيرات المناخية، والارتفاع الطبيعي للطلب، إضافة إلى التأخر في إنجاز بعض المشاريع المبرمجة، في إطار السياسة المائية”.
وتنطلق الإستراتيجية الملكية لمكافحة الإجهاد المائي من أن إشكالية ندرة المياه تعتبر من بين المسائل المُستعجلة وذات الأولوية بالنسبة للمغرب في الفترة الحالية، والتي تتطلب المعالجة المُمنهجة من خلال تنزيل الحكامة المندمجة والمستدامة الطويلة الأمد للموارد الطبيعية والأنظمة الإيكولوجية الهشة، وتنفيذ التزامات المغرب الدولية في مجال مكافحة آثار التغيرات المناخية.
وتهدف الإستراتيجية الملكية إلى الحفاظ على الأمن المائي وإرسائه على أسس متينة ومستدامة، من خلال حلول تتجاوز الاختلالات التي تعتري قطاع الماء على مستوى الحكامة والتسعيرة والتثمين والاستعمال المعقلن.
وعبر الملك محمد السادس في خطابه بوضوح عن ذلك قائلا “نظراً لتزايد الاحتياجات والإكراهات، نلح على ضرورة التحيين المستمر لآليات السياسة الوطنية للماء، وتحديد هدف إستراتيجي، في كل الظروف والأحوال، وهو ضمان ماء الشرب لجميع المواطنين، وتوفير 80 في المئة على الأقل من احتياجات السقي، على مستوى التراب الوطني”.
ويؤكد محللون أن تنزيل هذه التوصيات الملكية يتطلب تطبيق حلول مستدامة وبديلة لتجاوز تداعيات الجفاف ومشكلة ندرة المياه بشكل عام، وعلى رأسها حلول مندمجة تمزج بين استعمال المياه السطحية والمياه الجوفية، إضافة إلى الاقتصاد في الماء، ثم معالجة المياه العادمة وتحلية مياه البحر، والانتقال إلى التدبير المندمج للماء من طرف منتجي ومستهلكي هذه المادة الحيوية.
ويضيف المحللون أن هذه الحلول ستتيح استغلالاً أكثر فعالية ونجاعة ومردودية للمياه، بما يضمن الماء الصالح للشرب للمواطنين بأقل تكلفة، وكذلك مياه السقي، فضلاً عن تأمين المياه الضرورية للأنشطة الاقتصادية وخلق القيمة المضافة وتحسين دخل المواطنين.
وأعطى الملك محمد السادس أولوية خاصة لملف المياه من خلال إشرافه على عدة جلسات عمل خاصة أعطى خلالها توجيهات لكافة الأطراف المتدخلة. وتأتي هذه الجلسات الدورية لمتابعة تفاصيل تنزيل الإستراتيجية الوطنية للمياه والوقوف على العوائق والعقبات التي تعترضها.
وأطلق المغرب في وقت مبكر خططا وطنية لتوسيع السدود وتشييد أخرى ما مكنه من مواجهة أقل تكلفة وصعوبة للجفاف الذي يضرب منطقة شمال أفريقيا برمتها.
وقال الملك محمد السادس في خطابه “لابد من استكمال برنامج بناء السدود، مع إعطاء الأسبقية لمشاريع السدود المبرمجة في المناطق التي تعرف تساقطات مهمة”. وكان المغرب من الدول السباقة في اعتماد سياسة التعويل جزئيا على السدود في مكافحة الجفاف منذ نهاية الستينات.
ويوصي خبراء المناخ بضرورة إدماج بُعد النجاعة المائية في التصور المستقبلي، وضمان بُعد استدامة الماء بالنسبة للمواطنين والأنشطة الاقتصادية، وفي نفس الوقت تثمين استعمال الماء.
ولم يغفل الخطاب الملكي القضية الفلسطينية وقدم خطة عمل مبنية على الواقعية بعيدا عن الآراء المتشنجة والمتطرفة والتي لا تقدم حلولا بل تزيد من تأزيم القضية. وأكد العاهل المغربي على الالتزام الدائم والموقف الثابت للمملكة المغربية إزاء الدفاع عن القضايا العادلة في الملف الفلسطيني.
وأدانت المملكة بشدة في أكثر من مناسبة الأعمال العدائية التي تستهدف المدنيين وعمليات التهجير القسري وغيرها من الفظائع التي ارتكبتها آلة الحرب الإسرائيلية منذ انطلاق حرب غزة في السابع من أكتوبر الماضي.
وتحرص المملكة على انسجام مواقفها السياسية والدبلوماسية مع المبادئ الدولية لحقوق الإنسان والقانون الدولي بعيدا عن الحسابات المصلحية الضيقة.
ووضع الخطاب الملكي بشأن القضية الفلسطينية خارطة طريق متكاملة لإحياء عملية السلام من خلال إطلاق حوار سياسي عبر قنوات إقليمية موثوقة وبشكل متوازٍ مع وقف إطلاق النار لدفع العملية نحو سلام عادل للجميع وإقامة دولة فلسطينية مستقلة تضم قطاع غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية وذلك وفق القرارات الأممية ذات الصلة.
وهو ما سيشكل مدخلاً أساسياً لتحقيق الاستقرار الإقليمي ونزع فتيل حرب شاملة تهدد أمن واستقرار منطقة الشرق الأوسط بأسرها.
ويرى المغرب أن أي تسوية إقليمية تخص الشرق الأوسط تمر أساساً من خلال الحفاظ على الحقوق الفلسطينية غير القابلة للتصرف، المتمثلة في دولة مستقلة بعاصمتها القدس الشريف وباقي الحقوق الفلسطينية المشروعة.
ويأتي دعم المملكة المغربية للقضية الفلسطينية من منطلقات رئيسية يؤطرها الموقف المغربي الثابت من الحق المشروع للشعب الفلسطيني في دولته المستقلة بعاصمتها القدس الشرقية، ورئاسة الملك محمد السادس لجنة القدس باعتبارها آلية إسلامية تقوم بدور محوري في الحفاظ على المقدسات الدينية في القدس الشريف.
العرب