تسعى المؤسسة السياسية الإيرانية إلى تنويع مساراتها وأطر علاقتها مع دول العالم والانفتاح المباشر لاستعادة دورها في المحيطين الدولي والإقليمي ومحاولة منها في فك الاشتباكات الحاصلة نتيجة العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها بعد انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من مفاوضات البرنامج النووي الإيراني وعدم التواصل والاستماع إلى متطلبات محافظي ومفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية من قبل النظام الإيراني وإيقاف الحوارات والمفاوصات عند جولتها التاسعة والتي كانت تجري في العاصمة النمساوية ( فيينا).
أتبعت السياسة الإيرانية رؤية استراتيجية أملتها عليها الظروف التي احاطت بمنطقة الشرق الأوسط والوطن العربي وتحديدًا بعد نجاح القيادة الصينية في توقيع الاتفاق المشترك بين المملكه العربيه السعوديه وإيران في آذار 2023 والبدأ بصفحة جديدة من العلاقات الثنائية والابتعاد عن خنادق الاختلاف في سياسة البلدين واستعادة الثقة بينهما، وهذا الأمر شجع النظام في إيران على الانطلاق نحو استعادة علاقته مع العديد من الأقطار العرب ومنها القطر السوداني مستغلًا الأوضاع السياسية والعسكرية والصراع القائم مابين القيادة العامة للقوات المسلحة السودانية بقيادة عبد الفتاح البرهان وقوات ( الدعم السريع) التي يشرف عليها محمد حمدان المعروف باسم ( حميدتي) والذي أدى إلى اندلاع الحرب بينهما في نيسان 2023، ووقوف إيران إلى جانب مجلس السيادة ودعم البرهان بالأسلحة والمعدات العسكرية ومنها الطائرات المسيرة التي احدثت تحولًا ميدانيًا لصالح الجيش السوداني، وهذا ما ساهم في تعزيز العلاقات الثنائية بينهما والتي كانت بدايتها في اللقاء الذي حصل بين وزيري خارجية البلدين على هامش
هامش قمة (منظمة) المؤتمر الإسلامي والجامعة العربية (القمة العربية الإسلامية الاستثنائية) التي استضافتها السعودية في تشرين الثاني 2023، ثم تلاها زيارتين لوزير الخارجية السوداني كان آخرها في 30تموز 2024 استقبل فيها وزير الخارجية الإيراني بالإنابة علي باقري وزير خارجية السودان حسين عوض،وأدلى الوزير الإيراني بتصريح أكد فيه أن (العلاقات بين البلدين ستشهد فتح آفاق جديدة ومزيدًا من التعاون المشترك في الأوساط الدولية)، وجاءت زيارة عوض لحضور مراسم أداء اليمين الدستورية للرئيس الإيراني المنتخب مسعود بزشكيان،وكان البلدان السودان وإيران قد أنهيا قطيعة في شهر شباط 2024 دامت ثماني سنوات، واستقبل الرئيس الإيراني حينها ( إبراهيم رئيسي) وزير الخارجية السوداني، آنذاك علي الصادق، على رأس وفد رسمي في أول زيارة رسمية من الخرطوم إلى طهران منذ العام 2016.
في هذه الزيارة اتفق الجانبان على إعادة فتح السفارتين الإيرانية والسودانية واستئناف المهام الدبلوماسية لسفيري البلدين، وهذا ما حدث فعلًا في الحادي والعشرين من تموز 2024 حيث
قدم (حسن شاه حسيني) أوراق اعتماده لقائد الجيش السوداني الفريق أول عبدالفتاح البرهان، سفيرًا ومفوضًا فوق العادة لإيران.
جاءت عودة العلاقات لتشكل انطلاقة جديدة للتحرك الإيراني تجاه القرن الافريقي ومنها الدول الساحلية وابتدأ
باستعادة علاقاته مع السودان، بعدما أيقن ان الصراع القائم في الخرطوم والذي امتد لسنتين ماضيتين من الحرب الدائرة بين الجيش وقوات (الدعم السريع) هو الظرف الصحيح والفرصة السياسية التي عليه أن يستغلها لصالحه وبحكم طبيعة العقيدة السياسية والعسكرية التي ينتهجها النظام الإيراني فقد أقدم الحرس الثوري الإيراني على توطيد علاقته بقيادة الجيش السوداني في قراءة للمصالح الإيرانية في منطقة ساخنة تشهد صراع دولي واقليمي للهمينة والسيطرة والحفاظ على مصالح الدول الكبرى بعد فشل المجتمع الدولي في الوصول بطرفي النزاع إلى هدنة تمهيدًا لوقف الحرب، فحافظ على علاقته مع قيادة الجيش السوداني الذي بدأ في تلقي المساعدة العسكرية والفنية من طهران التي سعت لتعزيز أهدافها العسكرية والتجارية والاستراتيجية في السودان واعتبرتها بداية للانطلاق نحو الدول الأفريقية الاخرى
ثم امتدت لتحسن علاقتها مع دولة النيجر بهدف الحصول على اليورانيوم، والانفتاح نحو أديس أبابا بتزويد الجيش ا الإثيوبي بطائرات مسيرة أثناء حربه مع قوات (الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي) ثم سعت إلى تجديد العلاقات الدبلوماسية مع جيبوتي ومصر.
ويشكل السودان نقطة حيوية في الإستراتيجية الإيرانية المرتبطة بالوجود والنفوذ في مياه البحر الأحمر،الذي ترى فيه إيران انه يوفر لها تفوقًا أمنيًا وعسكريًا في منطقة الساحل الافريقي عبر بوابة البحر الأحمر في إطار سياستها بالتمدد والهيمنة على المنطقة.
وهناك أبعاد دولية لإعادة العلاقة بين إيران والسودان عبر توقيتها الذي يتزامن مع تعزيز علاقة طهران مع روسيا والصين واتجاه الدولتين لإيجاد موطئ قدم على البحر الأحمر، فإن علاقات إيران ستنسجم مع السودان في ظروفه الحالية خصوصًا مع المتغيرات التي قد تشهدها منطقة البحر الأحمر وخليج عدن والفعاليات التي تقوم به جماعة الحوثيين الحليف الاستراتيجي لإيران والتي بدأت تتلقى الدعم من روسيا والتأيد من الصين.
ويمكن النظر إلى الأهداف الإيرانية من التحول في ادامة زخم العلاقة مع السودان انها تسعى لأهداف عديدة أولها العمل ضمن إطار مصالحها ووجود حلفاء لها في الممرات المائية المهمة والتي قد تكون عامل مهم لها في أي مفاوضات قادمة في المنطقة وسيكون بإمكانها عبر وكلاءها من تعطيل الملاحة في ثلاثة معابر مائية أساسية وإستراتيجية هي مضيق هرمز وباب المندب وقناة السويس وصولًا إلى مضيق جبل طارق، وتكون قد استكملت دوائر هذا النفوذ بعدما استطاعت تشكيل منظومة برية عسكرية تحت اسم (وحدة الساحات) التي تضم حلفاءها في اليمن والفصائل العراقية وجماعة الحوثيين، وضمن إطار هذه الرؤية الإستراتيجية التي تأتي استكمالًالوجوده على سواحل البحر الأبيض المتوسط ومنطلقًا لتأمين الدعم لسياسته في النفوذ من خلال مقاتلي حزب الله البناني والتعاون الاستراتيجي والاتفاقيات العسكرية والأمنية التي عقدتها مع النظام السوري التي سمحت لها بالحصول على قاعدة بحرية في ميناء اللاذقية واستثمار هذا الميناء لمدة 50 عامًا، ثم توظيف هذا الوجود العسكري والأمني في دعم موقعها على خريطة المعادلات الجيوسياسية.
تبقى حالة متانة العلاقات بين طهران والخرطوم قائمة على ادامة المصالح المشتركة وتواصل الزيارات بين مسؤولي البلدين التي تسعى لتأسيس ركائز مهمة لحلف استراتيجي يصب في خدمة مصالح النظام الإيراني وتعزيز نفوذه في القارة الإفريقية عبر البوابة السودانية وتوسيع دائرة هيمنته على الممرات المائية في البحر الأحمر، ومصلحة قيادة الجيش السوداني في ادامة زخم معركتها مع قوات الدعم السريع لاستعادة مكانتها وسيطرتها في الميدان السوداني عبر المساعدات العسكرية والمعدات الحربية والطائرات المسيرة.
وحدة الدراسات الإيرانية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجة