ولادة قيصرية لحكومة كركوك المحلية تفتح على مرحلة جديدة من الصراع في المحافظة

ولادة قيصرية لحكومة كركوك المحلية تفتح على مرحلة جديدة من الصراع في المحافظة

محافظة كركوك التي تطلّب تشكيل حكومتها المحلية حوالي ثمانية أشهر دار خلالها صراع شرس على المناصب القيادية في تلك الحكومة تمثّل نموذجا مصغّرا للحياة السياسية في عموم العراق، وتلخّص علل النظام القائم في البلاد والذي تتقدّم فيه مصالح القوى المتصارعة على السلطة على مصلحة البلاد وسكانها.

كركوك (العراق) – لا يمثّل اختيار قيادة جديدة لحكومة كركوك المحلية بعد مضي حوالي ثمانية أشهر على إجراء انتخابات مجالس المحافظات في العراق نقطة النهاية للصراع على قيادة المحافظة الغنية بالنفط والمتنازع عليها بين أكراد البلاد والسلطة الاتحادية العراقية، بقدر ما يفتح على مرحلة جديدة من الصراع الذي تتشابك فيه العوامل الحزبية والعرقية والطائفية مع التدخلات الخارجية.

وتمّ في اجتماع انعقد في فندق بالعاصمة بغداد بعيدا عن مركز محافظة كركوك وحضره تسعة من جملة الستة عشر عضوا الفائزين بمقاعد في مجلس المحافظة انتخاب ريبوار طه من الحزب الوطني الكردستاني محافظا، ومحمد الحافظ عن المكون العربي رئيسا للمجلس.

ويكون حزب الاتّحاد بذلك قد سجّل نصرا مهمّا وإن كان جزئيا في صراعه الشديد ضدّ غريمه الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي لم يمنعه حصوله على مقعدين فقط من مقاعد مجلس المحافظة مقابل خمسة مقاعد للاتّحاد الوطني من محاولة الفوز بمنصب المحافظ ، أو على الأقل منع ذهابه لحزب الاتّحاد معوّلا في ذلك على عقد صفقات مع قوى أخرى لاسيما بعض ممثلي المكونين العربي والتركماني.

لكنّ حزب الاتّحاد الوطني الذي يقوده ورثة الرئيس العراقي الراحل جلال طالباني استفاد في الأخير من علاقته المتينة مع قوى نافذة في الدولة الاتّحادية العراقية وتمكّن من جمع النصاب القانوني لعقد الاجتماع الذي حضره أعضاؤه الخمسة في مجلس المحافظة إلى جانب ثلاثة أعضاء من المكوّن العربي وعضو مسيحي حاصل على مقعد في مجلس محافظة كركوك بموجب نظام الكوتا.

ويلخّص الأسلوب الذي تمّ اللجوء إليه لإزالة الانسداد الحاصل في عملية تشكيل الحكومة المحلية في كركوك التشوّهات التي يعانيها النظام السياسي القائم حاليا في العراق والتي تجعل من المحاصصة والصفقات ذات أولوية على القوانين وحتى نتائج الانتخابات في حل المشاكل وإدارة الأزمات، وذلك بعيدا عن معايير الكفاءة والمهنية في اختيار القادة والمسؤولين.

كذلك لا يُسعد تولي حزب الاتّحاد الوطني لقيادة محافظة كركوك تركيا غير الراغبة في ذهاب منصب بتلك الأهمية للحزب الذي تتهمه بالتعاون مع حزب العمّال الكردستاني الذي يخوض حربا ضدّها منذ نحو أربعة عقود، والتي كانت تودّ أصلا في خروج المنصب من أيدي المكوّن الكردي العراقي ككل درءا لوقوع الثروة النفطية للمحافظة بيد هذا المكوّن، وكانت تتمنى لو يشارك حلفاؤها وأبناء عرقيتها التركمان بفاعلية في قيادة المحافظة.

وقد عملت بالفعل في هذا الاتّجاه من خلال تحريض عرب كركوك وتركمانها على التمسّك بفكرة تداول منصب المحافظ.

لكن التدخّل التركي لم يكن بحدّ ذاته من دون آثار على وحدة تركمان العراق، وقد تجلّى ذلك في انقسام المكوّن سياسيا بين شقين يقود أحدهما أرشد الصالحي ذي التوجّهات العلمانية، ويقود الثاني حسن توران ذي التوجّهات الإسلامية والذي مكّنته ثقة أنقرة فيه من قيادة الجبهة التركمانية العراقية بعد استبعاد الصالحي من قيادتها.

وعلى هذه الخلفية كان من المنطقي أن يكون توران أوّل المعترضين على طريقة اختيار المحافظ الجديد لكركوك، يليه في ذلك شقّ من ممثلي المكوّن العربي كان قد سعى إلى عقد صفقات للحصول على منصب المحافظ.

وهدّد توران باللجوء إلى القضاء للاعتراض على اختيار ريبوار طه محافظا لكركوك معتبرا غياب المكون التركماني عن حضور جلسة انتخاب المحافظ إخلالا قانونيا ودستوريا فادحا.

وقال، الأحد، في تصريحات صحفية “تم تشكيل الحكومة المحلية خارج إدارة تحالف كركوك التي شكلها رئيس الوزراء وكنا حريصين على إنجاح مشروع رئيس الحكومة. وبالتالي تشكيل هذه الحكومة خارج إطار هذا التحالف الذي يضم كل القوائم الفائزة نعتبره خرقا سياسيا فاضحا”.

وأضاف أن “البعض من القيادات تدخل لجعل كركوك ورقة مساومة لخدمة أهداف لا علاقة ولا صلة لها بالمحافظة إطلاقا، كما تحدث البعض عن الأوزان الانتخابية، ونحن كقائمة جبهة تركمان العراق الموحد لا نعترف بنتائج الانتخابات ولا بالأوزان الانتخابية إلا بعد إتمام تدقيق سجل الناخبين الذي قضت المحكمة الاتحادية في الدعوى التي رفعناها بضرورة إجرائه”.

وتابع “واهمٌ من يعتقد أن مشكلة كركوك تحل بتوزيع المناصب، فالمشكلة أساسها تعزيز الثقة بين المكونات، وما حصل في الفندق هو تخريب لهذه الثقة”.

وأكد “نحن كتركمان كنا حريصين على تعزيز هذه الثقة، وعلى تعزيز التعايش السلمي والسلم المجتمعي في كركوك ولهذا طرحنا مبادرتنا قبل ستة أشهر في رؤية كركوك لأننا نعتقد أن المناصب لوحدها وتوزيع المغانم لا تحل مشكلة كركوك”.

ونوه إلى أن “مشكلة كركوك معقدة ولها أبعاد اقتصادية مثل قضية الأراضي والإدارة المشتركة”، مشدّدا على اعتبار “التركمان عنصرا أساسيا في المحافظة ولا يستطيع أحد أن يتجاوز هذا المكون”.

وتتمثل المخالفات القانونية في جلسة اختيار المحافظ بحسب توران في أنّ “المادة السابعة من قانون مجالس المحافظات رقم 21 لسنة 2008 المعدل تنص على أن رئيس السن هو الذي يرأس جلسة انتخاب رئيس المجلس ونائبه والمحافظ ونوابه، وراكان الجبوري هو رئيس السن ولم يكن له علم ولم تتم دعوته لعقد الجلسة”.

واعترض أيضا على عملية اختيار محافظ لكركوك جزءا من ممثلي المكوّن العربي. وقال عضو مجلس المحافظة والمحافظ السابق بالوكالة راكان الجبوري إنّ ما حصل في جلسة انتخاب المحافظ كان إقصاء لممثلي التحالف العربي.

وهدّد الجبوري باللجوء إلى القضاء وخاطب عرب كركوك بالقول في شريط مصوّر إن “استحقاق المكون العربي الذي عملنا عليه منذ 2003 بكل تفان وإخلاص عبر مكافحة الإرهاب وخدمة أهلنا تجلى في حصول المكون العربي في الانتخابات الأخيرة على أعلى الأصوات”.

وأضاف أن “النتائج الانتخابية هي التي مكنت ممثلي المكون من التفاوض والإصرار على الحصول على الحقوق”.

كما هاجم الجبوري ممثلي المكون العربي الذين شاركوا في اجتماع بغداد بالقول “لقد تمّ سلب استحقاقات جماهيرنا من قبل جزء من ممثليكم لم تستوف شكلها القانوني حيث لم يتم تقديم طلب تحذيري إلى رئيس السن، وتمت الدعوة للاجتماع عبر الإعلام في يوم عطلة من قبل قائمة واحدة ولم يتم التبليغ من قبلنا وتم تحديد مكان خارج المحافظة، علما أنه لا يوجد أيّ مانع قانوني أو أمني من عقدها داخل المحافظة”.

ولم يستثن الجبوري التهديد باللجوء إلى الشارع داعيا “الجماهير إلى مساعدة التحالف العربي في إعادة حقوق المكون التي سلبت وأن يكون لها كلمة بحق من قام بالتفريط في المكتسبات”.

وتهدّد مثل هذه الدعوة بفتح مرحلة جديدة من التوتر والتصعيد في كركوك ذات الحساسية الاستثنائية بفعل صراع المكونات العرقية عليها والتدخلات الأجنبية في ذلك الصراع.

وعلى الطرف المقابل دافع حزب الاتحاد الوطني الكردستاني على مكسبه في محافظة كركوك خصوصا وأنّه جاء في فترة ضغوط شديدة تمارسها تركيا على الحزب بمشاركة الحزب الديمقراطي الكردستاني، وفي مرحلة مصاعب اقتصادية ومالية انعكست على الأوضاع الاجتماعية في مناطق نفوذ الحزب وتسببت بحالة من الاحتقان لدى سكّان تلك المناطق.

وقال رئيس الحزب بافل جلال طالباني إنّ “الاتحاد الوطني سينتهج سياسية الرئيس مام جلال (والده الرئيس العراقي الأسبق) ويعمل لمصلحة جميع الأطراف في كركوك دون تمييز”، مضيفا قوله “ينبغي أن نتصالح مع كركوك ونجعل منها نموذجا للتعايش والاستقرار بعد مرور سنوات من الخلافات”.

ووجه المحافظ المنتخب ريبوار طه من جانبه “رسالة إلى أبناء المحافظة والقوى والأطراف السياسية”، مبشّرا فيها ببدء “مرحلة جديدة تكرس السلام والوئام والإعمار وخدمة جميع المواطنين في كركوك دون تمييز”.

وقال طه في بيان “سنبذل قصارى جهدنا من أجل تعزيز الأمن والأمان والارتقاء بواقع الخدمات وتأهيل البنى التحتية والاهتمام بالقطاعات المختلفة وتفعيل الموارد الغنية في كركوك لتحسين معيشة وحياة المواطنين”.

وتعهّد بأن يجعل من موقع المحافظ “أداة لتحقيق السلم السياسي والاجتماعي وتعزيز مبدأ قبول الآخر والعمل المشترك لـ”الأكراد والعرب والتركمان والمسيحيين وجميع شرائح كركوك دون استثناء”.

لكنّ متابعين للشأن العراقي لا يلحظون مؤشّرات على إمكانية تنفيذ ما ورد على لسان المحافظ الجديد من شعارات، محذّرين من أن يأخذ التوتّر في كركوك مدى أبعد من مجرّد التراشق السياسي والإعلامي تغذيه المطامع التركية في المحافظة ويذكيه استعداد الأطراف الداخلية المتصارعة على التعاون مع أيّ طرف خارجي يحقق مصالحها ويساعدها في التغلّب على خصومها الداخليين.

العرب