الحكومة العراقية الحالية التي تحاول تقديم نفسها للشارع المتحفز للتظاهر والاحتجاج باعتبارها مختلفة عن سابقاتها لا تكاد تحقق على أرض الواقع أي اختراقات في الملفات المثيرة للغضب الشعبي مثل انتشار الفساد وتوسع الفقر والبطالة، ما يجعلها واقعة تحت تهديد ذلك الغضب الذي بدأت بوادر تفجّره تلوح بالفعل.
بغداد – تضمنت تظاهرة احتجاجية نظمها الاثنين خريجون مطالبون بالحصول على وظائف في العاصمة العراقية بغداد إنذارا لحكومة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني التي تقودها بشكل رئيسي القوى الشيعية ذاتها التي كانت قد تفجرت بوجهها قبل نحو خمس سنوات أعتى انتفاضة شعبية واجهها النظام الحالي الذي قام إثر الغزو الأميركي للبلاد سنة 2003.
وما تزال الأسباب التي تفجّرت بسببها انتفاضة سنة 2019 قائمة ومن بينها انتشار الفساد في أجهزة الدولة وتردي الخدمات والفقر، إلى جانب البطالة بما فيها بطالة أصحاب الشهادات التي كرستها عشوائية التعليم وانعدام أيّ مخططات للمواءمة بين الشعب التعليمية وسوق العمل.
وأعادت احتجاجات الاثنين إلى الأذهان مشاهد العنف التي رافقت الانتفاضة السابقة حيث أصيب عدد من الأشخاص بجروح خلال قيام القوات الأمنية العراقية بتفريق متظاهرين من خريجي كليات المجموعة الطبية للمطالبة بتوفير فرص عمل لهم، في وقت هدد فيه الخريجون بتعميم احتجاجاتهم لتشمل مدنا أخرى في جنوب العراق سبق أن مثّلت موطنا للانتفاضة السابقة.
وأرجأ منظمو المظاهرات في محافظة ذي قار إحدى نقاط الاحتجاج الأكثر سخونة في جنوب العراق، تظاهراتهم للمطالبة بتوفير فرص للتعيين في المؤسسات والشركات الحكومية، إلى حين الانتهاء من مراسم زيارة أربعينية الإمام الحسين التي تبلغ ذروتها الأسبوع القادم.
وتحاول حكومة السوداني المشكّلة أساسا من قبل الإطار التنسيقي الجامع لأبرز الأحزاب والفصائل الشيعية المسلّحة تقديم نفسها على أنّها مختلفة عن سابقاتها في مجال محاربة الفساد وتحريك عجلة التنمية، لكنّ الأرقام المنشورة من قبل جهات رسمية وأخرى مستقلة من بينها هيئات دولية تشير إلى عدم تحقيقها أيّ تقدّم في ملفات تشكل حساسية خاصّة للعراقيين ومن ضمنها نسبة الفقر وبطالة الشباب.
أسباب تفجر انتفاضة سنة 2019 من انتشار الفساد وتردي الخدمات وشيوع الفقر والبطالة ما تزال ماثلة في واقع العراقيين
وقدّر مصدر في وزارة التخطيط العراقية نسبة البطالة في البلاد بما يصل إلى خمسة عشر في المئة ونسبة الفقر باثنين وعشرين في المئة من مجموع السكّان.
ويعكس توسّع دائرة الفقر والبطالة في العراق حالة مزمنة في الفشل الحكومي المتواصل منذ أكثر من عقدين في معالجة الملف الاجتماعي وتحسين ظروف عيش السكان والارتقاء بمستوى الخدمات العمومية، وذلك على الرغم من الإمكانيات المالية الكبيرة المتوفّرة للحكومات المتعاقبة خلال مرحلة ما بعد الغزو الأميركي للبلد والمتأتية من العوائد المجزية للنفط.
وينزع وجود أكثر من عشرة ملايين عراقي تحت خطّ الفقر، بحسب المركز الإستراتيجي لحقوق الإنسان في العراق، عن الحكومة الحالية برئاسة محمّد شياع السوداني إمكانية التمايز عن سابقاتها في معالجة الملف الاجتماعي.
وتتمتّع الحكومة الحالية بإمكانيات مادية جيّدة بسبب شبه استقرار أسعار النفط في مستويات مرتفعة نسبيا، كما تعتبر حكومة مستقّرة وذات أساس سياسي متين بفعل اتساع دائرة التأييد الذي تحظى به وشمولها أبرز القوى المتحكمة في المشهد العام بالبلاد وفي مقدّمها الأحزاب والفصائل الشيعية المنضوية ضمن الإطار التنسيقي المشكّل للحكومة.
لكن وفرة عوائد النفط تزيد مطامع الشخصيات والقوى النافذة في موارد الدولة وتحويلها إلى مصلحتها الشخصية والحزبية وتذكي الصراعات على الثروة الوطنية. كما أنّ استقرار قوى بعينها في السلطة جعل لها جذورا ممتدة عميقا في الدولة بجميع مؤسساتها وسلطاتها التشريعية والتنفيذية والقضائية ما يوفّر لها الحصانة ضد المحاسبة ويطلق يدها في نهب أموال الدولة وثرواتها التي يفترض أن تذهب لإرساء التنمية وتحسين الخدمات والارتقاء بظروف عيش السكّان.
ولا تستطيع حكومة السوداني رغم ما تعلنه من حملات متعاقبة على الفساد إحداث خرق نوعي في مكافحة الظاهرة نظرا إلى كونها مرتهنة للقوى التي وقفت أصلا وراء انتشارها في البلاد، ولذلك تظلّ مضطرّة للتعايش معها، رغم ما لها من تأثيرات على عملها وما تشكّله من عائق أمام تنفيذ مخططاتها لدفع التنمية وتحسين الخدمات والحدّ من الفقر والبطالة.
وسبق لحازم الرديني نائب رئيس المركز الإستراتيجي لحقوق الإنسان أن كشف بالاستناد إلى بيانات وزارة التخطيط عن وجود نحو خمسة وعشرين في المئة من سكان العراق يعيشون تحت خط الفقر وهو ما يشكل أكثر من عشرة ملايين من السكان.
وقال في بيان نشره في وقت سابق “هناك أكثر من مليون و650 ألف عاطل عن العمل مسجل وبالتالي نطالب الحكومة بالعمل جديا على تقليل نسب الفقر والبطالة بوضع خطة إستراتيجية لخمس سنوات مقبلة تركز فيها على دعم الصناعة الوطنية والزراعة وتقليل استيراد المحاصيل الزراعية والمواد الصناعية”.
وشدد على ضرورة “مراقبة العمالة الأجنبية التي غزت السوق العراقية وقللت فرص العمل للعراقيين والتي قاربت المليون عامل بينما عدد المسجلين رسميا ولديهم إجازات عمل بحدود أربعين ألفا فقط بحسب بيانات وزارة العمل، وكذلك إعادة العمل بإعداديات الزراعة والصناعة والتجارة بعد المرحلة المتوسطة والتي اندثرت بعد العام 2003”.
ولا يمثّل الفقر والبطالة في العراق فقط مشكلة ذات طابع اجتماعي بل لها تبعات أمنية مؤثرّة على الاستقرار الهش في البلاد. ويقول متابعون للشأن العراقي إنّ أحزمة الفقر التي تشكّلت حول المدن الكبرى وعلى رأسها العاصمة بغداد أصبحت بؤرا لشتى مظاهر الانحراف والجريمة، بل تحوّلت إلى حواضن للتطرّف بمختلف مظاهره تجد فيها جماعاته المختلفة بيئة مناسبة لاصطياد أتباع لها بين صفوف الفئات الأكثر هشاشة مادية والأقل ثقافة وتعليما.
ونظم عدد كبير من خريجي كليات المجموعة الطبية الاثنين مظاهرة أمام مبنى وزارة المالية ببغداد للمطالبة بفرص العمل. وسارعت قوات مكافحة الشغب بالتصدي لهم باستخدام العصي والهراوات مما تسبب بوقوع عدد من الإصابات في صفوف المتظاهرين.
وأوضح شهود عيان أن القوات الأمنية قامت بمطاردة المتظاهرين في الشوارع الفرعية كما قامت بإبعاد الفرق الصحفية باستخدام القوة لمنعهم من تغطية الأحداث.
ويعتبر استخدام القوّة في مواجهة التظاهرات والاحتجاجات الشعبية أسلوبا أمنيا شائعا في العراق، وقد بلغ في انتفاضة 2019 مدى من العنف والدموية وأسفر عن سقوط عدد كبير من القتلى والجرحى في صفوف المحتجين في ظل حالة من الحصانة ضدّ المحاسبة والإفلات من العقاب.
وفرة عوائد النفط تزيد مطامع الشخصيات والقوى النافذة في موارد الدولة وتحويلها إلى مصلحتها الشخصية والحزبية وتذكي الصراعات على الثروة الوطنية
وكثيرا ما تلقي القوات الأمنية مسؤولية العنف على المتظاهرين أنفسهم. وقالت وزارة الداخلية العراقية إن مظاهرات الاثنين انطلقت أمام مبنى وزارة المالية، وأثناء قيام بعض المتظاهرين بغلق أبواب الوزارة والطرق شرعت الأجهزة الأمنية القيام بواجبها وفق السياقات القانونية بمنع هؤلاء الأشخاص من غلقها.
وأضافت الوزارة في بيان صحفي أنّه “تم نشر قطعات الأجهزة الأمنية لضمان سلامة المتظاهرين بعد أن حصلت أعمال شغب أدت الى إصابة عدد من أفراد القوة المنفذة للواجب وتمت السيطرة على الموقف وعادت الأوضاع إلى ما كانت عليه من استقرار وهدوء ضمن المنطقة التي حصلت فيها التظاهرة.
وذكر شهود عيان من جهتهم أن أكثر من عشرين متظاهرا أصيبوا بجروح بعد أن استخدمت القوات الأمنية العصي الكهربائية والهراوات لتفريق مظاهرات خريجي المجموعة الطبية.
ويفسّر استخدام العنف في مواجهة التظاهرات بخوف النظام من تدرّجها نحو زعزعة أركانه في ظل معرفة القائمين عليه بحجم النقمة الشعبية على التجربة السياسية التي تسببت بتراجعات للبلد على مختلف الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحتّى الأمنية.
وكانت الانتفاضة السابقة قد تدرّجت من الصبغة المطلبية التي انطلقت منها أولا نحو المطالبة بإسقاط نظام المحاصصة الحزبية والعرقية والطائفية.
ونجح المتظاهرون آنذاك رغم درجة العنف التي جوبهوا بها في إسقاط حكومة رئيس الوزراء الأسبق عادل عبدالمهدي، لكن النظام تمكّن رغم ذلك من التماسك واستنفر جميع قواه في مواجهة موجة الاحتجاجات غير المسبوقة واستنجد بسلاح الميليشيات ولم يستثن استخدام أسلوب الاغتيالات لترهيب المحتجين وتحييد العناصر القيادية في صفوفهم.
وتعتبر القوى الحاكمة حاليا في العراق العمود الفقري لذلك النظام الذي تمكّن من تجاوز عاصفة الانتفاضة والنجاة منها بفضل آلته القمعية متعدّدة الرؤوس والأذرع.
العرب