يعكس توجه السعودية لمراجعة رؤية 2030 وعيا بالمتغيرات والتحديات الاقتصادية والجيوسياسية القائمة والتي حالت دون تقدم خططها على النحو المبرمج سلفا، إلا أن العقبات الاجتماعية كذلك لا تقل أهمية.
الرياض – تدخل خطط رؤية المملكة العربية السعودية 2030 سنواتها الخمس الأخيرة. ومن المرجح أن تعمق الحكومة السعودية الإصلاحات المصممة لتحسين جاذبية البلاد الاقتصادية وأدائها.
وجاء في تقرير لموقع ستراتفور أن الرياض تكافح للتنافس مع إصلاحات جيرانها الاجتماعية واستيعاب الصدمات الجيوسياسية العالمية المحتملة، حيث يمكنها في الأثناء أن تتبنى سياسات أكثر قسرا في بعض الأحيان.
وأعلنت السعودية في الحادي عشر من أغسطس عن إصلاح جديد لزيادة الاستثمار الأجنبي المباشر من خلال تحسين الشفافية في بيئتها التنظيمية وإزالة القيود، مثل تراخيص المستثمرين، التي تعيق التدفقات.
ويعدّ هذا من الإصلاحات الأخيرة التي أعلنتها الرياض ضمن برنامج التنويع الاقتصادي لرؤية 2030. كما أدخلت إصلاحات التأشيرات لجذب العمال والمستثمرين ذوي المهارات العالية، وبعض الإصلاحات الاجتماعية، مثل التسامح مع تناول الكحول في الأحياء الدبلوماسية في الرياض، ومطالبة الشركات بنقل مقارها التجارية إلى العاصمة السعودية أو المخاطرة بالحرمان من العقود الحكومية المربحة.
التكتيكات من المرجح أن تكون تنظيمية وتركز على الحوافز المنظمة بدلا من التفويضات المحتملة غير القابلة للتنفيذ
وتحدث هذه التطورات على خلفية منافسة تنموية إقليمية لجذب الاستثمارات والعمالة والسياح بين السعودية والاقتصادين الآخرين الأكثر تقدما في مجلس التعاون الخليجي، أي قطر والإمارات العربية المتحدة.
وتطمح السعودية إلى جذب 100 مليار دولار من الاستثمار الأجنبي المباشر سنويا بحلول 2030 في مجالات تشمل السياحة والطاقة التقليدية والنظيفة والتصنيع والتعدين والعقارات. لكنها لم تتجاوز 19 مليار دولار في 2023، حيث يقل هذا عن هدفها البالغ 22 مليار دولار لهذا العام.
وسجّلت الإمارات بالمقارنة حوالي 30 مليار دولار في 2023، وبلغت قطر حوالي 30 مليار دولار في 2022، أي السنة الأخيرة الذي تتوفر بيانات عنها.
وليس الاستثمار الأجنبي المباشر مجال المنافسة الوحيد. وتهدف السعودية إلى جمع حصة كبيرة ومتزايدة من السياحة الإقليمية لتنويع الاقتصاد بعيدا عن صادرات الهيدروكربونات.
وحددت هدفا يتمثل في جذب 150 مليون سائح سنويا بحلول 2030. كما تطور المملكة بنية تحتية لوجستية للتنافس مع الإمارات العربية المتحدة، الرائدة الإقليمية الحالية للموانئ والمطارات، وتوسيع قطاع العقارات الفاخرة.
وتتبع خطى صناديق الثروة السيادية الخليجية الأخرى، حيث تطالب الشركات الأوروبية والأميركية التي تستثمر فيها بتأسيس وجود دائم أكبر في البلاد.
وحققت رؤية 2030 أداء عاما مختلطا حتى الآن. وتكبدت بعض مشاريعها الأكثر شهرة، مثل مدينة نيوم الضخمة شمال غرب المملكة، انتكاسات.
وتخضع بعض الخطط حاليا للمراجعة الحكومية لدرس جدواها الاقتصادية. وحقق تنويع البلاد نحو اقتصاد غير نفطي بعض النجاح مع نموه وتوفيره لفرص العمل. لكن بعض التحديات الملحوظة لا تزال قائمة، ومنها السعي إلى المزيد من التنويع الاقتصادي نحو اقتصاد المعرفة.
ورغم أن حصص السعودية (المتطلبات التي تفرضها الحكومة على الشركات لتوظيف نسبة معينة من مواطني المملكة) قد رفعت عدد السعوديين في القوى العاملة، إلا أن هذه الحصص نفسها تعتبر أحيانا عوائق أمام التنويع، بسبب انخفاض الأداء الاقتصادي والتعليمي في المملكة. كما ساهمت الصدمات الخارجية مثل جائحة كوفيد – 19 وأزمة سلسلة التوريد في 2021 والغزو الروسي لأوكرانيا في تعطيل أهداف رؤية 2030 أو إبطائها. وبينما كان أداء المملكة الاقتصادي ونسب البطالة والتضخم جيدا وفقا للمعايير العالمية منذ الوباء، إلا أن بعض هذا النجاح لا يزال يعتمد على الاقتصاد النفطي.
وبلغ معدل بطالة المواطنين السعوديين 7.7 في المئة في الثلاثي الرابع من سنة 2023، مقتربا من هدف رؤية 2030 البالغ 7 في المئة، حيث نمت الوظائف وفرص العمل الجديدة. وبلغ التضخم ذروته عند 3.4 في المئة سنة 2020، وانخفض إلى أقل من 2 في المئة بحلول 2024. كما نما الاقتصاد غير النفطي وبلغ 50 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي السعودي سنة 2023.
وشهد نموا سنويا إجماليا بنسبة 5 في المئة منذ بداية التعافي بعد جائحة 2020. لكن الإمارات تفوقت إلى حد كبير على مستويات النمو السعودية خلال نفس الفترة، خاصة في 2021 – 2022.
وتقرر تجميد العديد من المشاريع الكبرى أو إلغاؤها أو تغييرها مع نمو تكاليفها إثر التضخم العالمي أو في خضم انتشارالتساؤلات بشأن جدواها.
وذكرت منصة بلومبيرغ في أبريل 2024 أن الحكومة السعودية لا تتوقع أن يعيش أكثر من 300 ألف شخص في نيوم.
وشكّل هذا انخفاضا عن خطة أولية تحدثت عن 1.5 مليون شخص. ويمثل عمال البناء والعمال المهاجرون اليوم الجزء الأكبر من سكان المدينة بدلا من المقيمين الدائمين. كما تتواصل مراجعة مشاريع رؤية 2030 في جميع المجالات لتحديد جدواها الاقتصادية، أي جدوى استثمارات الدولة.
وحققت المملكة العربية السعودية هدفها المتمثل في 100 مليون سائح في 2023. لكن 79 مليونا كانوا من المقيمين والمواطنين المحليين، ولم يتجاوز عدد الزوار الدوليين 27 مليونا.
وكان من بين هؤلاء 13.5 مليون شخص زاروا المملكة لأداء فريضة الحج والعمرة. وتبقى دبي المجاورة المركز السياحي الإقليمي، وتتمتع بقدرة على المنافسة. وسجلت حوالي 17 مليون زائر دولي في نفس السنة.
من المرجح أن تواصل السعودية متابعة الإصلاحات التنظيمية والمالية والتأشيرات وغير ذلك من الإصلاحات غير الاجتماعية لتعزيز جاذبيتها كوجهة استثمارية وموقع مناسب لممارسة الأعمال التجارية لتعزيز فرصها أمام منافسيها الاقتصاديين الإقليميين.
وتحتل السعودية المرتبة 62 على مؤشر سهولة ممارسة أنشطة الأعمال الصادر عن البنك الدولي، الذي يشمل 190 دولة، فيما تحتل الإمارات المرتبة 16.
ولا تزال السعودية تسجل درجات أقل في هذا الترتيب على الرغم من تحسنها خلال السنوات الأخيرة، بسبب تصنيفات البنك الدولي لسياساتها التي تؤثر على سهولة إطلاق النشاط التجاري، وحل حالات الإعسار والحصول على الائتمان.
ويمكن للمملكة تحسين أدائها في هذه المجالات من خلال الإصلاح التنظيمي، بما يشمل إصدار تشريعات أو سياسات جديدة مثل قوانين الإفلاس المحدثة أو زيادة التسهيلات الائتمانية من البنوك المدعومة من الدولة. كما قد تواصل السعودية تحرير سياسات التأشيرات، التي استهدفت حتى الآن المستثمرين الكبار، وتوسيعها لتسهيل حصول عائلات من الطبقة المتوسطة على تأشيرات دون الحاجة بالضرورة إلى كفالة صاحب العمل. كما قد توفر المملكة بيئة ضريبية تنافسية أكثر مقارنة بنظيراتها الإقليمية، حيث تنظر دول مثل عمان في فرض ضرائب على الدخل، وتزيد دول أخرى، مثل الإمارات، من ضرائب القيمة المضافة.
ويمكن أن تمتنع السعودية عن فرض ضرائب مماثلة، أو أن تخلق حوافز ضريبية جديدة لأهدافها الاقتصادية الخاصة. وبينما قد ترهق هذه الإصلاحات الضريبية المالية الوطنية، إلا أن المملكة قد تقرر قبول هذه الأعباء قصيرة الأجل لتوليد اهتمام مستدام بالاستثمار.
وتسجل السعودية معدل ضريبة ثابتا على الشركات، ويبلغ 20 في المئة، وهو أعلى من الـ9 في المئة المسجلة في الإمارات والـ10 في المئة القطرية. ويشير هذا إلى مجال للإصلاح الضريبي يمكنه تعزيز قدرة المملكة التنافسية.
الإمارات تواصل من جهتها إيجاد طرق مبتكرة لتحرير مجتمعها لتحسين جاذبيتها كوجهة للاستثمار والعمل.
وتبقى سهولة ممارسة الأعمال التجارية في الإمارات الأقوى في السماح بالبناء وإنفاذ العقود وحماية صغار المستثمرين والحصول على الائتمان، وهي مجالات أخرى من المرجح أن تستهدفها الإصلاحات السعودية خلال السنوات المقبلة.
وستبقى السعودية أقل قدرة على المنافسة من وجهة نظر اجتماعية وثقافية من الإمارات رغم الإصلاحات الاقتصادية والتنظيمية.
وتواصل الإمارات من جهتها إيجاد طرق مبتكرة لتحرير مجتمعها لتحسين جاذبيتها كوجهة للاستثمار والعمل.
ويصل عدد السكان الإماراتيين الأصليين الصغير نسبيا إلى حوالي مليون نسمة من إجمالي عدد السكان البالغ حوالي 9.5 مليون نسمة عند تضمين غير المواطنين.
ويعني هذا أن الإماراتيين يفتقرون للثقل الديموغرافي للرد على الإصلاحات الاجتماعية، ويختار الكثيرون العيش والعمل في مجتمعات منفصلة تحد من رؤية التغيير الاجتماعي حيث يهيمن الأجانب على الاقتصاد الرسمي.
ويختلف هذا عن عدد سكان السعودية، حيث يبلغ عدد المواطنين السعوديين 19 مليونا من بين عدد إجمالي للسكان في حدود 27 مليونا، مما يمنح المواطنين المحافظين المزيد من القوة لمقاومة التغييرات.
وستواصل السعودية لذلك كفاحها لتنفيذ إصلاحات اجتماعية كبيرة تهدف إلى تحرير مجتمعها، وستبقى عاجزة عن جذب أنواع معينة من المستثمرين والعمال غير الراغبين في مقايضة هذه القيم الاجتماعية بامتيازات اقتصادية.
وستواصل الإمارات في المقابل التحرير من خلال توسيع التسامح مع أشكال الفن والترفيه الأكثر ليبرالية.
ستساهم الصدمات الجيوسياسية الأخرى التي تسبب اضطرابات في سلسلة التوريد، وتؤثر على الأمن السعودي، وتباطؤ الاقتصاد العالمي، في المزيد من التأخير في أهداف رؤية 2030.
ويعدّ خطر التصعيد الإقليمي بين إسرائيل وإيران على المدى القريب منخفضا. ولكنه لا يزال قائما، ويهدد بجر المملكة إلى صراع.
وتوجد فرصة منخفضة، ولكنها لا تزال قائمة، بأن يستأنف الحوثيون هجماتهم الصاروخية على السعودية إذا انهارت محادثات وقف إطلاق النار.
ومن المرجح أن تقوّض هذه الأحداث الأمنية الحماس الاستثماري، وحتى تفرض عمليات إجلاء محتملة من أجزاء معينة من البلاد وتتسبب في تأخير المشاريع. كما يمكن أن تغير الأحداث الجيوسياسية الأخرى خارج المنطقة، مثل الغزو الصيني لتايوان، بشكل سلاسل التوريد العالمية وتعطلها.
وسيعيق هذا القدرة السعودية على الحصول على التقنيات والمواد اللازمة وحتى جذب الموظفين المهرة في زمن الحرب. ويمكن أن يؤثرالتباطؤ الاقتصادي العالمي سلبا على أسعار النفط، مما يعطّل أهداف رؤية 2030 مع تقليص (أو إلغاء) العديد من مشاريعها البعيدة، مثل نيوم.
وسيصعب تكييف رؤية 2030 مع تباطؤ صادرات النفط، حيث يأتي الكثير من تمويلها من صندوق الاستثمارات العامة الممول من هذا القطاع. ويُذكر أن الاقتصاد السعودي انكمش بنسبة 4.3 في المئة سنة 2020 بسبب تأثير الوباء الذي اجتاح العالم.
ويمكن أن تعتمد السعودية أساليب قسرية لإقناع المستثمرين والعمال في المنطقة بالانتقال إلى أراضيها في مواجهة المنافسة الاجتماعية الإماراتية واحتمال حدوث صدمات جيوسياسية مستقبلية تبطئ رؤية 2030.
من المرجح أن تواصل السعودية متابعة الإصلاحات التنظيمية والمالية والتأشيرات وغير ذلك من الإصلاحات غير الاجتماعية لتعزيز جاذبيتها كوجهة استثمارية
ويمكن أن تشمل هذه الأساليب القسرية تكتيكات مشابهة لقانون المقرات، الذي يتطلب من الشركات الإقليمية الانتقال إلى المملكة أو المخاطرة بخسارة العقود الحكومية.
ويمكن أن تظهر هذه التكتيكات في سياسات التأشيرات، والسياسات الضريبية، وحتى سياسات الاستثمار الأجنبي، حيث يضغط صندوق الاستثمارات العامة على المستفيدين من استثماراته لزيادة وجودهم في السعودية.
وبينما من المرجح أن تكون هذه التكتيكات غير مرحب بها من المستثمرين ومجتمع الأعمال ككل، لكن حجم سوق المملكة في دول مجلس التعاون الخليجي وإرادتها السياسية القوية لتحقيق أهداف رؤية 2030 يعني أن الذين يسعون إلى الاستفادة من التنويع الاقتصادي في البلاد قد يتسامحون معها، مما قد يعزز الأهداف السعودية نحو التنويع.
ورغم وجود العديد من الطرق المحتملة التي يمكن أن تعتمدها السعودية لتشجيع الاستثمار المباشر وممارسة الأعمال التجارية في أراضيها، إلا أن التكتيكات من المرجح أن تكون تنظيمية وتركز على الحوافز المنظمة بدلا من التفويضات المحتملة غير القابلة للتنفيذ.
ويمكن أن يتراوح ذلك من الضرائب والتأشيرة والمزايا التعاقدية إلى عقوبات مثل الرسوم الأعلى أو صعوبة الحصول على ائتمان داخل المملكة أو ضرائب أعلى.
العرب