د. عبدالمنعم المشاط
النظام الدولى الراهن هو نظام أوروبى بامتياز، تقوده الولايات المتحدة والدول الدائمة العضوية فى مجلس الأمن، واليابان وألمانيا، وتتحكم فيه القيم التى فرضها الغرب منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، من الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان، والشفافية ومجابهة الفساد، وحوالى 17 هدفاً للتنمية المستدامة أقرتها الدول كغايات للأمم المتحدة، ومع ذلك كانت ولا تزال حرب الإبادة الجماعية والتجويع والتطهير العرقى الذى تمارسه إسرائيل بمشاركة ومساعدة الولايات المتحدة وأوروبا ضد الفلسطينيين العزل داخل أراضيهم ومنازلهم، حربا كاشفة لمجموعة من الآفات التى تنحر فى بنية النظام الدولى الراهن، وتمهد بالضرورة وبالتجربة، إلى التحول لنظام دولى بديل، يقوم على الأسس المعلومة للكافة، بنية متناسقة وقوية، أطراف وأعضاء واضحين ومتفاعلين، هوية مستقرة، قيادة متفق عليها ومقبولة من كل الأطراف، وقيم واضحة لا غشاوة عليها، وأهداف مسلم بها لأنها تمس مصالح الجميع، ثم إجماع وتوافق على كل ذلك.
والنظام الدولى الراهن بلا قيم يعتد بها، بل هناك ازدواج مستفز ومقزز فى الاحكام والمعايير إلى الحد الذى يلغى القيم التى قام عليها النظام القائم بما فيها تلك المرتبطة بالرأسمالية كنظام اقتصادى له تبعاته السياسية والاجتماعية، فبينما تقاطع أوروبا والولايات المتحدة روسيا وتفرض عليها عقوبات شتى نتيجة حربها مع أوكرانيا، وتقوم بمد الأخيرة بالمال والعتاد والتدريب وجميع أشكال الدعم الدبلوماسى فى الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة والمنظمات المرتبطة بها ، فإنها تكافئ إسرائيل, الدولة المارقة المعتدية، وتحاصر محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية وقضاتهما وتستنكر إصدار أحكام بعدم شرعية احتلال إسرائيل للأراضى الفلسطينية، وإلقاء القبض على رئيس وزرائها ووزير دفاعها لانخراطهما فى حرب إبادة وجرائم حرب ضد الفلسطينيين، كما أن النظام الدولى الراهن وقيادته لم تنبس ببنت شفة فيما يتصل بقتل الفلسطينيين وإرهابهم وتعذيب المسجونين منهم وإهانتهم ضد كافة مبادئ حقوق الأنسان، آفة ازدواج المعايير تنخر فى أوصال النظام الدولى وتودى به إلى أزمة لا تبقى ولا تذر.
النظام الدولى الراهن نظام ظالم يقوم على طبقية بغيضة. شمال غنى ومتقدم وصناعى وجنوب فقير وعلى أحسن تقدير نام واستخراجي، بيد أن الظلم يتعاظم من مصادر شتى، النشاط الاستخراجى بكل موارده احتكار للغرب بما لديه من أموال وتكنولوجيا، مما يكرس حرمان الفاعلين الدوليين أعضاء النظام الدولى فى الجنوب من عوائد مواردهم. وفى افريقيا على وجه الخصوص توجد القوات العسكرية للقوى الاستعمارية السابقة والحديثة كفرنسا والولايات المتحدة، لضمان تدفق الموارد الخام بما فيها اليورانيوم إلى مصانعهم. النظام الدولى الراهن يطرح أهدافا عدة، القضاء على الفقر وتحسين ظروف المناخ وتحسين جودة الحياة على قمتها، ومع ذلك فإن أسباب الفقر والتلوث الذى يدمر حياة البشر معلومة للجميع، وتحتاج إلى تمويل ضخم من الدول الصناعية الغنية المسئولة عن إفقار الجنوب وتدهور مستوى الحياة وتلويث البيئة ، نظام دولى غتيت يعظم الجانى ولا يتعاطف مع المجنى عليه، نظام فى أشد الحاجة إلى صياغة أهداف محددة واضحة كونية وتحديد أدوات وخطوات ومراحل تحقيق كل هدف.
هل بنية النظام الدولى الراهن وقيادته الغربية تضمنان استدامته بصورة سليمة، أم أنها تقوم على تعظيم التناقضات وتكثيف الصراعات، وتكرار الأزمات وتوظيف الحروب للإبقاء على الوضع الراهن؟ منذ حرب فيتنام وحتى أحداث سبتمبر 2001 اعتمدت الولايات المتحدة وأوروبا على الحرب بالوكالة، على أن تقتصر ساحاتها على دول الجنوب، ثم قررت استخدام قواتها فى حرب مباشرة داخل دول الجنوب سواء فى أفغانستان أو العراق أو الصومال وغيرها، وكثفت من قواعدها العسكرية فى العالم وخصوصا فى الشرق الأوسط والوطن العربي، ولكى تمنع او تحد من الصعود الروسى وتبطئ من التحالف الروسى الصينى وتضعف من قوة مجموعة البريكس تم توريط روسيا فى أطول حرب استنزاف فى تاريخها ضد أوكرانيا وهكذا صارت الصراعات والحروب أداة طيعة لوقف ظهور فاعلين دوليين جدد يسعون إلى تعديل قيادة النظام الدولى والتحول الى نظام جديد، وتحولت حرب الإبادة الجماعية التى تشنها إسرائيل ضد الفلسطينيين إلى علامة فارقة فى إصرار الغرب على فرض ما يراه صحيحا من وجهة نظره سواء من القيم أو الأهداف مع التجاهل التام للقواعد القانونية الدولية التى سطروها هم أنفسهم عقب الحرب العالمية الثانية، التى لم تعد مناسبة لاستمرار تبوئهم قيادة النظام الدولي.
نجمت نتيجة الخلل فى بنية النظام الدولى وانهيار القيم التى أقيم عليها وغموض أهدافه عدة نتائج لا يمكن أن تساعد على استدامته، وعلى رأسها تعاظم المديونية الدولية، إلى ما يناهز 235 تريليون دولار، بينما لا يتجاوز الناتج الاقتصادى الدولى 159 تريليون دولار. وأكبر دولة مدينة فى العالم هى الولايات المتحدة، التى تتربع على العرش الدولى، بما يصل إلى 31 تريليون دولار، تليها الدول الدائمة العضوية فى مجلس الأمن، ولا شك أن هذا الحجم المهول من الدين الدولى والذى يحمل اكثر من ثلثه العالم الثالث يشكل عاملاً خفياً لحرب دولية قادمة لإعادة التوازن بين الموارد والنفقات الدولية. يضاف إلى ذلك، ويرتبط به حجم تجارة السلاح الدولية والذى تجاوز 95 مليار دولار، تتصدرها الولايات المتحدة (17%)، تليها فرنسا وروسيا وألمانيا وغيرها، وتستورد دول الشرق الأوسط، وعلى رأسها الدول العربية ، ما يناهز 30% من تلك الأسلحة، هذا ناهيك عن انتشار أوسع للأسلحة النووية بين الولايات المتحدة وروسيا والصين ودول أوروبية وآسيا، مما يضع النظام الدولى الراهن على المحك.
أستاذ العلوم السياسية- جامعة القاهرة