يشهد إقليم الشرق الأوسط حالة من “الاشتباك” الإقليمي الدولي -سياسيا، ودبلوماسيا، واقتصايا، وعسكريا بدرجة ما- وذلك منذ اندلاع ثورات الربيع العربي. وتكثفت هذه الحالة أخيرا بسبب التطورات التي لحقت بالإقليم، وكان أهمها التوصل للصفقة النووية بين إيران والقوي الغربية، فضلا عن الأزمة السورية، وما لحق بها من تطورات، منها التدخل الروسي العسكري المباشر في سوريا، وإسقاط تركيا لطائرة عسكرية روسية علي الحدود، الأمر الذي يفتح الباب واسعا أمام صراعات جديدة، من شأنها أن تؤزم الوضع الإقليمي، لا أن تسهم في تسوية قضاياه وأزماته.
فالأزمة السورية، التي بدأت بانتفاضة شعبية تطالب بالحرية والديمقراطية، علي غرار شبيهاتها في الدول العربية، سرعان ما خلقت حالة من الاصطفاف الإقليمي بين محورين متعارضين وفرا دعما لأطراف الصراع، محور داعم لنظام “بشار الأسد”، ويضم إيران، والعراق، وحزب الله، والمحور الآخر داعم لقوي المعارضة المعتدلة، ويضم السعودية، ودول الخليج، وتركيا. وسرعان ما تحول الاصطفاف إلي اشتباك إقليمي، بعدما تدخل المحور الداعم للنظام السوري بقوات موجودة علي الأرض، إيران وحزب الله.
وقد كانت هناك مساندة أو رعاية دولية لأطراف الصراع: فروسيا تدعم النظام السوري، عسكريا ودبلوماسيا، لأن سوريا آخر معاقلها الاستراتيجية علي المياه الدافئة. أما الولايات المتحدة، فقد ترددت كثيرا في دعم قوي المعارضة ومدها بالسلاح الاستراتيجي، كما امتنعت عن التدخل المباشر عندما استخدم النظام السوري أسلحته الكيميائية ضد المدنيين، وهو ما كانت واشنطن تعده خطا أحمر يستوجب التدخل. وأخيرا، اقتنعت الولايات المتحدة بالتدخل في سوريا من باب محاربة إرهاب تنظيم “داعش”، بقيادتها للتحالف الدولي الذي بدأ هجماته منذ أكثر من عام، لكن نتائجه كانت متواضعة علي الأرض، وهو ما استغلته روسيا للتدخل المباشر في سوريا.
وجاء التدخل العسكري الروسي ليخلق بعدا جديدا من “الاشتباك” الدولي المباشر مع البعدين الإقليمي والمحلي. وعمق من هذا الاتجاه الاستهداف التركي للطائرة الروسية، وقد تسعي روسيا بجدية لرد الاعتبار، وإزاحة الإهانة التي لحقت بوجه القيصر الروسي، الساعي لاستعادة أمجاد الإمبراطوريتين الراحلتين القيصرية والسوفيتية. ففضلا عما اتخذته روسيا من إجراءات اقتصادية وعسكرية عقابية لتركيا، فإنه لا يمكن لأحد توقع رد الفعل الروسي، خاصة إذا تكرر الاشتباك التركي – الروسي مجددا.
وقد عمق من حالة الاشتباك الدولي أيضا وجود تنظيم “داعش” في سوريا، وهو التنظيم الإرهابي الذي علا شأنه، وتعاظم أثره، خاصة بعد إعلانه مسئوليته عن أحداث باريس الإرهابية. وقد أوجد إرهاب “داعش” للاطراف الدولية المبرر للتدخل الدولي في سوريا، تحت عباءة محاربة الإرهاب، كل حسب أهدافه ومصالحه.
فروسيا تسعي لحماية النظام من الانهيار، أو تعزيز موقفه علي طاولة المفاوضات بشأن التسوية المحتملة، وتقويض المكاسب المحققة لقوي المعارضة علي الأرض. أما الولايات المتحدة، فقد كان مأمولا منها من جانب قوي المعارضة المعتدلة وتركيا ودول الخليج التدخل لمصلحة إزاحة النظام السوري، لكنها لم تفعل، وإنما ترغب في ألا يكون “بشار الأسد” جزءا من أية تسوية محتملة للأزمة السورية. كما أدت أحداث باريس لتفعيل دور فرنسا، ومعها بريطانيا، لمحاربة الإرهاب في سوريا، في حين شجعت ألمانيا علي التدخل الروسي، ودعت لتشكيل تحالف دولي مشترك.
لكن حالة “الاشتباك” التي جسدها التدخل الروسي المباشر في الأزمة السورية تثير العديد من الإشكاليات، منها:
– تهديد الأمن الإقليمي: فقد تؤدي حالة “الاشتباك” هذه لمخاطر جمة علي أمن الشرق الأوسط. فالاشتباك العسكري المباشر قد يؤدي لتفجر صراع كبير، إذا فقدت الأطراف حساباتها العقلانية. فالاعتداء التركي علي الطائرة الروسية كان بمنزلة إعلان حرب علي دولة كبري، وكاد يدفع بالمنطقة إلي حافة الحرب، لولا رد الفعل الروسي العقلاني، الذي بدد احتمالات تفجر الموقف، وإن كانت فرص تفاقم الصراع تظل قائمة.
– تعميق حالة الاشتباك السياسي والدبلوماسي بين الأطراف الإقليمية والدولية في المنطقة: إذ إن التدخل الروسي في سوريا قد أثر سلبا في علاقات روسيا بالقوي الدولية والإقليمية. فقد أكدت المملكة السعودية، عبر مندوبها في الأمم المتحدة، أنه لا يمكن لروسيا وإيران ادعاء محاربة إرهاب “داعش”، وفي الوقت نفسه مساندة إرهاب النظام السوري، مؤكدا أن العمليات العسكرية الروسية في سوريا لم تستهدف تنظيم “داعش”، بل استهدفت فصائل أخري تقاتل الجيش السوري بدعم من تركيا، والسعودية، وقطر. كما وسع التدخل الروسي من فرص التصعيد مع تركيا، خاصة بعد إسقاط الطائرة الروسية، كما أثار قلق إسرائيل وهواجسها من القيود التي سيفرضها الوجود الروسي علي حرية حركتها الجوية في المجال السوري، بل وفي معظم الإقليم.
– تعقيد فرص تسوية الأزمة السورية: وتشير التحليلات إلي أن روسيا تريد فرض رؤيتها الخاصة في الأزمة السورية علي باقي الأطراف، وتأكيد أنه لا بديل لنظام بشار الأسد في سوريا، وهذا علي خلاف ما تطالب به قوي المعارضة والقوي الداعمة لها. وقد أعلنت المعارضة السورية -عقب مؤتمر “الرياض” في ديسمبر 2015 لتوحيد رؤي المعارضة حول ملامح المرحلة الانتقالية- استعدادها للتفاوض مع النظام السوري، شرط رحيل رئيسه بشار الأسد في بداية المرحلة الانتقالية، وذلك استباقا لجولة المفاوضات القادمة في مؤتمر فيينا.
– تقاطع دوائر الصراع: فتعبر حالة الاشتباك أيضا عن تعدد القضايا والأزمات التي يواجهها الشرق الأوسط، ما بين الصراع علي النفوذ الدولي بين القوي الكبري، أو التنافس علي الدور الإقليمي بين قوي الإقليم، أو الحرب علي الإرهاب والتطرف، أو الأزمة السورية، أوالصراعات القومية، والطائفية، والمذهبية، كالحرب الدائرة في اليمن، أو الصراعات الداخلية، كما في ليبيا، وغيرها الكثير من الأزمات الداخلية في بلدان المنطقة، مما يعقد المشهد الإقليمي، ويجعل كل قضاياه غير قابلة للحل، أو يطيل من المدي الزمني للفصل فيما بينها، وكيفية مواجهتها. كما أن تعقد دوائر الصراع ينعكس بالسلب علي القضايا الرئيسية المزمنة في الإقليم، مثل القضية الفلسطينية التي أصيبت بالجمود، إما بسبب الانشغال الإقليمي، أو التعنت الإسرائيلي.
– غياب التوافق الدولي: حيث تشير أغلب التحليلات إلي أن التدخل الروسي في سوريا قد تم بدون توافق بين روسيا والقوي الغربية الكبري، وفي مقدمتها الولايات المتحدة. ففي كثير من الأزمات، بدا أن هناك توافقا ما بينهما، مثل أزمة استخدام الرئيس السوري بشار الأسد للأسلحة الكيميائية ضد المدنيين، وكذلك الحال في صفقة البرنامج النووي الإيراني. لكن كان الاستثناء الوحيد هو التدخل الروسي في الأزمة الأوكرانية، بحجة حماية روسيا لأمنها القومي في جوارها المباشر، علي خلاف تدخلها في سوريا، خارج دائرة جوارها الجغرافي، واضعة نفسها في صراع مباشر مع الولايات المتحدة للمرة الأولي منذ نهاية الحرب الباردة. لذا، فإن مرحلة جديدة من الصراع الدولي قد بدأت من سوريا، وربما قد تؤدي مآلات هذا الصراع إلي تغير موازين القوي العالمية، وإعادة ترتيب القوي الكبري علي قمة النظام الدولي.
ولا شك في أن كل هذه الإشكاليات التي تثيرها حالة الاشتباك تلك قد تؤدي إلي مآلات وسينايوهات مختلفة، أهمها:
– سيناريو الحرب الكبري: فقد سيطر هذا السيناريو علي معظم دوائر البحث، عشية إسقاط تركيا الطائرة الروسية، مستندة في ذلك إلي أن روسيا، العائدة إلي مسرح العلاقات الدولية، سوف ترد ردا قاسيا علي تركيا، وأنه سيكون بمنزلة إعلان حرب عالمية ثالثة، لكن روسيا استبقت لنفسها حق الرد، وعمدت إلي اتباع إجراءات عقابية لا ترقي لمرتبة الحرب. كما بدا أيضا أن واشنطن حريصة علي عدم التورط العسكري بشكل كبير في الشرق الأوسط، فضلا عن جملة من “دعوات الاحتواء والتهدئة” التي صدرت من قبل حلف “الناتو”، والدول الأوروبية، رغبة في عدم التصعيد، بالإضافة إلي أن تركيا ذاتها أصبحت غير راغبة في التصعيد، بعدما أدركت أن رهانها علي حلف “الناتو” كان خاطئا.
ورغم أن هذا السيناريو قد فقد زخمه، وأصبح مستبعدا، فإنه سيظل قائما، في ظل أزمة متلاحقة التطورات، يصعب وضع أطر حاكمة لها، بحكم تعقد المشهد، وتداخل المصالح الإقليمية والدولية فيه.
– سيناريو الحرب الباردة: فقد كانت الأطراف الدولية تشارك في الأزمة السورية عن طريق وكلائها، لكن الجديد، هنا، أن الحلف المساند للنظام السوري قد أصبح طرفا مباشرا علي الأرض بقيادة روسية، في حين أن المعسكر الآخر لا يزال يدعم من الخارج دون التورط المباشر. ولاشك في أن التدخل الروسي قد يعزز من أمد الحرب غير المباشرة، خاصة في حالة مهاجمة القوات الروسية للمعارضة في الشمال، لاسيما أن تركيا الآن قد يصعب عليها القيام بأية أعمال دعم لوجيستية عبر الحدود بسبب الوجود الروسي المتحفز، رغبة في الانتقام، ومنعا لأية تعزيزات تركية لحلفائها في الداخل السوري. كما أن دول الخليج يصعب تدخلها بشكل مباشر لمساندة قوي المعارضة، لكن يمكنها تعزيز المساعدات المقدمة لها، وقد يتم استدعاء أعداد كبيرة من المجاهدين “السنة” إلي الداخل السوري تحت نبرة الصراع المذهبي، وهم الذين تفتحت عقولهم علي جهاد السوفيت في أفغانستان، بما معناه محاولة استنساخ النموذج الأفغاني من جديد. وهذا السيناريو قد يكون قابلا للتحقق، وربما يسبب خسائر فادحة للقوات الروسية، خاصة في حالة إطالة الأزمة زمنيا، وهو أمر قد لا تقوي عليه روسيا، في وقت يعاني فيه اقتصادها وطأة العقوبات الغربية، وانخفاض أسعار النفط.
– سيناريو “سايكس-بيكو” الجديد: بمعني وجود تفاهم ضمني غير معلن بين القوتين (الولايات المتحدة – روسيا) لتقسيم مناطق النفوذ بينهما في المنطقة -الصفقة غير المعلنة- بحيث يكون لروسيا نفوذها في سوريا، مقابل أن يكون للأمريكيين نفوذهم في العراق. وربما تقوم الصفقة علي التوافق علي تسوية ما للأزمة السورية، يكون مضمونها “رحيل الأسد دون رحيل النظام”، مع ضمان المصالح الروسية، وإلي حد ما الإيرانية، في إطار صفقة كبري تضمن للأمريكيين مصالحهم في الشرق الأوسط، بما فيها ضمان أمن إسرائيل، والنفط، إلي حد ما، والسماح لتركيا بالقيام بدور ما، بما يضمن لهم الخروج الآمن من الشرق الأوسط، في إطار التوجه شرقا، مقابل دور روسي محدود في الشرق الأوسط، والتجاوز عن العقوبات الغربية المفروضة علي روسيا، جراء تدخلها في أوكرانيا، وتأجيل قبول دول أخري من دول شرق أوروبا لحلف الناتو. فإذا كانت الولايات المتحدة عازمة علي الخروج، فلتخرج بمنطق “الصفقة ذات الضمانات” حماية لمصالحها أفضل من أن تخرج خاوية الوفاض.
وفي ضوء هذا السيناريو المحتمل بقوة، يظل التساؤل المطروح للبحث: هل ثمة مباراة دولية جديدة في الشرق الأوسط؟ “السياسة الدولية” تحاول، من خلال نخبة من كبار الكتاب والمتخصصين، معرفة أبعاد هذه المباراة، وتحديد أطرافها، وسياساتهم، وإمكاناتهم، والفرص والعقبات أمامهم، وهل ستكون المباراة صفرية؟، ولمن ستكون الغلبة؟.
أبو بكر الدسوقي
مجلة السياسة الدولية