أمريكا وإيران.. التوجه لسياسة العمق الداخلي الاستراتيجي

أمريكا وإيران.. التوجه لسياسة العمق الداخلي الاستراتيجي

اياد العناز

كان لخطاب وتوجه الإدارة الأميركية الجديدة بعد دخول الرئيس دونالد ترامب للبيت الأبيض لولاية ثانية انعكاسات عديدة على طبيعة الأحداث والأزمات السياسية في الشرق الأوسط والوطن العربي، وكان من أبرزها ما تعلق بكيفية إنهاء القتال في الأراضي الفلسطينية وتوقيع اتفاق تبادل الأسرى ضمن مراحله الثلاث بين حركة حماس وإسرائيل والبحث عن مخرجات سياسية للأوضاع الميدانية في قطاع غزة.
جاءت زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لواشنطن ولقائه مع الرئيس ترامب في الرابع من شباط 2025 تأكيدًا للدعم الشامل لسياسة الحكومة الإسرائيلية وإطلاق شحنة الأسلحة التي توقفت في عهد الرئيس جو بايدن ووصولها إلى ميناء أسدود يوم 16 شباط 2025 بحمولة من ذخائر ثقيلة طراز (MK-84) وتم نقلها إلى قواعد سلاح الجو، مع 76 ألف طن من المعدات العسكرية في 678 رحلة جوية و129 عملية شحن بحري. وهي أكبر عملية شحن جوي وبحري في تاريخ إسرائيل، وتشكل رصيداً مهما لسلاح الجو والجيش الإسرائيلي ودليلاً إضافياً على العلاقة القوية بين إسرائيل والولايات المتحدة.
وكان معهد بحوث الأمن القومي الإسرائيلي قد أوصى بإعطاء أولوية شاملة لحوار استراتيجي مع إدارة الرئيس ترامب بهدف تعزيز العلاقة معه والتوافق على الرؤى المشتركة حول مستقبل الشرق الأوسط بإضعاف إيران وتعزيز سياسة السلام مع الأقطار العربية وخاصة المملكة العربية السعودية، ولكنه تفاجأ بنتائج اللقاء الذي تم بين ترامب ونتنياهو، والذي قال عنه الاخير (إن إسرائيل تعيش أفضل أيامها بوجود إدارة ترامب).
ثم كان الإجراء الذي اعتمدته الإدارة الأمريكية بإقرار سياسة (الضغط الأقصى) ضد إيران وتفعيل مركز للعقوبات الاقتصادية بشمولية أكثر ومحاسبة جميع الجهات التي تتعامل معها أو تساعد في استقبال شحنات النفط والغاز التي تصدرها خلافًا للعقوبات عليها، ومنحت إيران فرصة سياسية في قبول الشروط الأمريكية بإيقاف نشاطات برنامجها النووي والحد من مشروعها السياسي الإقليمي في التمدد والنفوذ والتدخل بالشؤون الداخلية لعواصم الأقطار العربية، وفي حالة عدم الرضوخ للإملاءات الأمريكية فإن إيران من الممكن أن تتعرض إلى هجمات عسكرية وفعاليات جوية تطال منشآتها النووية وقواعدها العسكرية ومصادر الطاقة فيها.
وجاء الرد الإيراني على لسان رئيس منظمة حماية الاستخبارات التابعة للحرس الثوري الإيراني اللواء مجيد خادمي من أن أي تهديد للمصالح الوطنية سيواجه برد فعل مماثل على المستوى العالمي، مقللاً من فكرة التفاوض مع الولايات المتحدة ووصفها بأنها خط أحمر، وقال (إذا حاولت الولايات المتحدة تنفيذ أي أعمال شريرة، فسنرد بصورة قاطعة وحازمة).
وحاولت السياسة الإيرانية توظيف الأحداث التي عاشها أبناء الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية لتحقيق مكاسب ومنافع تعزز من مكانة إيران إقليميًا لتكون ورقة ضغط لديها في أي مفاوضات تتعلق ببرنامجها النووي أو تأثيراتها الميدانية على مجمل الأوضاع التي تمر بها المنطقة، ولكنها جوبهت بضرب درة تاج مشروعها السياسي في الجنوب اللبناني وسقوط وهروب حليفها الاستراتيجي بشار الأسد من سوريا وتدمير أنظمة الدفاع الجوي وقواعد الصواريخ الباليستية ومعامل إنتاج الصواريخ في الضربة الإسرائيلية التي تلقتها في منتصف شهر تشرين الأول 2024.
من هنا تعالت الأصوات السياسية في الهيكلية التنظيمية للنظام مطالبة بحق التفاوض مع الولايات المتحدة الأمريكية والتوصل معها إلى اتفاق جديد يتم بموجبه تخفيف الضغوط ورفع الحصار عنها، والتوصل إلى تفاهم مع الرئيس ترامب يؤدي إلى تعزيز التحرك السياسي الإيراني دوليًا وتحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي يعاني منها أبناء الشعب الإيراني.
وهذه كانت أهم المنعطفات التي أدلى بها الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في أولى جولاته الانتخابية وتأكيده على اتباع الطرق الصحيحة والمناهج السليمة التي تؤدي بإيران للخروج من أزماتها الاقتصادية وإعادة تركيبتها السياسية ودورها الإقليمي ضمن معادلات العلاقات السياسية بين بلدان العالم، وأن تكون بداية الخطوات الانفتاح على الولايات المتحدة الأمريكية وإجراء مفاوضات مباشرة مع إدارتها الجديدة، وساعده وأيده في نظريته السياسية مساعده للشؤون الاستراتيجية محمد جواد ظريف، وهذا ما ساهم في تصاعد حدة الخلافات والصراعات السياسية بين الرئيس بزشكيان وطاقمه الاستشاري الحكومي وبين القوى الإيرانية الممانعة لأي حوار مع الاميركيين وهو الخط المتشدد من المحافظين وبعض القيادات العسكرية في فيلق القدس والحرس الثوري المتضررين من وصول الرئيس مسعود بزشكيان وخطابه الإصلاحي، وهو خلاف تحركه دوافع سياسية ذات أهداف ومكاسب استراتيجية تتعلق بمنطوق السيطرة على الحكم ومعارضة أي خطاب معتدل إصلاحي التوجه حتى وإن كان الغاية منه الحفاظ على بقاء النظام وحماية الأمن القومي الإيراني.
وأمام حالة التصعيد ولإعطاء حالة من الردع الخارجي والاطمئنان الداخلي وفي محاولة تعطيل خطوات الانفتاح على إدارة الرئيس ترامب، قال قائد القوة البحرية للحرس الثوري إنه (سيغلق مضيق هرمز رداً على تهديدات ترامب وإجراءاته العدائية بشأن منع صادرات النفط والعقوبات الشديدة على إيران، لكننا لا نفعل ذلك في الوقت الحالي ما دام أننا نستخدم هذا المضيق بأنفسنا)، لأنه يدرك أن عمليه غلق مضيق هرمز سيؤدي إلى زيادة حالة الرفض العالمي والإقليمي لإيران وإجراءاتها كون 40٪ من التجارة الدولية والانتاج العالمي للنفط يمر عبر هذا الممر المائي المهم، وأن أي تمدد بهذا الإجراء سيؤدي إلى الإساءة للعلاقات ما بين المملكة العربية السعودية ودول الخليج العربي والإضرار بمصالح الصين الدولة الحليفة لإيران والتي من الممكن أن يتسبب الحال في خلق مشاكل عديدة في استمرار وصول النفط الإيراني إليها.
ويحاول الرئيس بزشكيان مد جسور العلاقة الإيجابية مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية بعد تقريرها الأخير حول إنتاج إيران نحو سبعة كغم من اليورانيوم المخصب بنسبة 60٪ وتركيب أجهزة طرد مركزي أكثر تقدماً وتغذي بعضها باليورانيوم المخصب إلى مستويات أعلى، مما يؤدي إلى تنفيذ توجهاتها بصنع قنبلة ذرية وعدم اعتماد برنامجها النوري لاستخدامات مدنية خاصة.
جميع الانظار تتجه إلى النتائج التي قد تحصل لإيران إذا ما رفضت أو اتبعت سياسة التعنت في قبول الحوار مع الولايات المتحدة الأمريكية أو إيجاد المعوقات التي تقف حائلًا في إجراء أي جولة من النقاش بين الدولتين، وأولى المخاطر التي ستكون تجاه إيران هي إحياء (آلية سناب باك) أو ما يعرف بالضغط على الزناد واتباع حدة العقوبات التي تلائم مقررات مجلس الأمن الدولي عام 2015 وهو ما تخشاه إيران، مع اعتماد صيغة التفاعل الدبلوماسي الأوروبي والإقليمي للإجراءات الأمريكية والتعاون في تطبيقها.
يدرك الرئيس بزشكيان خطورة التطورات السياسية وطبيعة الثوابت الأمريكية في تنفيذ سياسة الضغط الأقصى، لهذا سعى إلى اعتماد مبدأ مفهوم العمق الإستراتيجي وتحديد آفاقه ومدياته في الداخل الإيراني واستعاض عن سياسة إيران التي كانت تضع العمق الإستراتيجي أداة لتنفيذ مشروعها السياسي الإقليمي خارج حدودها الجغرافية، ويرى أن العمق الداخلي هو الأهم لبقاء وديمومة النظام باعتماد خطط وبرامج تنموية واقتصادية لحل الأزمات الاجتماعية التي تعصف بالمجتمع الإيراني، وأن يكون الحل السياسي بالحوار مع واشنطن هو الطريق الأول لتنفيذ سياسة العمق الداخلي، ورفع شعار الوفاق الوطني الذي دعا فيه جميع القوى الإيرانية بالعمل على وحدة الصف وإنقاذ إيران وحماية البلاد وتعزيز علاقة النظام مع المواطنين، وسعى إلى مداولة سياسية مع المرشد الأعلى علي خامنئي لتوضيح مخاطر عدم الاهتمام بالعلاقة مع الجانب الأمريكي وضرورة البدء بسياسة واقع الحال التي تقتضيها الأوضاع السياسية التي تمر بها إيران ومحاولة تجنيبها أي مخاطر داخلية وخارجية.
ويبقى الأمر منظورًا حول كيفية التعامل الروسي مع التقارب الأمريكي الإيراني ومدى تأثيراته على المصالح العليا الروسية في علاقتها مع إيران وتواجدها في منطقة الشرق الأوسط.

وحدة الدراسات الإيرانية

مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجة