كل الدول الفاشية أو الشمولية نهايتها محتومة، وكلما كانت وحشيتها فاحشة، كانت النهاية أسرع حتى بعد فترة من الانتصارات المبهرة. ولا يحدث ذلك عادة بسبب نقص في الإرادة، أو العزيمة القتالية، أو القيادة المدربة، أو حتى الجنود الشجعان؛ وإنما يكون ذلك لأن الفكرة ذاتها فاشية أو نازية أو شيوعية تحمل داخلها بذور تدميرها، بل وتجعل تجنب هزيمتها أو الخروج من المأزق الذي وصلت إليه مستحيلاً. قرأت مؤخرًا كتاب «آيان كيرشاو» «النهاية: التحدي وتدمير ألمانيا الهتلرية 1944 – 1945». الكتاب يتناول الفترة من 20 يوليو (تموز) 1944 حينما جرت محاولة اغتيال هتلر، وحتى 8 مايو (أيار) 1945 عندما استسلمت ألمانيا. عشرة شهور تقريبًا بين البداية التي أدركت فيها قيادات عسكرية ألمانية أن ألمانيا هزمت، ولا سبيل إلى إنقاذها أو بعض منها، إلا بالاستسلام قبل دخول القوات السوفياتية والأميركية والبريطانية والفرنسية إلى الأراضي الألمانية. ساعتها كان التفاوض ممكنًا، فألمانيا كان فيها بعض من القوة، ولديها جيوش مرهقة، ولكنها قادرة على جرح الأعداء، كما كان لها قوات في إيطاليا والدنمارك والنرويج وشمال هولندا تتجاوز المليون. فشلت المحاولة، ومن بعدها بدأ الانهيار التدريجي، والأكثر خطورة كان التدمير الشامل لألمانيا.
لم تكن هناك قيادة عسكرية ذات قيمة في ألمانيا لا تعرف أن ألمانيا خسرت الحرب، ما عدا شخصا واحدا هو هتلر، ومعه عدد قليل من المريدين، الذين غلبت عليهم الدروشة النازية على الحسابات العقلية. خلال عشرة شهور فقط خسرت ألمانيا من البشر والمعدات والحضارة أكثر مما خسرته منذ بداية الحرب. شيء من هذا تقترب منه دولة «الخلافة» المزعومة التي نغامر بالتنبؤ أن نهايتها ربما ستكون هذا العام 2016. الشواهد موجودة، فبعد التوسع الذي جعلها تمتد من شمال شرقي سوريا حتى أبواب بغداد على نهر الفرات، أخذت الدولة في التقلص، وخلال العام الماضي 2015 خسرت كوباني، وفقدت سنجار وباجي وتكريت ومؤخرًا الرمادي. والمراقبون لما يجري في «الرقة» شاهدوا عائلات القيادات الداعشية وهي تهاجر إلى الموصل. وخطاب «أمير المؤمنين» إبراهيم البغدادي بدأ في تحضير أتباعه للحظة القادمة، وكان منطقه هو منطق الطغاة نفسه الذين سبقوه، وهو أن الكيان الذي أقامه ليس هي الأول، فقد سبقه كيان آخر (كيان الزرقاوي)، فإذا ما انهار الكيان الحالي، فإن جذوره سوف تظل باقية وستنبت في وقت ما في المستقبل. ذلك هو القدر المحتوم والقضاء النافذ كما يعتقد، كما اعتقد هتلر من قبله أن «الرايخ الثالث» مثل طائر العنقاء الذي قد يختفي، ولكنه يبعث من الرماد دومًا من جديد.
آلية السقوط دومًا تعتمد على فكرة تبدو مقدسة، ومن ثم فهي غير قابلة للهزيمة، وحتى إذا ما خسرت فإنها تعود من جديد، ففيها ملمح دائم من ملامح السرمدية، أو هكذا يعتقد القادة من أصحابها، ويُرضعون به جماهير وشعوبًا وأحيانًا أممًا حتى تعتقد أنها إزاء مهمة تاريخية يعد النكوص عنها خيانة، أو في حالتنا كفرًا. مثل ذلك يعطي إحساسًا بالسمو، والتعالي على الأجناس والأعراق الأخرى، التي من دونيتها تستحق الاستعباد والرق والسبي. كل ذلك يتضخم مع تحقيق «انتصارات»، ولكن ما أن تبدأ الهزائم والتراجع، فإن تفكير «المؤامرة» يسيطر فورًا، ويعقبها توقع حدوث معجزة من نوع أو آخر، كل ما يحتاجه الطرف الفاشي الصمود، والقتال حتى آخر طلقة، لا يهم ما يدمر، ولا من يموت، بل إن من يضعف أو يجد أن القضية برمتها فيها من الزيف ما لا يستحق الدفاع عنه، فإن مصيره يكون الموت.
هذه الآليات دمرت ألمانيا، وأخذت اليابان إلى التدمير بالقنبلة الذرية، ولكن الفاشية والنازية لم تنته تمامًا، يكفي أن أعدادها وأظافرها تقلمت، ولم يبقَ منها إلا أفكار شريرة. ولكن التاريخ لا يعيد نفسه بالقصة نفسها، وإلى الدرجة نفسها، وما أتت به «القاعدة» من قبل، و«داعش» الآن، ومن خلفهما فكر الإخوان المسلمين المؤسس، عاش عصرًا مختلفًا، ونشأ في بيئة جديدة. عصر الثورة الصناعية الثالثة اختلف عن عصر الثورة الصناعية الثانية، العولمة خلقت مجالاً عالميًا للحركة ونشر الأفكار، واستغلال المظلوميات والمواجع للتجنيد والتدريب، وحتى دون هذا وذاك، فإن الأفكار وحدها تكفي لخلق «الذئاب المنفردة» التي تقتل وتفجر وتحرق. وعندما يوجد مليار وستمائة مليون مسلم، فإن نسبة ضئيلة للغاية منها تعيش على هوامش المدن، أو تتعرض للاضطهاد بشكل أو بآخر، فإن مئات الألوف منها تشكل جيوشًا تتحرك عبر القارات والدول، وتجعلنا نشاهد ما نشاهده من تفجيرات ومذابح، وفي أقل الأحوال تعطيل حركة البشر والسلع والبضائع.
هنا، فإن نهاية «داعش» في سوريا والعراق لن تعني بالضرورة نهاية «داعش»، فالمرجح أنها بدأت بالفعل في خلق قواعد بديلة، أو قواعد بديلة على استعداد للترحيب بها في الصحراء الأفريقية وفي ليبيا وفي القرن الأفريقي. المدن الكبرى بملايينها الكثيرة في أوروبا وآسيا وحتى أميركا الجنوبية تصلح مكانًا للاختباء والاختفاء والتجنيد، والانطلاق مرة أخرى للقيام بالعمليات الإرهابية. هنا، فإن المؤكد أن هزيمة «داعش» سوف تسدد ضربة لكبرياء وزهو المنظمة الإرهابية، وقد تشكك في حتمية انتصارها الأبدي، ولكن المعركة الكبرى سوف تكون في عقول البشر، وهي معركة علينا أن نعترف أننا في الدول العربية والإسلامية المتصارعة مع الإرهاب لم تحقق كثيرًا من النجاح. الكفاءة لم تصل بنا إلى تبيان الخط الفاصل بين الإسلام الحقيقي الذي فيه التسامح وحق الاختيار والإيمان بالتنوع البشري، وإسلام الخوارج الذي لا يوجد فيه إلا فسطاط المؤمنين وفسطاط الكفر.
هذه مسألة لا بد وأن تدخل فيها الدولة، والمثقفون، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، والجمعيات الأهلية، خصوصًا تلك الموجودة في الغرب وكان عليها أن تتكيف مع واقع العصر الحديث. الإصلاح الديني هنا ضرورة طال غيابها وتأخرت كثيرًا عن ترجمة الدين الإسلامي إلى ما امتاز به عبر العصور، وهو المرونة والقدرة على التعامل مع عصور وأزمنة مختلفة. ولكن بقدر ما أن المعركة فكرية، فإنها أيضًا سياسية داخل بلادنا، حيث تشكل أوضاع الأقليات بيئة صالحة للتطرف، وخارج بلادنا حيث لا يوجد مصلحة لأحد أن يكون الإسلام في المنظار بالإيهام بأنه على خصومة مع بقية دول العالم. حتى الآن، فإن «داعش» نفسه قام بمهمة تجميع دول وكتل وأحلاف ضده، ولكن إدارة هذه التحالفات بشكل رشيد تحتاج الكثير من الحنكة والصبر والتفكير الاستراتيجي الناضج.
ما سنواجهه خلال الشهور المقبلة سوف يكون حاسمًا في تقرير مصير «داعش»، ولكن النصر عليها لن يعني كسب الحرب، فهناك معارك أخرى لإعادة ترتيب الأوضاع في المشرق العربي، وهناك المعارك الأخطر التي ستتولد عن الأشكال الأخرى للعنف الداعشي. الأمر يحتاج إلى قوات خاصة معدة للغرض، ومفكرين استراتيجيين لديهم الموهبة للتعامل مع خطر من نوع جديد، وتحالفات دولية واعية تعرف كيف تضع الأولويات، وكيف تخوض معركة طويلة المدى وتحتاج إلى الكثير من الصبر!
د.عبدالمنعم سعيد
صحيفة الشرق الأوسط