لم ينس قيصر الكرملين القوي ورجل المخابرات العتيد، فلاديمير بوتين، حامل إرث الاتحاد السوفياتي السابق، وسليل القيصرية الروسية، الصفعة القوية التي تلقتها بلاده من أميركا ودول الغرب وحلفائهم من الدول العربية والإسلامية التي أسفرت عن خروج بلاده تجر أذيال الهزيمة من أفغانستان مع بداية التسعينات، وما تبعها من تداعيات مؤلمة آذنت بإعلان سقوط الاتحاد السوفيتي، ما غير غير مجرى التاريخ، وأنهى مرحلة من أصعب مراحل التاريخ التي عرفت باسم الحرب الباردة، التي استمرت زهاء سبع عقود من عمر البشرية.
نتج عن سقوط الاتحاد السوفيتى تراجع وانحسار كبير فى دور وريثته روسيا الاتحادية على الساحة الدولية، لفقدها مساحات شاسعة من أراضى دول الاتحاد، وهو يمثل نوعاً من الخضوع والتبعية لروسيا، ولكن ليس بقوة التبعية السابقة للإتحاد، ما أفقد روسيا كثيراً من مقومات القوة الاقتصادية والسكانية والجغرافية، وجعلت مقومات روسيا تنكمش وتنحصر إلى أضيق مما كان عليه الاتحاد السوفياتي.
التركة التي ورثتها روسيا عن الاتحاد، جعلت النظام الجديد فى روسيا يحتاج وقتاً لإعادة ترتيب البيت من الداخل، وتغيير النظم السياسية والاقتصادية بما يتماشى مع الواقع الجديد، عبر الانتقال من النظام الشيوعى الماركسي إلى نظام السوق الحر، وهذا تطلب وقتاً وجهداً كبيراً، شغل روسيا عن متابعة دورها فى السياسة الدولية، وجعلها تنكفئ على نفسها فترة.
أخيراً، بدأت روسيا تستعيد عافيتها وتعود إلى الساحة الدولية، لتعوّض مكانتها الدولية، وتستعيد دورها قوة عظمى، فكانت البداية من أوربا بتدخلها المباشر فى أوكرانيا، وضمها شبه جزيرة القرم إلى روسيا رسمياً، على الرغم من الاعتراض الدولي القوي، وهو ما اعتبر أول رد لروسيا على حلف الناتو الذي اعتبرت أنه أهانها، واعتدى على منطقة نفوذها، بتدخله فى ليبيا، والقضاء على نظام العقيد معمر القذافى، ما دفع روسيا إلى اتخاذ موقف صارم فى المسألة السورية، ما دفعها للتدخل المباشر بقواتها لحماية حليفها فى سورية حتى لا يتكرر ما حدث فى ليبيا، وتخسر روسيا حليفاً آخر، فبادرت بهجوم بري وجوي عنيف على كل أطراف المعارضة من دون استثناء.
دفع هذا الموقف الروسي الجديد بقيادات الجديدة فى المنطقة، لمحاولة التقرب إلى روسيا والتلويح للغرب بأن البديل هو روسيا، إذا لم يساعد هذه الأنظمة ويرسخ أقدامها فى الحكم، وكانت المبادرة الأولى من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسى الذي بادر إلى فتح علاقات جديدة مع روسيا وتبادل الزيارات والإعلان على التوقيع على العديد من الاتفاقيات العسكرية، وتشجيع التعاون بين البلدين، ليتبعه بعض الساسة الليبيين من خلال التلميحات باللجوء إلى روسيا، وهذا ما قام به وزير خارجية الحكومة التابعة لبرلمان طبرق، وكذلك قائد عام الجيش الليبى التابع لبرلمان طبرق، ورئيس مجلس وزراء الحكومة التابعة للمؤتمر الوطنى في طرابلس الذي زار روسيا، فى منافسة حادة للتقارب معها، وطلب الدعم منها فى مواجه الطرف الآخر، ونفس الأمر أعلنه الرئيس اليمني السابق على عبدالله صالح حين أعلن عن رغبته فى دور روسي وسيط بين الاطراف المحلية والإقليمية المتنازعة في حل المشكلة اليمنية وسيطاً أو طرفاً محايداً.
عودة روسيا إلى المنطقة برغبة فى العودة إلى المشهد الدولي قوة كبيرة ومنافسة للغرب، ولها مصالحها التي تدافع عنها، ورغبة فى تحقيق مصالح اقتصادية وسياسية مع تعزيز نفوذ قوي فى المنطقة يحقق لها توازن مع القوى الكبرى التي تتصارع على النفوذ والثروات في منطقة غنية بموقع استراتيجي كبير مع ثروات نفطية هائلة وقدرة استهلاكية كبيرة، مع افتقار إلى مشروع نهضوى قابل للتحقيق، نابع من أحلام وتطلعات شعوب المنطقة التي تتطلع إلى شيء من التقدم والنمو والازدهار .
تعمل روسيا اليوم على إعادة دورها الذي كانت تقوم به سابقاً أثناء فترة الاتحاد السوفياتي، مع شعور كبير بسيادة النزعة القيصرية التي تملكت رجل روسيا القوي، فلاديمير بوتين، الذي توفرت له الظروف التي تسهل له العودة إلى المنطقة من خلال الصراع والحروب التي عمت أرجاءها، الأمر الذي فتح الباب على مصراعيه، لتدخل القوى الأجنبيىة المتصارعة لتثبيت مصالحها السابقة، أو العمل على توسيع نطاق هذه المصالح، من خلال إنتاج أنظمة حكم جديدة، ولتعوضها بالأنظمة السابقة التي انتهى دورها وأنهيت خدماتها، والطمع فيما سوف تجنيه من أموال بدعم الحروب المشتعلة، وإطالة عمرها لتنشيط تجارة السلاح لكافة الأطراف لخلق توازن يفتح باب البيع بكميات أكبر لتحقيق أكبر كمية من دمار فى هذه المناطق، لتستفيد مرة أخرى فى مرحلة ما بعد الحرب فى عملية الإعمار وإعادة ما دمرته الحرب، والحقيقة ما دمرته أسلحتهم التي بيعت إلى الأطراف المتنازعة، وهذه العقود مضمونة مسبقاً من الطرف المنتصر أو من يأتون به بعد انتهاء الصراع المسلح، الذي سوف يكون ولاؤه لهم، وبطبيعة الحال ستكون عقوده وتعاقده مع من جاء به، وروسيا لا تريد أن تكون بعيدة عن هذه العقود، ولا بعيدة، عن صناعة هذه الأنظمة التي يتصارع الكل من أجل الانفراد أو الشراكة في صناعتها، فهي قادمة وتتمدد، ونحن نقتتل وننكمش ونتمزق.
فرج كندي
صحيفة العربي الجديد