البرغماتية السياسية في العقيدة الإيرانية

البرغماتية السياسية في العقيدة الإيرانية

اياد العناز

تتصف القيادة الإيرانية بتمسكها بثوابتها السياسية والأمنية في الحفاظ على مشروعها الإقليمي وتنفيذه عبر العديد من الوسائل والأدوات واعتماد صيغ فاعلة ومدروسة تخدم أهداف وغايات المؤسسة السياسية والدينية القائمة في طهران والتي تتلقى الدعم والتأييد من المرشد الأعلى علي خامنئي.

أهم الأولويات التي تسعى إليها إيران هي بقاء وديمومة وتأثير الجمهورية الإسلامية القائمة على أسس ومرتكزات حددها الدستور الإيراني وأهمها اتساع رقعة وانتشار المعتقدات والمفاهيم التي جاءت بها الجمهورية واعتمدها السياسيون الإيرانيون في ابجديات دستور الدولة بنشر مبادئ وأهداف الثورة وتعزيز وجودها ونفوذها في أكبر رقعة جغرافية تمدد حيث النفوذ والهيمنة الإيرانية، وهذا ما تحقق في عواصم الأقطار العربية ( العراق وسوريا واليمن ولبنان)، ثم الانطلاق نحو الهدف الثاني الذي يعتمد البراغماتية السياسية في التعامل مع المتغيرات والأحداث التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط والوطن العربي واعتماد مبادئ العمل الميداني الذي يحافظ على المصالح العليا والأهداف الاستراتيجية الإيرانية وابقاء حالة التأثير قائمة وفق المعطيات التي تشهدها الساحة السياسية وبما يعزز المكانة الدولية والإقليمية لإيران ونظامها السياسي وأهداف قياداتها العاملة في فيلق القدس والحرس الثوري.
ثم الانطلاق نحو تحديد مسارات مهمة لتعزيز الجانب الأساسي في تماسك الجبهة الداخلية الإيرانية ومعالجة جميع الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي يعاني منها المجتمع الإيراني، ولهذا فإنها تلتزم بالمعايير والأهداف التي تساعدها على إدامة الحوار والتفاوض في جميع النزاعات والخلافات التي تعصف بالمشهد السياسي والاقتصادي الإيراني، وهذا ما نراه في جولات التفاوض التي حضرتها عند الاعداد لاتفاق نووي عام 2015 مع مجموعة (5+1) والتي انتهت بالإعلان عن اتفاقية العمل الشاملة المشتركة في تموز 2015 بحضور وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف ونظرائه من دول ( أمريكا وروسيا والصين وفرنسا وألمانيا وبريطانيا) والتي اعدت اتفاقية البرنامج النووي الإيراني، وبموجبه تم رفع العقوبات الاقتصادية عن إيران وإطلاق الأموال المجمدة والسماح لها بتصدير حصتها من النفط والغاز، والذي ساعدها في اعادة التوازن السياسي لها في الإقليم ودورها الريادي في سوق الطاقة العالمية وإعادة الاعتبار لعلاقتها السياسية الدولية والإقليمية مع دول العالم.
ورغم التطورات السياسية التي اعقبت انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من الاتفاق النووي في آيار 2018، بعد اعتراض إدارة الرئيس دونالد ترمب في ولايته الأولى عن عدم التزام إيران بما اتفق عليه في تموز 2015، بزيادة نسبة تخصيب اليورانيوم والتوسع في النشاطات النووية وزيادة مخزونها من الطرود المركزية وعدم التعامل بشفافية مع الوكالة الدولية للطاقة وعدم السماح لمفتشيها بزيارة منشأت ( فوردو ونطنز وأصفهان)، فكانت نتيجة الانسحاب الأمريكي إقرار العقوبات الاقتصادية على إيران وتجميد أموالها في الخارج وإيقاف عمليات تصدير النفط وعقوبات مماثلة شملت عمليات الشحن وبناء السفن والقطاع المالي وبرامج الصواريخ الباليستية المتعلقة بأسلحة الدمار الشامل الإيرانية ومنع بيع أو نقل المعدات العسكرية من أي جهة إلى إيران أو تقديم المساعدة التقنية أو المالية ذات الصلة مع حظر جميع المعاملات النفطية مع شركات النفط الإيرانية، وحظر معاملات التأمينات بجميع أنواعها حتى تلك المتعلقة بنقل النفط، مع تشديد العقوبات المالية التي تشمل أي معاملات مع البنك المركزي الإيراني أو مع أية بنوك إيرانية أخرى، واخيرًا فرض عقوبات على الصناعات الرئيسية مثل صناعة السيارات الإيرانية وصناعة السجاد، وحتى بيع الطائرات التجارية أو قطع غيار الطائرات.
استمر مسلسل العقوبات حتى مجئ الرئيس جو بايدن لولاية جديدة وسعيه لاتفاق نووي جديد وحاولت الدول الأوربية ( ألمانيا وفرنسا وبريطانيا) إعادة واشنطن إلى اتفاقية العمل الشاملة المشتركة وعقد عدة جلسات وحوارات في العاصمة النمساوية ( فيينا) وبحضور إيراني وامريكي غير مباشر، ورغم تعدد اللقاءات والحوارات لكنها لم تصل إلى صيغ جديدة تفضي لاتفاق نووي جديد يرضى جميع الأطراف.
اتسعت حدة المواجهات الأمريكية الإيرانية والتهديدات باتساع مساحة ورقعة العقوبات الاقتصادية والتي انطلقت اثناء البرنامج الانتخابي للرئيس ترامب، وأخذت ابعادها الواسعة مع دخوله للبيت الأبيض في ولاية أخرى، فإطلق مبادرة سياسية لبدأ حوار مع إيران بخصوص برنامجها النووي، ووفق منظور إيران الاستراتيجي وعقيدتها في تحقيق حالة التوازن السياسي والحفاظ على وجودها ونظامها، وافقت على إجراء مفاوضات غير مباشرة عبر الوسيط العربي الخليجي العُماني، وفي الثاني عشر من نيسان 2025، وتم عقد أولى جولات المفاوضات في العاصمة العُمانية ( مسقط) بحضور ( ستيف ويتكوف) الممثل الرسمي للرئيس الأمريكي ووزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، وادار الحوار غير المباشر وزير الخارجية العُماني بدر البوسعيدي، وخلال خمس جولات استمرت حتى السادس من حزيران 2025، طرح فيها الامريكان شروطهم بتفكيك البرنامج النووي ومنع أي عمليات تخصيب لليورانيوم داخل إيران مع إيقاف عمليات الخزن الواسع الطرود المركزية والتعامل مع المخزون من تخصيب اليورانيوم بنسبة 60٪ والذي وصل إلى 400،11كغم عبر ارساله لدولة أخرى أو قيام الوكالة الدولية للطاقة الذرية بالتعامل معه وفق أساليب فنية وتقنية تمنع إيران من استخدامه لنشاطات نووية ذات أهداف عسكرية، ومناقشة برنامج الصواريخ البالستية والطائرات المسيرة والنفوذ والتمدد الإيراني في الشرق الأوسط والوطن العربي والدور الإقليمي السياسي والأمني للحرس الثوري وفيلق القدس الإيراني،
وهي الشروط التي تم رفض مناقشة معظمها إلا بعد التوصل لاتفاق نووي دائم، والذي طالبت فيه إيران بحقها بتخصيب اليورانيوم بنسبة 20٪ أو بنسب اقل لأغراض علمية وطبية وأن تكون عمليات التخصيب داخل الأراضي الإيرانية، ورغم جلسات الحوار الموالية إلا أن الطرفين لم يصلان إلى اتفاق مشترك، وأدت العمليات العسكرية والقصف الجوي الذي شنته إسرائيل فجر يوم الثالث عشر من حزيران 2025، إلى وقف شامل لجميع المفاوضات واتسعت حدة الخلافات بعد المشاركة الأمريكية في قصف المنشآت النووية ( نطنز وفوردو وأصفهان) بالتزامن مع المواجهة الإسرائيلية التي أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترمب إيقافها في الخامس والعشرين من حزيران 2025.
أن طبيعة الاستراتيجية الإيرانية أنها تعتمد في رسم ملامحها على ( الردع والضغط والدبلوماسية)، فالردع الإيراني يتمثل في المراحل المتقدمة التي وصلت إليها إمكانياتها في تطوير برنامجها النووي وتعزيز نشاطاتها في الوصول إلى إنتاج القنبلة النووية وبعض من الأسلحة ذات الصبغة النووية، مع وجود شركائها وأدواتها من الفصائل والمليشيات المنتشرة في بعض عواصم الدول العربية والمرتبطة بالقيادات الميدانية العسكرية للحرس الثوري وتعمل على تنفيذ أهداف المشروع السياسي الإقليمي الإيراني وقدرتها على التواجد في الممرات والمضايق وطرق الملاحة الرئيسية في خليج عدن وباب المندب والخليج العربي ومضيق هرمز،
وإما قدرتها في الضغط الميداني فإنها تستخدم أدوات الردع في أي مفاوضات تتعلق بالبرنامج النووي الإيراني أو بدورها الإقليمي في أي متغيرات سياسية قادمة مع استغلال الفرص الذهبية الناتجة من أي حالة النزاع والخلاف السياسي في المنطقة لكسب المزيد من الأهداف ومحاولة الضغط لرفع العقوبات الاقتصادية عنها وإطلاق أموالها المجمدة، وتبقى النقطة المهمة في أدوات الردع الإيراني استخدام الدبلوماسية في توطيد العلاقة مع حلفائها الرئيسين ( روسيا والصين) بما يحقق لها تواجدًا إقليميًا مهمًا ومساندة في المحافل الدولية والعمل باتجاه الانفتاح الواسع لإعادة العلاقة بأعلى مستوياتها مع دول الخليج العربي وخاصة المملكة العربية السعودية بعد الاتفاق الذي تم توقيعه بين الرياض وطهران بمشاركة صينية في آذار 2023.
وأمام هذه الملامح للاستراتيجية الإيرانية وملامح الردع الميداني، هناك الردع الأمريكي الذي يعتمد اسلوب فرض المزيد من العقوبات الاقتصادية على جميع الكيانات المرتبطة بإيران أنشطتها الاقتصادية والمالية وما يتعلق بشؤون الطاقة مع الاستمرار باعتماد سياسة الضغط القصوى في حالة سعى إيران للعودة لسياستها في التعنت وإظهار القوة وعدم الالتزام بالشروط الأمريكية وامتناعها عن التعاون مع مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية والقبول بأي مبادرات أوربية أمريكية بشأن البرنامج النووي الإيراني، وهناك المتابعة والمراقبة الإسرائيلية لكل التحركات والتوجهات الإيرانية خاصة بعد أن اجتازت طهران نسبة تخصيب اليورانيوم 60٪ وبمخزون يقدر ب (400،11) كغم مع ( 19) ألف طرد مركزي نوع ( IR1 ) والذي يفترض اعادته إلى (5060) جهاز مع ازدياد حالة النشاط النووي في منشأة فوردو، فجاء الردع الإسرائيلي في الضربات الجوية والصاروخية الأخيرة وعمليات الاغتيال المباشرةللقيادات السياسية والعسكرية العليا الإيرانية والعلماء العاملين في الحقل النووي.
ولكن هذه الاستراتيجية الإيرانية أصابها بعض الضعف بل الفوضى في أسلوب إدارتها وتسبتت بخسائر كبيرة التي طالت حزب الله اللبناني وقياداته السياسية والعسكرية وسقوط نظام الأسد في سوريا وهروب رئيسيه لروسيا ثم حالات الاستهداف الصاروخي والجوي الإسرائيلي الذي طال جماعة الحوثيين، مع ضعف قدرتها على التفاوض بشكل واسع بعد أن أفتقدت الأدوات التي تناور فيها، وأصبح هدفها الأول والأخير الحفاظ على النظام السياسي وبقاء الدولة الإيرانية، وهو ما تسعى إليه في العودة للمفاوضات مع دول الترويكا ( ألمانيا وفرنسا وبريطانيا) لمحاولة منها في عدم تجديد العقوبات الاقتصادية وفق القرار 2231 وعدم التزام إيران بما جاء من فقرات مقررات في اتفاقية العمل الشاملة المشتركة وتفعيل خاصية ( آلية الزناد).
تحاول إيران استخدام الدبلوماسية حلًا في معالجة علاقتها مع الدول الأوربية والوصول لحوار يهدف لتحديد مسارات العلاقة معها، ثم الانتقال إلى واقع افضل في العلاقة المباشرة مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية لرسم ملامح مستقبل البرنامج النووي الإيراني، والعمل باتجاه تحقيق الشفافية المطلوبة في التعامل الإيجابي مع النشاطات ذات الأبعاد النووية والدعوات التي تصدرها بعض القيادات السياسية والعسكرية الإيرانية بضرورة الانسحاب من معاهدة الانتشار النووي وتصعيد العمل باتجاه إعادة بناء المنشآت النووية التي تم استهدفها في المواجهة الأخيرة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، والسعي لاعتماد الحوار المباشر وطرح المظلومة السياسية التي يحاول النظام الإيراني تسويقها عبر شركائه ووكلائه في الإقليم ومنح مصداقية واقعية للسردية الإيرانية ومحاولة تغيير الاعتقاد الأمريكي تجاه القيادة الإيرانية وإعادة الثقة بين الدولتين وإيجاد حوافز سياسية تعيد عملية الحوار والمفاوضات المباشرة وإعطاء مساحة واسعة للمناورة السياسية التي تخدم الأهداف والغايات التي يعمل عليها القادة الايرانيون، والوصول إلى مخرج سياسي يمنع أي عملية توسع في تنفيذ آلية الزناد التي أقرها مجلس الأمن الدولي في 19 آيلول 2025، واستخدام جميع الوسائل ذات البعد البرغماتي السياسي لتخفيف العقوبات ووضع حد لفرض قيود على تطوير برنامج الصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة ومنح مفتشي الوكالة الدولية الدور الميداني للوصول دون قيد إلى المواقع والمنشآت النووية والتحقق من مدى التزام إيران بإتفاقية العمل الشاملة المشتركة التي اعتمدت أساسيًا في قرار مجلس الأمن الدولي الاخير.
وأتى الرد الإيراني في التعامل مع واقع الحال القائم في علاقة إيران مع دول ( الترويكا) عبر الاعلان الذي اوردته وكالة تسنيم التابعة للحرس الثوري ( بأن مفاوضات إيران مع دول الترويكا الأوروبية الثلاث على مستوى وزراء الخارجية وبحضور مسؤول السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي ستُعقد يوم 22 أو 23 من أيلول 2025 في مدينة نيويورك الأمريكية على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وبحضور وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، وأتى الموقف الإيراني وفق التحولات السياسية والمنعطفات الميدانية التي تراعي المصالح العليا الإيرانية تستجيب لما أعلنته مسؤولة الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي (كايا كالاس) في 20 أيلول 2025 (بأن الأسابيع المقبلة تشكل فرصة للتوصل إلى حل دبلوماسي لملف إيران النووي)، بعدما حددت دول الترويكا الأوروبية مهلة مدتها 30 يومًا قبل إعادة فرض العقوبات الدولية على طهران، وتماشيًا مع ما أفاد به (ستيفان دوجاريك) المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة (في أن الأيام الثلاثين المقبلة، هناك فرصة لتجنب مزيد من التصعيد وإيجاد طريق يخدم السلام).

وحدة الدراسات الإيرانية 

مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجة