الباحثة شذا خليل*
تشهد العلاقات الاقتصادية بين الولايات المتحدة والصين توتراً متصاعداً منذ سنوات، خاصة في مجالات التكنولوجيا والطاقة والتجارة الدولية. وفي أحدث فصول هذا الصراع، فرضت واشنطن عقوبات على محطة ريتشاو شيهوا لاستيراد النفط الخام في الصين، وهي محطة حيوية تستقبل نحو 9% من إجمالي واردات النفط الخام الصينية. هذا القرار أثار قلقاً واسعاً في الأسواق العالمية، إذ يُتوقع أن يُجبر عدداً من المصافي الصينية الكبرى، وعلى رأسها سينوبك (Sinopec)، على خفض إنتاجها اليومي بما يصل إلى 250 ألف برميل، ما يمثل ضربة كبيرة لقطاع الطاقة في ثاني أكبر اقتصاد في العالم.
أسباب العقوبات
تهدف العقوبات الأميركية بالأساس إلى تضييق الخناق على تجارة النفط بين الصين وإيران، إذ ترى واشنطن أن بكين تستفيد من شراء النفط الإيراني بأسعار منخفضة، مما يساعد طهران على الالتفاف على العقوبات الأميركية المفروضة عليها. واستهداف محطة ريتشاو لا يُعد مجرد إجراء اقتصادي بل خطوة تصعيدية سياسية، لأنها تضرب في عمق البنية التحتية للطاقة الصينية، وتتجاوز الإجراءات السابقة التي كانت تركز على مصافي مستقلة صغيرة تُعرف باسم “أباريق الشاي”.
التأثيرات الاقتصادية على الصين
1. تراجع إنتاج المصافي المحلية:
خفض إنتاج مصافي سينوبك وغيرها سيؤدي إلى تراجع مؤقت في الإمدادات المحلية من المشتقات النفطية، مثل البنزين والديزل، مما قد يرفع الأسعار داخلياً.
2. اضطرابات في سلاسل الإمداد:
العقوبات أجبرت العديد من ناقلات النفط على تغيير مسارها إلى موانئ أخرى مثل تساوفيديان في مقاطعة خبي، الأمر الذي يؤدي إلى زيادة تكاليف النقل والتخزين ويضغط على الكفاءة اللوجستية للصناعة النفطية الصينية.
3. تأثير قصير المدى على الطلب الكلي:
تشير تقديرات شركة إنرجي أسبكتس إلى أن التأثير سيكون مؤقتاً، حيث من المتوقع أن تُعيد الصين توجيه شحناتها إلى موانئ بديلة. ومع ذلك، فإن هذا التحول قد يُحدث اضطرابات آنية في السوق ويزيد من تكاليف التشغيل.
4. تأثير على الناتج المحلي الإجمالي:
انخفاض الإنتاج الصناعي المرتبط بالطاقة سيؤثر على النمو الاقتصادي في الربع الأخير من العام، خصوصاً أن قطاع التكرير يمثل عنصراً أساسياً في سلاسل القيمة الصناعية الصينية.
الانعكاسات على الاقتصاد العالمي
• أسعار النفط العالمية:
العقوبات أدت إلى زيادة حالة عدم اليقين في السوق النفطية، ما دفع الأسعار إلى الارتفاع مؤقتاً نتيجة مخاوف من تراجع الإمدادات من الصين.
• إعادة توجيه التجارة العالمية:
تحويل وجهة ناقلات النفط قد يعيد رسم خريطة طرق التجارة النفطية، خاصة بين آسيا وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط.
• تعميق الانقسام الاقتصادي العالمي:
هذه العقوبات تعزز من سياسة الانفصال الاقتصادي (Decoupling) بين بكين وواشنطن، وتدفع الصين نحو تنويع شركائها التجاريين وبناء منظومات مالية بديلة لتفادي التأثر بالعقوبات الغربية مستقبلاً.
التأثير على الاقتصاد العربي
تمتد آثار العقوبات الأميركية على الصين إلى الاقتصادات العربية المنتجة والمستوردة للنفط على حد سواء، وذلك لعدة أسباب مترابطة:
1. تقلبات أسعار النفط:
ارتفاع أسعار النفط العالمية نتيجة اضطراب الإمدادات الصينية يؤدي إلى زيادة إيرادات الدول العربية المصدرة مثل السعودية، العراق، والإمارات، لكنه في المقابل يرفع تكاليف الاستيراد والطاقة في الدول العربية غير النفطية مثل مصر والأردن والمغرب، مما يضغط على ميزانياتها.
2. تحولات في الطلب الصيني على النفط العربي:
مع تراجع قدرة الصين على استيراد النفط عبر بعض الموانئ المتأثرة بالعقوبات، قد تُعيد بكين توجيه جزء أكبر من وارداتها نحو الدول العربية، خصوصاً الخليجية، ما قد يعزز الشراكات التجارية في المدى المتوسط.
3. تأثيرات على الاستثمارات المشتركة:
التوتر في سوق الطاقة قد يدفع الصين إلى توسيع استثماراتها في قطاع النفط العربي كخطة بديلة لتأمين إمدادات مستقرة من المنطقة، وهو ما قد ينعكس إيجاباً على مشاريع الطاقة المشتركة في السعودية والإمارات والعراق.
4. انعكاسات على الاستقرار الاقتصادي الإقليمي:
أي اضطراب طويل المدى في سوق النفط العالمية ينعكس على ميزانيات الدول العربية، خاصة تلك التي تعتمد بشكل كبير على عائدات النفط لتمويل مشاريع التنمية، مما يجعل المنطقة عرضة لتقلبات اقتصادية مفاجئة.
باختصار، يمكن القول إن الاقتصاد العربي يتأثر بشكل مزدوج: إيجابياً عبر ارتفاع العائدات النفطية مؤقتاً، وسلبياً عبر تقلب الأسعار وارتفاع تكلفة الطاقة والاستيراد في الدول غير النفطية.
تحليل اقتصادي عام
من منظور الاقتصاد الكلي، فإن هذه العقوبات تمثل اختباراً لمرونة الاقتصاد الصيني. فبينما يعتمد جزء كبير من نمو الصين على الصناعات الثقيلة والطاقة الرخيصة، فإن أي اضطراب في تدفقات النفط الخام يُضعف قدرتها على الحفاظ على معدلات نمو مستقرة.
ورغم أن التأثير المتوقع قصير المدى، إلا أن النتائج بعيدة المدى قد تشمل إعادة هيكلة جزئية في قطاع الطاقة، وتوسيع الاستثمار في الطاقة البديلة وتقليل الاعتماد على الواردات النفطية من مناطق النزاع.
الخاتمة
في المحصلة، تمثل العقوبات الأميركية على محطة ريتشاو خطوة جديدة في الحرب الاقتصادية بين واشنطن وبكين، وتهدف إلى تقويض النفوذ الصيني في سوق الطاقة العالمي. وعلى الرغم من أن الصين تملك القدرة على التكيف وإعادة توجيه شحناتها، إلا أن هذه الأزمة تكشف هشاشة الاعتماد الكبير على النفط المستورد، وتُبرز الحاجة إلى سياسات طاقة أكثر استدامة وتنوعاً.
أما بالنسبة للاقتصاد العربي، فإن التأثير سيكون متبايناً بين المكاسب المؤقتة والمخاطر طويلة الأمد، ما يجعل من الضروري للدول العربية تنويع اقتصاداتها وتقوية استراتيجياتها الطاقوية لضمان الاستقرار في مواجهة تقلبات السياسة العالمية.
وحدة الدراسات الاقتصادية / مكتب شمال امريكا
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية
