إيران… الانتماء الوطني والتغيير الأيديولوجي

إيران… الانتماء الوطني والتغيير الأيديولوجي

اياد العناز

جاءت التطورات الأخيرة في المشهد السياسي الإيراني لتسلط الأضواء على طبيعة الأدوات التي بدأت تحكم السياسية الداخلية والخارجية للقيادة الإيرانية وما هي الوسائل الكفيلة بمعالجة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي يعاني منها المجتمع الإيراني واتخاذ الإجراءات اللازمة لاحتواء التطورات الميدانية والمتغيرات السياسية في الشرق الأوسط وانعكاساتها على الدور السياسي الإقليمي للمشروع الإيراني وكيفية اعداد الخطط والبرامج الأمنية والاستخبارية لمواجهة جميع هذه التحديات.
شهدت الأشهر السابقة أحداث جسام ووقائع مؤثرة جسدتها المواجهة العسكرية الإسرائيلية التي ابتدأت فجر الثالث عشر من حزيران 2025، ثم تلتها الضربات الجوية الأمريكية الإسرائيلية على المواقع والمنشآت النووية في ( نطنز وفوردو وأصفهان) وما رافقها من عمليات استهدفت حياة القيادات العسكرية والأمنية في الحرس الثوري وهيئة الأركان الإيرانية والعديد من العلماء العاملين في البرنامج النووي الإيراني وضرب الاماكن والمقرات الحكومية ومنصات إطلاق الصواريخ ومخازن الاعتدة للأسلحة والمعدات الحديثة، ثم تبعها عملية تمديد العمل بالعقوبات الدولية وادامة زخم الحصار الاقتصادي بعد الاقرار الأوربي الذي رفعته دول الترويكا ( بريطانيا وفرنسا وألمانيا) إلى مجلس الأمن الدولي، وبينت فيه أن إيران لم تلتزم بما تم اقراره من بنود ونقاط رئيسية وردت في اتفاقية العمل الشاملة المشتركة في تموز 2015 وعدم تعاطيها الإيجابي مع القرار الأممي 2231 الخاص بتنفيذ ما توصلت إليه مجموعة ( 5+1) حينها.
احدثت تبعيات إعادة فرض العقوبات جملة من الآراء والاختلافات في كيفية معالجة الأخفاقات السياسية والازمات الاقتصادية التي بدأت تشكل عبئًا كبيرًا في إدارة شؤون الدولة الإيرانية، ما بين متطلع إلى إعادة الحوار مع الولايات المتحدة الأمريكية ومنع أي عوائق تسبب في حالة من العزلة السياسية الدولية والإقليمية لإيران وزيادة الضغط الاقتصادي الذي يعمق التدهور الاجتماعي وسوء الحالة المعيشية وانعدام الخدمات الرئيسية وزيادة البطالة ونسبة التضخم، مع عدم السماح بتكرار الهجمات الصاروخية واعادة العمليات العسكرية الإسرائيلية التي تستهدف العمق الإيراني، في حين أن هناك من التيارات المتشددة من يرفض التفاوض مع الإدارة الأميركية بل يسعى للعمل على إعادة إنتاج الصواريخ البالستية وتطوير مدياتها وزيادة الفاعلية المؤثرة للطائرات المسيرة والعمل باتجاه تعزيز فاعلية البرنامج النووي الإيراني.
القيادة الإيرانية ورغم جميع التصريحات الاعلامية واللقاءات الرسمية والبيانات الحكومية التي تؤكد على استمرار إيران بنهجها وثوابتها الرئيسة التي تمثلها عقيدتها السياسة والأمنية، إلا أن القرار النهائي حول إدارة الملفات السياسية والعلاقات الدولية تبقى رهينة بما يوافق عليه ويعلنه عبر مواقف ثابتة المرشد الأعلى علي خامنئي، والذي يتأخذ من الحفاظ على النظام السياسي وبقاء الحكم الإيراني هدفًا استراتيجيًا ورؤية ميدانية دائمة، مع الأخذ بالأسباب التي يراها في اعتماد البراغماتية السياسية عند أي ظرف من الممكن أن يهدد استمرار وفعالية النظام الإيراني، ويعتمد منهجًا واقعيًا في قراءة الحقائق الميدانية والتعامل الصحيح مع المتغيرلت والأحداث المتتالية في الإقليم، والتي تفرض على القيادة الإيرانية قراءة واضحة في اتخاذ القرارات السياسية والمعالجات الواقعية وتحديد مسارات التعامل مع الداخل الإيراني واتباع الاساليب التي تجعل المسؤولين الإيرانيين أكثر قربًا للخطاب المحلي الذي يعمق الهوية الوطنية الإيرانية ويعيد العلاقة الإيجابية مابين الرئاسة الإيرانية والمواطنين.
ويمكن قراءة محتوى الخطاب الذي القاه المرشد الأعلى علي خامنئي في العشرين من تشرين الأول 2025 أمام الفائزين بالمسابقات الرياضية والعلمية الدولية، بأنه كان يخاطب المواطن الإيراني بهويته وانتمائه وليس بايديولوجيته التي اعتاد المرشد الحديث عنها في جميع المناسبات وابتعد عن المصطلحات ذات الطابع العسكري والسياسي، بل أكد أن (الشباب الإيراني حين يمتلك الهمة فهو قادر على بلوغ القمم ، وأنه كان ولا يزال في طليعة ميادين الحرب والعلم والبناء) وجاءت هذه المعاني لتعزيز الثقة بروحية الشباب الطموح لتحقيق الأهداف الوطنية لبلاده وتعزيز دورها في المحافل الدولية.
كانت من أهم ملامح الخطاب أنه أتى على مفردات مهمة أكد فيها الهوية الإيرانية ولم يستخدم مصطلح الأمة الإسلامية والشعوب المقهورة، وإنما كرر القول ( أن الشاب الإيراني قادر على بلوغ القمم متى ما تحلى بالهمة) ، مؤسسًا لقاعدة أن الثقة بالذات والاعتماد على القدرات المحلية هي مفتاح الإنجازات، وادراكًا من المرشد الأعلى حجم التحديات التي يواجهها النظام التي تستوجب شحذ الهمم وتفعيل الطاقات الشبابية لإعادة البنيان بينه وبين القاعدة الشعبية ومحاولة تقريب الهوة القائمة بينهما واعادة ترتيب المشهد الداخلي بما يعزز حالة الاستقرار المجتمعي ويمنع أي احتجاجات وتظاهرات شعبية تؤثر على شرعية النظام القائم.
ركز المرشد في خطابه أمام الشباب الرياضي الإيراني على ملامح الهوية الوطنية التي تدعو للتماسك المجتمعي وتعزيز متانة العلاقات بين جميع مكونات الشعب الإيراني ومنع أي حالة من التعارض والاختلاف في الجوانب القومية والمذهبية والإثنية وبعيدًا عن انتماءاتهم ومعتقداتهم الفكرية والسياسية، وحث الحضور على التمسك بالأمال والأهداف المستقبلية
والابتعاد عن أي حديث يؤدي للاحباط واليأس بين الإيرانيين.
وجاء الحديث داعمًا لكل توجهات الرئيس مسعود بزشكيان الداعي للخطاب الوطني الذي تمثله استراتيجية الحكومة الإيرانية، ويشكل حالة من الإدراك العميق لحجم التفاوت الذي يعيشه المواطنين بعدم التوافق والفهم المشترك للشعارات الأيديولوجية التي تنادي بها القيادة الإيرانية وما تعانيه القواعد الجماهيرية والشعبية من معاناة ومكابدات مستمرة تتعلق بحياتها ومستقبل أبنائها في ظروف اقتصادية واجتماعية قاهرة.
ابتعد المرشد الأعلى علي خامنئي في حديثه عن مفهوم العمق الاستراتيجي للسياسة الإيرانية التي كانت تعتمد تقديم الدعم المالي للجماعات والفصائل المسلحة المرتبطة بالحرس الثوري في بعده العقائدي والفكري ضمن ابجديات المشروع الإيراني السياسي الإقليمي على حساب الحاجات الضرورية والخدمات الرئيسية للشعوب الإيرانية، وفي هذا الحديث ركز المرشد علي مبادئ أولية حرص فيها على إيصال ما يريده من فهم لمرحلة جديدة تستعيد فيها القيادة الإيرانية دورها في إعادة علاقتها بالمحور الإقليمي وجعل اهتمامها نحو عمقها الداخلي بدلًا من عمقها الاستراتيجي والسعي لتعزيز انتمائها الوطني ومصالحها الذاتية، وهذه المواقف اوصلها للقاعدة الشبابية موجهًا كلامه بالقول (أن الإيرانيين قادرون على أن يكونوا في مقدمة الأمم في العلم والرياضة متى ما تسلحوا بالإيمان والعزيمة).
أن التوجه العام الذي بدأته القيادة الإيرانية وأبرز ملامحه المرشد علي خامنئي في حديثه أمام الرياضيين والشباب الإيراني، في الاعتماد على تثوير القاعدة الشعبية وإعادة لحمتها مع النظام السياسي بتصعيد وتائر الاهتمام بالهوية الوطنية ومحاولة معالجة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي استفحلت آثارها بعد تمديد العقوبات الدولية على إيران، وقراءة الأحداث الداخلية والسعي لإيجاد حلول متوازنة وجذرية لمواجهة الأضرار المحدقة بالاقتصاد الإيراني والتضخم الكبير الذي يعاني منه والركود العميق في عدم وجود مستلزمات فاعلة لتحريك عملية النمو والتنمية المجتمعية، وأن التوجه الذي تتبعه إيران في احتواء المواطنين وإثارة انتمائهم الوطني وتعزيز هويتهم القومية إنما يعود لاعتقاد القيادة الإيرانية بأن الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوربية تعمل على تشديد العقوبات الاقتصادية في محاولة منها لتأجيج الداخل الإيراني عبر التظاهرات المستمرة وأحداث حالة من الخلل في البنية الاجتماعية وخلق أدوات لرفص شرعية وبقاء النظام السياسي، وما ينظر إليه المواطن الإيراني من اتساع الفجوة بينه وبين الطبقة الحاكمة والنخبة السياسية والعسكرية والدينية في الجوانب الحياتية والاقتصادية وسوء الإدارة وانعدام الخدمات الرئيسية واتساع مساحات الفساد السياسي والاقتصادي، إضافة إلى ماتحتويه العقوبات من تعطل للشبكات المصرفية وتقييد التجارة وتحييد صادرات الطاقة من النفط والغاز، وانكماش الواردات المالية والتي تؤدي جميعها إلى تصاعد الاحتجاجات والضغوط الاجتماعية والاقتصادية، والتي جاءت نتائجها متوافقة مع اعلان البنك الدولي عن انكماش الاقتصاد الإيراني بنسبة 1.7٪ في عام 2025 و2.8٪ عام 2026، بانخفاض حاد عن توقعات للبنك في نيسان 2025 بنمو الاقتصاد الإيراني 0.7 ٪ العام القادم.
أن الخطاب الشعبي الذي تحدث به المرشد الأعلى علي خامنئي له مضامين عديدة، منها ما اتفقت عليه القيادة الإيرانية في التوجه المحلي نحو الاهتمام بالهوية الوطنية الإيرانية اعتبارها ركيزة رئيسية وأولوية جادة في العقيدة السياسية الإيرانية، والتركيز نحو بناء الداخل وتعزيز العلاقة بين القيادة والمواطنين، وتوجيه الدعم الاقتصادي نحو تفعيل التنمية المجتمعية، ومحاولة أبعاد أي فعاليات شعبية لزيادة زخم الاحتجاجات والانطلاق نحو تظاهرات جماهيرية تندد بالنظام وتضعف من شرعيته السياسية، وقد تكون رسالة لأطراف دولية واقليمية بتغيير أوجه العقيدة السياسية والأمنية الإيرانية، أم هي جزء من المناورة السياسية والتكتيك المرحلي في مواجهة المتغيرات الدولية ومحاولة إعادة النظر بالعقوبات الدولية وفتح للحوار السياسي والطريق الدبلوماسي في علاقة إيران مع دول العالم.

وحدة الدراسات الايرانية

مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتجية