الباحثة شذا خليل*
تشهد العلاقات التجارية بين كندا والصين تحوّلاً استراتيجياً يعكس تغيراً في موازين القوى الاقتصادية العالمية، وازدياد الاعتماد على أمن سلاسل الإمداد، وتنامي التوترات الجيوسياسية. فبعد سنوات من الاعتماد المتبادل والتوسع التجاري، بدأت كندا تعيد تقييم علاقتها الاقتصادية مع الصين، خصوصاً في ظل الضغوط السياسية والتنافس التكنولوجي العالمي والتغيرات الاقتصادية الداخلية. هذا المقال يقدم قراءة محكمة للتغيرات الجارية، آثارها على الاقتصاد الكندي، والاتجاهات المتوقعة في المستقبل القريب والمتوسط.
أولاً: أهمية الصين في البنية التجارية الكندية
كانت الصين لسنوات عديدة ثاني أكبر شريك تجاري لكندا بعد الولايات المتحدة. واستفادت كندا من السوق الصينية الضخمة لتصدير الموارد الطبيعية مثل الأخشاب، والمعادن، والبذور الزيتية، إضافة إلى اللحوم والأسماك. وفي المقابل، اعتمد المستهلك الكندي بشكل كبير على المنتجات الصينية منخفضة التكلفة، مما ساهم في استقرار الأسعار وخفض تكاليف المعيشة.
غير أن هذا الترابط الاقتصادي خلق درجة من الاعتماد العميق، خصوصاً في السلع الكمالية والإلكترونية والمعدات الصناعية، وهو ما بدأ يُنظر إليه بوصفه مصدر هشاشة بعد جائحة كوفيد-19.
ثانياً: التوترات السياسية وإعادة تشكيل العلاقات الاقتصادية
تأثرت العلاقات التجارية بشكل ملحوظ بعد أزمة شركة هواوي واعتقال مسؤولتها في فانكوفر عام 2018، تلاها احتجاز مواطنين كنديين في الصين. منذ ذلك الوقت، أصبح التعامل الاقتصادي بين البلدين مقيداً بالحذر السياسي، وظهر توجه حكومي كندي لتقليل اعتماد البلاد على الصين في القطاعات الحساسة.
كما أعادت الجائحة تشكيل فهم الدول لمفهوم “الأمن الاقتصادي”، ودعت كندا إلى تنويع مصادر وارداتها وتخفيف اعتمادها على سوق واحد للمواد الحيوية مثل الأدوية والمعدات الطبية.
ثالثاً: التغيرات الفعلية في التجارة
1. انخفاض بعض الصادرات التقليدية
تراجعت صادرات الكانولا الكندية إلى الصين بسبب قيود صينية مرتبطة بالجودة والحساسية السياسية. كما تضررت صادرات اللحوم والأسماك من إجراءات تفتيش إضافية وتباطؤ في التصاريح الجمركية.
2. استمرار الاستيراد ولكن مع تنويع تدريجي
لم تستطع كندا حتى الآن تعويض المنتجات الصينية الرخيصة، ما يعني أن الاستيراد مستمر، ولكن هناك تحركات جادة نحو مصادر بديلة مثل فيتنام، الهند، كوريا الجنوبية، والمكسيك.
3. تشديد الرقابة على الاستثمارات الصينية
فرضت كندا قوانين أكثر صرامة على الاستثمار الأجنبي في المعادن النادرة والتقنيات الاستراتيجية، وهو ما يعكس رغبتها في حماية صناعات مستقبلية مثل البطاريات، الذكاء الاصطناعي، والسيارات الكهربائية.
رابعاً: الآثار الاقتصادية على كندا
1. ارتفاع تكاليف الإنتاج والاستهلاك
تحويل سلاسل الإمداد إلى دول أخرى تزيد تكلفة الإنتاج. كما ترتفع أسعار بعض السلع المستوردة، مما يساهم في زيادة أعباء المعيشة على الأسر الكندية.
2. مخاطر على الشركات الصغيرة والمتوسطة
الكثير من الشركات تعتمد على مكونات صينية في التصنيع. أي تغيير مفاجئ في العلاقة التجارية يرفع تكاليفها، ويهدد قدرتها على المنافسة.
3. فرص اقتصادية جديدة
في المقابل، يظهر مجال واسع أمام كندا لتطوير صناعات إستراتيجية محلية، وتعميق الشراكات التجارية مع دول ذات تكاليف إنتاج منخفضة، وتحسين سلاسل إمداد أكثر استقراراً.
خامساً: المستقبل التجاري بين كندا والصين
1. اتجاه نحو “التوازن الاستراتيجي”
من غير المتوقع أن تتخلى كندا تماماً عن التجارة مع الصين، إذ لا يمكن استبدال الحجم الإنتاجي الصيني بسهولة. لكنها ستسعى إلى علاقة أقل اعتماداً، وأكثر تنوعاً، وبدرجة أعلى من الرقابة.
2. تعاون اقتصادي في القطاعات غير الحساسة
ستستمر العلاقات التجارية في مجالات الزراعة، والموارد الطبيعية، والاستهلاك اليومي، حيث لا تشكل تلك القطاعات خطراً على الأمن الاقتصادي الكندي.
3. منافسة قوية في التكنولوجيا والطاقة
الصراع الحقيقي بين البلدين سيظهر في التقنيات المتقدمة والمعادن النادرة. كندا تمتلك احتياطات كبيرة من الليثيوم والنيكل والكوبالت، ما يمنحها ميزة تنافسية في السوق العالمية للبطاريات والسيارات الكهربائية.
4. تأثير الموقف الأمريكي
سيبقى الموقف الكندي مرتبطاً إلى حد كبير بالاستراتيجية الأمريكية تجاه الصين، خاصة في مجالات التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والدفاع.
ختاما
إن التحولات في التجارة بين كندا والصين ليست حدثاً عابراً، بل هي جزء من إعادة تشكيل النظام التجاري العالمي. ورغم المخاطر المرتبطة بفك الارتباط التدريجي، فإن كندا تمتلك فرصاً مهمة لبناء اقتصاد أكثر استقلالاً، وأشد قدرة على الصمود، وأكثر انسجاماً مع مصالحها الاستراتيجية.
الوحدة الاقتصادية / مكتب شمال امريكا
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية
