أكاد أجزم أن الغضب المفتعل الذي أبدته روسيا بعد حادث إسقاط الطائرة الروسية التي اخترقت الأجواء التركية لم يكن حقيقيا إلا في شأن مقتل الطيار الروسي، وما عدا ذلك فقد كان مفتعلا وله أسبابه ومقوماته.
أقول ذلك لأنني أعتقد جازما أن روسيا كانت تعلم أن الطائرة سيتم إسقاطها بل عملت كل ما بوسعها لكي يفقد الأتراك أعصابهم ويقوموا بتلك الفعلة التي خلقت مبررا لهم لتنفيذ أجندة معينة كان يجري الإعداد لها منذ زمن. فقد سبقت هذه الحادثة عمليات اختراق جوي متعددة للأجواء التركية من اليوم الأول لإقحام روسيا نفسها في الشأن السوري بوساطة الطيران الحربي، وجرى تحذير السلطات الروسية واستدعاء ممثلي السفارة الروسية في أنقرة للاحتجاج على ما يجري.
أرى أن الخطة المبيتة قد رسمت يوم التقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالرئيس التركي اردوغان في قمة مجموعة العشرين في مدينة انطاليا التركية، فقد قال الرئيس اردوغان بصريح العبارة أن القوات التركية ستقوم بالتصدي لأية طائرة تخل بالأمن القومي التركي وتخترق مجالها الجوي، بل أعلن ذلك لوسائل الإعلام المحلية والعالمية أيضا.
إذن ما الذي حدث؟ ما حدث كان أمرا مدبرا لاستدراج تركيا لهذه العملية التي كان الروس يعلمون علم اليقين أن المجتمع الدولي ودول حلف شمالي الأطلسي (ناتو) ستقف إلى جانب تركيا بشأنها ما دام الأمر واضحا ومعتمدا بالتسجيلات الصوتية والإحداثيات المرسومة. تم التعامل مع الطائرة في الأجواء التركية، أما موضوع التضرر الكامل لمحتويات الصندوق الأسود للطائرة الذي تم الاعلان عنه وهو أمر لا يحدث إلا مرة في المليون، فما هو إلا تبرير وهروب من الواقع المسجل لأن الأمر كان مدبرا ومدروسا بعناية.
من هذا المنطلق نرى ما أنتجه هذا الحادث من وقائع ومبررات تجيز وتخدم التدخل الروسي. فقد أقفلت الأجواء السورية مثلا لأي تدخل تركي لفرض منطقة آمنة في الشمال السوري، وتمت تغطية الأجواء السورية وخاصة المتاخمة للحدود التركية بمظلة روسية بدعوى الاشتراك في العمليات الحربية ضد تنظيم «داعش»، بينما واقع الحال يظهر أن هذه العمليات لا تتم إلا تجاه المدنيين وأولئك الذين يحاربون النظام السوري.
أمر آخر خطط له الروس وهو منع القوات التركية من التدخل إذا عبرت القوات الموالية لـ «حزب العمال الكردستاني» المصنفة دوليا كمنظمة إرهابية إلى مناطق غرب الفرات مما كان سيمنع تحقيق الحلم المراد تنفيذه بإخلاء المناطق المتاخمة للحدود من التركمان والعرب السوريين بالقوة.
إذا قرأنا كل هذه الوقائع بإمعان نستطيع أن نستشف المخطط الأكبر الذي يريد الروس تنفيذه بعد أن رأوا التخاذل الأميركي وقرروا الاستفادة من ذلك لفرض أمر واقع جديد. ففي العراق عندما سقطت سنجار بأيدي مقاتلي «داعش» بدأت الحركات العسكرية برية وجوية لاستعادتها وعندما تم تحريرها لم يرجع أغلب سكانها إليها لأنها استبيحت وتم إشغالها من قبل قوات البيشمركة الكردية، ولا يجهل أحد أن سيطرة قوات «داعش» على قضاء تلعفر وهو أكبر قضاء إداري في العراق أدت إلى نزوح كامل سكانها من تركمان العراق إلى مناطق أخرى، ويظهر أن الطلعات الحربية وهجمات البيشمركة سيخطط لها بعد تحرير الرمادي لكي يدخل إليها عناصر البيشمركة ويحولوا دون رجوع أهلها الأصليين إلا إذا حزمت سلطات الحكومة العراقية المركزية أمرها ومنعت ذلك، حيث أن هذه المناطق ليست أصلا ضمن المناطق التي سميت زورا بالمناطق المتنازع عليها خاصة بعد الاستيلاء سابقا على دهوك وإفراغها تقريبا من أهلها الأصليين المسيحيين، وبذلك تكون المناطق المتاخمة للأراضي التركية خالصة للأكراد.
الموضوع نفسه يجري التخطيط له في سورية، وما الأزمة الأخيرة المفتعلة بسبب الطائرة إلا عنوان جديد لتوحيد الكانتونات الكردية في الشمال السوري وتصفية أهل تلك المناطق الأصليين من تركمان وعرب لكي يكون هناك شريط متواصل قد يصل يوما إلى تخوم البحر الأبيض المتوسط.
وقد يتساءل البعض، لماذا تريد روسيا ذلك. والجواب واضح وهو أن روسيا أدركت ضعف موقعها في منطقة الشرق الأوسط برمته وأدركت أن مخطط الدولة الكردية الكبرى لا ينال الرضى التام من قبل الأميركيين فقدمت نفسها كبديل مقبول مما يتيح لها أن تحصل على ضمانات إضافية وقواعد أخرى باعتبار أن انهيار النظام السوري الحالي قد يحرمها من هذه الامتيازات مستقبلا، علاوة على إضعاف وحدة التراب العراقي والسوري وخلق فجوة كبرى في هذا المجال لتنفيذ أجنداتها المستقبلية.
ألا يظهر التردد الإيراني الأخير وما قيل عن سحب بعض القوات الإيرانية من الأراضي السورية أن الإيرانيين أيضا استشعروا الخطر القادم عليهم بسبب هذه الجهود الروسية فأرادوا أن يستبقوا الموضوع. ولن أستغرب إذا رأيت الإيرانيين يتجهون إلى الإسهام في حل المعضلة السورية بدل تأجيج أوارها في المستقبل القريب بسبب هذا الخطر المحدق.
لقد أدركت روسيا أن زمن الشعارات الاشتراكية قد ولى وأن لا موطيء قدم لها في المنطقة العربية إلا إذا ابتزت كيانات مصطنعة جديدة، ولكنها تدرك أيضا ولو على استحياء أنها بذلك تقوي شوكة منظمات إرهابية طالما تشدقت أنها ستحاربها بكل ضراوة.
ما تنساه روسيا أنك إذا خلقت وحشا فسيرجع هذا الوحش ويلتهمك في النهاية، وهذا ما ستراه روسيا يوما عندما تدرك أنها خسرت الكل بعد أن قامرت على القليل. ترقبوا معي، فستندم روسيا يوما ما.
ارشد هورموزلو
صحيفة الحياة اللندنية