تُعرَّف الإرادة بأنها العزيمة المقترنة بالوعي والمستندة إلى المعرفة والمؤطرة بالخبرة والتجربة. وهي للدول كما للأفراد ضرورة لتغيير الواقع وبناء المستقبل. وفي الممارسة الحكومية ورسم استراتيجيات السيادة والأمن والتنمية، فإن الإرادة السياسية يفترض أن تكون نتاجا لتكامل الجهود المؤسسية للدولة وفق رؤية معمّقة يتبناها صانع القرار، بما يعبِّر بشمول وصدق عن إرادة المجتمع ومصالحه، ويعكس حالة التضامن الوطني والتوافق الشعبي على أساس الأهداف المشتركة بين المواطنين.
ويؤكد أكاديمي عراقي على أهمية تخليق وتعزيز الإرادة السياسية للدولة أولا، ومن ثمة تهيئة مستلزمات تحويلها إلى قدرة سياسية واقتصادية تدعم مكانة واستقرار هذه الدولة ورفاهها الاجتماعي.
ففي بحثه الموسوم “أثر الإرادة السیاسیة في بناء القدرة الاقتصادیة للدولة”، يتحدث فايق حسن الشجيري، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، عن أهمية الإرادة السياسية في عملية التنمية انطلاقا من فرضیة أن امتلاك النظام السیاسي لإرادة سیاسیة واضحة المعالم، من حیث الثوابت والمتغیرات، یساعد في بناء قدرة اقتصادیة تنقل البلد من حالة متخلفة إلى حالة أكثر تقدما. ويضيف الشجيري، “نظرا للتطورات التي شهدها العالم أصبحت البلدان التي تمتلك إرادة سیاسیة قویة تحتل مركز الصدارة في هرم القوة العالمي”.
ويُعرِّف البحث الإرادة السياسية بأنها مشیئة الأمة الساعیة للارتقاء بقدرة الدولة عبر استثمار عناصر القوة المادیة بشكل سلیم یخدم الأهداف الاستراتیجیة للدولة، فالإرادة تولد الرغبة في العقل، وتعبر عن المصالح الوطنیة، وتسبق القدرة التي تمثل العمل، وتعكس الاستراتیجیة التي تتضمن الأهداف العلیا للدولة. بذلك تكون الإرادة جوهر الفعل الحقیقي، فهي مكمن القدرة وتأثیرها، ذلك أن الإمكانات والموارد المتاحة للدولة لا تتأكد قدرتها إلا في ظل إرادة واعیة محرِّكة لها.
التحديث مهمة لا یمكن تحقیقها في بلد متخلف عن طریق إیجاد آلیات دستوریة، بل تستدعي وجود نخبة تسهم في تنظيم الإرادة
والإرادة تمثل روح الأمة ورغبتها في رفع قدرتها على التنافس والاحتفاظ بمركز متقدم في هرم القوة، الأمر الذي سیعمِّق المشاعر القومیة لدى القوى الكبرى بكل ما یتضمنه ذلك من مخاطر على استقرار العلاقات الدولیة، ولعل حالة الذعر من الیابان التي بدأت في الولایات المتحدة الأميركیة ثم انتقلت إلى أوروبا، هي خیر دلیل على ذلك نظرا لمميزات السياسة اليابانية مقارنة بغيرها من القوى الاخرى.
جدلية العلاقة بين الإرادة والقدرة
يرى الباحث أن تمتع الیابان بقدرة اقتصادیة عالیة يجعلها تحتل مركزا متقدما في هرم القوة العالمي، ما یعكس بوضوح أثر الإرادة النابعة من روح الأمة اليابانية للارتقاء بنموذجها، ویعود ذلك للإرث التاريخي الممتد للنظام القِیَمي والأخلاقي والتربوي الياباني، والقائم على الطاعة والتمسك بالتقالید الموروثة، والسیطرة على الذات ونبذ الفردیة والانغماس في العمل.
وهذه الخصائص جعلت الیابان تتمتع بتراكم معرفي ومالي عالٍ نسبیا انعكس على أدائها الخارجي بشكل أفضل من محاولات توسعها الإقلیمي في ثلاثینات القرن العشرین. فالإرادة تمثل مكونا حضاریا یمكن استثماره لیتحول إلى إنجاز على أرض الواقع عبر تفعیل عناصر القوة ونقلها إلى حالتها الحركیة. ویظهر هذا بوضوح أكثر في مجال النفوذ الثقافي لفرنسا الذي یتجاوز قوتها المادیة بدرجة كبیرة، والأمر نفسه ینسحب على بریطانیا إذ تتفوق درایتها التقنیة في مجال الهندسة المالیة على قوتها المادیة.
وبحسب الباحث، فقد ظهر مفهوم بناء القدرة مع إعادة تشكیل الكیانات السیاسیة وظهـور فكر وسیاسات التنمیة بعد استقلال البلدان النامیة، إذ اتخذت الدول الوطنیة مفهوما وطنیا محددا للإرادة السياسية لدفع البلد باتجاه بناء قدراته الذاتیة ومن ضمنها القدرة الاقتصادیة.
الإرادة تمثل روح الأمة ورغبتها في رفع قدرتها على التنافس والاحتفاظ بمركز متقدم في هرم القوة
العقيدة السياسية
یؤكد البحث على ضرورة توافر مقومات أساسیة لبناء الإرادة، ثم توظيفها في بناء القدرة، منها وجود “نخبة حاكمة” تحرِّك وتوجِّه عملیات التحدیث، حيث ینطلق العدید من خبراء السیاسة من فرضیة العلاقة بین النخبة الحاكمة، بغض النظر عن أيديولوجيتها، والتحدیث.
والتحديث مهمة لا یمكن تحقیقها في بلد متخلف عن طریق إیجاد آلیات دستوریة لتداول السلطة فحسب، إذ لا یمكن للدولة أن تكتفي بإقامة الشروط الأولیة للحكم وتترك الأمر بعد ذلك للمبادرة الفردیة، بل تستدعي الضرورة الواقعية وجودَ نخبة تسهم في عملیة تنظيم الإرادة وبنائها، ذلك أن المشكلات التي یتوجب على قادة الدول النامیة حلها لیست مشكلات اجتماعیة فقط، بل سیاسیة وحضاریة ترتبط بالموروث الثقافي والاجتماعي، فالمطلوب من النخبة الحاكمة دمج جهـود وحاجات لا تنتمي إلى عصر واحد لصنع إرادة سیاسیة، ترتبط بخصوصیة الدولة وبنائها الاجتماعي، وصولا إلى بناء قدرتها الاقتصادية.
ويشير الباحث إلى حاجة النخب السياسية المسؤولة عن التحديث إلى عنصر آخر هو “العقیدة السیاسیة”، التي تضفي على السلطة وبرامجها صفة المشروعیة. فلما كان للدولة علاقات اجتماعیة جاءت تعبیرا عن التوزیع الفعلي للقوى السیاسیة، فإنها في المجتمعات المتقدمة تجسید لوحدة التكوین الاجتماعي. ويتطلب بناء الإرادة درجة مرتفعة من الوعي السیاسي، وهكذا ارتبطت مشروعیة العقیدة السیاسیة بتدخلها في توحید الإرادة، من أجل بناء القدرة عبر سلسلة من الأدوات التي تمكِّن الدولة من تنفيذ برامجها.
ویمكن التمیيز بین ثلاثة نماذج محددة للعقيدة السياسية یمكن أن تعتمدها الدولة في بناء قدرتها الاقتصادیة، وهي: النموذج “الاشتراكي” عبر سیطرة الدولة على وسائل الإنتاج في سبیل صیاغة توجه عام یدعو إلى بناء الإرادة الوطنیة. والنموذج الثاني اضطلاع الدولة بتغذیة الطبقات “الرأسمالیة” لتقود المجتمع عبر التوظیف لبناء إرادة وطنیة. والنموذج الثالث هو دعم الدولة للقطاع الخاص لإیجاد “تكامل اقتصادي” یعزز التكامل السیاسي المسؤول عن صیاغة الإرادة الوطنیة.
ويعتمد تبني الدولة لنموذج أو آخر من هذه النماذج في صیاغة الإرادة الوطنیة على نوعیة النخبة الحاكمة وطبیعة التشكیلة الاجتماعیة – الاقتصادیة القائمة داخل الدولة، ومدى تجانس القوى الاجتماعیة الفاعلة ودرجة سیطرتها على أجهزة الدولة والقیم الاجتماعیة السائدة والمتغیرات الإقلیمیة والدولیة.
أما الاستراتیجیات والسیاسات التي طرحها الفكر السیاسي لبناء الإرادة والقدرة، فهي: ريادة الدولة للتحديث، وتعظیم المشاركة الشعبیة، والإيمان بفاعليتها، وتوسیع الاتصال الجماهیري، والتوسع في تشكیل أنظمة التحضر، وتعظیم دالة الرفاه الاجتماعي.
يبحث الكاتب في القدرة الاقتصادية، ويعرِّفها بأنها معنى ذو إطار شمولي ينطوي على أبعاد اقتصادية واجتماعية، معنوية ومادية، ويمثل المحصّلة النهائیة لتفاعل الموارد المادیة والفكریة لرفع الكفاءة وتحفیز الاستثمارات الخارجیة، وإیجاد فرص للوصول إلى الأسواق الدولیة. ويعتبرها حاجة ملحة للدول إلى التنمیة المستدامة ورفع مستویات أدائها الاقتصادي، وتنافسيتها الدولية انطلاقا من إرادة الأنظمة السیاسیة للسیطرة على الأسواق عبر مشروعاتها القومیة.
وبذلك یمكن تعریف القدرة بأنها محصلة حالة التأثیر الاقتصادي النابعة من تفاعل عناصر القوة الاقتصادیة للدولة في ظروف معینة، ولتحقیق أهداف محددة تعتمد على جانبین هما: “عقلانیة” الإدارة السیاسیة ورشدها وإدراكها الصحیح لمستوى القدرة التي تمتلكها. والتمتع بـ”الكفاءة” للإنجاز والمنافسة في هرم القوة الدولي وفرض إرادتها بشكل یتناسب مع المصلحة الاقتصادیة للبلد في فترة زمنیة معینة، والتأثير في الأطراف الأخرى بدرجة أعلى نسبیا من تلك الأطراف. ويتم ذلك من خلال التأثير في سلوك الآخرين وقراراتهم وصياغة العلاقات معهم في شكل معین یخدم مصلحة الاقتصاد الوطني.
القدرة الاقتصادیة
تتمثل العلاقة بین القوة والقدرة الاقتصادیة في اعتبار القوة إحدى أدوات التأثیر والثروات المادية والبشرية، فيما القدرة تعبِّر عن توظیف هذه الأدوات وتجميعها بشكل إيجابي، مطروح منه السلبيات والأزمات، ووضعها موضع الفعل لتوليد التأثیر اللازم. إذ تقاس قوة الدولة بقدرتها على تعبئة الموارد المادیة والبشریة وما تتمتع به من ثقل سیاسي في علاقاتها بالدول الأخرى. وتظل القوة خاضعة للقیاس التجریبي أما القدرة فخاضعة للتقدیر النظري كونها تنطوي على عناصر غیر مادیة مثل العقلانیة والإرادة والإدراك.
وتذهب الدراسة إلى أن فرض الإرادة على الأطراف الدولیة الأخرى یتطلب مقومات هي بمثابة ركائز القدرة.
القوة إحدى أدوات التأثیر والثروات المادية والبشرية، فيما تعبر القدرة عن توظیف هذه الأدوات وتجميعها بشكل إيجابي
وثانيا التحدیث بمعنى التكیُّف الإیجابي استجابةً لمصلحة الدولة الاقتصادیة في إطار اقتصاد عالمي أضحى لرأس المال الفكري فیه أثرا متزایدا في النمو الاقتصادي والاجتماعي، فالقدرة مرتبطة عملیا باقتصاد المعرفة.
وثالثا المعرفة وهي الركن الأساس للتحدیث وتتیح حفظا هائلا للموارد وتعزز الاستخدام الأمثل لها.
ورابعا العمالة الماهرة وتعد مقوما للقدرة الاقتصادیة، كون قدرة الدولة العاملة تقاس تبعا لنسبة العمالة الماهرة إلى إجمالي قوة العمل.
وخامسا قطاع الأعمال الذي يعزز القدرة الاقتصادیة ارتكازا على تحسین الكفاءة الإنتاجیة عبر الانفتاح على المنافسة المحلية والدولیة.
وسادسا استثمار الموارد الطبیعیة وفيها تتفاوت قدرات الدول تبعا لدرجة استغلالها لمواردها الطبیعیة، وتشمل مصادر الطاقة والمعادن الخام والمواد الغذائیة والزراعیة، وتحویلها إلى موارد اقتصادیة، تجاریة أو صناعیة.
وسابعا الناتج المحلي الإجمالي ویرتكز نمو الناتج المحلي على البحث والتطویر، فالاستثمار في هذا القطاع یرفع معدل الناتج المحلي فیكون المقوِّم الأفضل للقدرة الاقتصادیة عبر تحقیق معدلات نمو مرتفعة ومستدیمة في دخل الفرد الحقیقي من خلال متابعة مؤشر حصة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي.
القدرة بأنها محصلة حالة التأثیر الاقتصادي النابعة من تفاعل عناصر القوة الاقتصادیة للدولة في ظروف معینة، ولتحقیق أهداف محددة
المطلبية السياسية
يوضح فايق الشجيري، أن الإرادة تمثل الركن المعنوي للقدرة الاقتصادیة، وأن العالم ستحكمه على الأرجح قطبیة من نوع مختلف تنخفض فیها أهمیة القوة العسكریة لصالح القدرة الاقتصادیة التي تتیح للدولة ممارسة القوة بواسطة السیاسة بهدف تحقیق مصالحها. ولكن هناك عملیة وسیطة بين الإرادة والقدرة، وهي “المطلبية السیاسية”، أما الجهة التي تسهم في التفاعل معها فهي “النخب السیاسیة”. فمن خلال السیاسات الاقتصادیة والاستقرار والمشاركة السیاسیة والحریة يتم تجمیع المصالح داخل المجتمع، فتتجمع حاجات المواطنین ومطالبهم فـي بوتقة الإرادة السیاسیة المعبِّرة عنها. أي أن الإرادة السیاسیة هي نتاج عدة احتمالات سیاسیة یعبِّر عنها عدد قلیل نسبیا من الأفراد الذین یقررون السیاسات وهؤلاء هم “النخب السیاسیة”.
ویمكن التمییز بین فئتین منهم: الأولى هي “النخبة الوطنية”، إذ سادت خلال خمسینات القرن العـشرین في الدول النامیة رؤى تشجع التركیز على التصنیع وبناء القدرات الذاتیة، واعتماد سیاسات توحید البناء المجتمعي من أجل إیجاد إرادة موحدة لبناء القدرة الاقتصادیة. والثانية هي “النخبة المتعولمة”، وأغلبهم من التكنوقراط الذین اعتمدوا سیاسة تشجیع الصناعات الموجهة للتصدیر والانفتاح على الاستثمارات الأجنبیة، لذلك نجد أن البدائل السیاسیة في بلدان هذه النخب اتجهت بشكل مباشر إلى الاعتماد على التمویل الدولي لبناء القدرة الاقتصادیة، وسعت هذه النخب إلى إیجاد بیئة موحدة تتقبل هذه السیاسات الاقتصادیة.
وتختلف النظم السیاسیة باختلاف النخب المسیطرة علیهـا وسیاسات تجمیع المصالح المُفضیة إلى بناء القدرة، ويمكن التمييز بين نوعين:
الأول: الأنظمة السیاسیة التسلطیة، والتي تفرض وحدانیة السلطة فيها وحدانیة اقتصادیة بنیت على أساس القطاع العام والانغلاق على الاستثمارات الأجنبیة، حیث عملت النخب السیاسیة على تكییف مؤسسات النظام وتحديد آلیات عملها بالطریقة التي تخدم هیمنتها واستمراریتها في السلطة.
ولمدة طویلة ساد افتراض بأن بناء الإرادة السیاسیة یمكن أن یتحقق بصورة أفضل عن طریق نظام سیاسي سلطوي، ویكمن وراء هذا الاعتقاد إدراك بأن نمط السیاسات الاقتصادیة المعتمَد یُولِّد رابحین وخاسرین، وأن الخاسرین من المتوقع أن یقاوموا التغيير، ومن ثمة فإن بناء الإرادة یتطلب إكراها سلطويا. لذلك نجد أن الأنظمة التسلّطية القوية تمتلك قدرة أكبر على تنفیذ السیاسات لبناء القدرة الاقتصادیة.
الثاني: الأنظمة السیاسیة الدیمقراطیة، والتي تختلف في موقفها من اعتماد سیاسات اقتصادیة أكثر انفتاحا تبعا لعراقة تلك الأنظمة، ففي الأنظمة الدیمقراطیة الحدیثة التشكُّل یواجه القادة الدیمقراطیون الجدد بمطالب مكبوتة وتوقعات اقتصادیة واجتماعیة مرتفعة وضغوط قویة لمكافأة المؤیدین والجماعات الجدیدة عبر اتباع برامج توسعیة أكثر انفتاحا على الخارج في محاولة لمواجهة التوقعات وتقلیص الصراع الاجتماعي من خلال احتوائه بانفتاح اقتصادي یوظف الموارد الوطنیة، ویستثمر الفرص الدولیة لبناء القدرة الاقتصادیة عبر خلق حالة من الاستقرار السیاسي، واحتواء التناقضات في إطار إرادة سیاسیة واضحة أكثر اتزانا.
أما بالنسبة إلى الدیمقراطیات الراسخة، حیث أن الأفق الزمني سیكون أطول بسبب رسوخ البناء المؤسساتي والثبات الدستوري، فإن القادة السیاسیین یمكنهم استثمار مدد ولایتهم لاتخاذ مبادرات إصلاحیة ذات تكلفة قصیرة المدى، مع ثبات الاتجاه العام للسیاسات الاقتصادیة القائمة على الليبرالیة المتناسقة مع الليبرالیة السیاسیة، حیث من المتوقع أن تحقق هذه المبادرات الإصلاحیة المكاسب على المدى الطویل لتسهم بشكل فاعل في رفع معدلات القدرة الاقتصادیة للبلد.
همام طه
صحيفة العرب اللندنية