لم يأتِ الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية نبيل العربي بجديد عندما أعلن في خطابه الأخير أن «غياب الإرادة السياسية هو المعوّق الأساسي أمام الجامعة لتقوم بدورها». بل نستطيع القول إن أكثر اللقاءات التي عقدت خلال القرن الحالي لبحث أوضاع النظام الإقليمي العربي توصلت إلى الاستنتاجات ذاتها. لذلك كان من الأفضل ألا يكتفي العربي بالربط بين غياب الإرادة السياسية وبين شلل الجامعة بل أن يذهب إلى أبعد من ذلك فيلقي المزيد من الأضواء على هذه العقبة الكبرى التي تواجه مشاريع إحياء الجامعة وإصلاحها ويقدم بعض الإجابات عن السؤالين التاليين:
1- أية إرادة سياسية يقصد الأمين العام السابق؟ إن الإرادة السياسية لا تسبح في الفراغ فهي ترمي إلى تحقيق هدف معين. والهدف الذي يقصده العربي هو تعزيز دور الجامعة كأداة للتنسيق بين الدول العربية. ولكن هل هناك اتفاق بين الجميع على هذا الهدف؟ هناك ولا شك من يؤيده ويعمل على تحقيقه. ولكن في مقابل هذا الفريق، يوجد فريق أو فرقاء آخرون يعملون على وضع سقف منخفض لمستوى التنسيق بين الدول العربية. هذه الثنائية – إن صحّ التعبير- خرجت إلى الوجود قبل ولادة جامعة الدولة العربية، وتجسّدت بالفارق بين بروتوكول الإسكندرية الذي أعلن في تشرين الأول (أكتوبر) 1944، وبين ميثاق الجامعة الذي أعلن خلال آذار (مارس) 1945. ففي حين عبّر البروتوكول عن الإرادة السياسية للفريق الأول ورغب في توطيد مؤسسات الجامعة وبخاصة التحكيمية، عبّر الميثاق عن الإرادة السياسية للفريق الثاني الذي عمل على إضعاف الطابع الجماعي والمؤسسي للجامعة.
ويستمر الصراع بين هذه الإرادات المتناقضة حتى تاريخنا هذا، بين من يرغب ويعمل من أجل توطيد وتطوير مؤسسات العمل العربي المشترك وفي مقدمها جامعة الدول العربية، وبين إرادة سياسية تعبر عن تطلعات الذين يسعون إلى قيام شراكات إقليمية شرق أوسطية جديدة لا عربية، أو حتى إلى الحيلولة دون قيام أي نوع من أنواع الشراكات الإقليمية، واستبدالها بقيام شراكات ثنائية بين القوى الكبرى والدول العربية. فهذا النوع من الشراكات يوفر للقوى الكبرى إمكانية أفضل لبسط نفوذها على دول المنطقة وحماية مصالحها المشروعة وغير المشروعة فيها.
إن توضيح هذه النقطة مهمّ لأنه ينبّه المعنيين بمصير النظام الإقليمي العربي إلى عمق التحديات التي تهدد وجوده. فهذا التهديد لا يأتي دوماً من غياب الإرادة السياسية لدى من يسعون إلى إصلاح الجامعة فحسب، بل يأتي في أكثر الأحيان توفر هذه الأرادة لدى الذين يريدون محاصرة مؤسسات العمل العربي المشترك، والإجهاز عليها كلياً. بتعبير آخر فإن توقف دعاة إصلاح الجامعة عن التحرك من اجل تحقيق هدفهم لا يعني بقاء المنظمة الإقليمية العربية على حالها، بل يعني، في ظل تمسك الفريق الآخر بحربه ضد الفكرة العربية، المزيد من تراجع هذه المنظمة.
2- في أي سياق جاءت تلك المبادرة؟
عند مراجعة محاولات الإصلاح التي قام بها الأمناء العامون السابقون بما في ذلك محاولة العربي، يمكننا إدراجها في إطار نمطين من المحاولات والإستراتيجيات: واحدة رمت إلى تجديد الجامعة، وأخرى إلى تفعليها. وهناك فارق مهمّ بين النمطين: فالنمط الأول، الذي تبناه بعض الأمناء العامين السابقين، كان الأقرب إلى تأسيس الجامعة من جديد، وإلى التركيز على مقومات الجامعة الجديدة وعلى الناتج النهائي لمحاولات التجدد. ولإدراك مغزى وآفاق المسعى التجديدي، من المفيد الانتباه الى ما قيل في معرض تسويق هذا النمط الإصلاحي. فلقد اعتبر انتقالاً بالجامعة العربية من مرحلة الجيل الأول من المنظمات الإقليمية الذي تأثر بتجربة الأقلمة الأوروبية، الى مرحلة الجيل الثاني منها الذي يستند إلى تجارب الاندماج الإقليمي «المعولم». وهذه قفزة كبيرة تبدل حال الجامعة تبديلاً كبيراً وهو أمر يتطلب استصدار سيل من المقررات الجديدة وخوض مناقشات واسعة على اعلى المستويات من اجل البت فيها.
بالمقارنة فإن نمط تفعيل جامعة الدول العربية لا يحتاج إلى إصدار قرارات جديدة، وإلى الخوض في مناقشات مطولة، وفتح الأبواب امام سلسلة من المساومات الاستنزافية. انه يحتاج الى نفض الغبار عن قرارات صادرة فعلاً وقابلة للتطبيق. ثم ان نمط التفعيل، الذي تحمس له وتبناه الأمين العام الراحل عصمت عبد المجيد، يفضل نمط التجديد من نواح اخرى ايضاً. فهو أقرب الى سياسة التنفيذ التدريجي والتراكمي لمقررات الجامعة. وفي حين ان مشاريع التجديد تحتاج الى مراجعات واسعة وموافقات على اعلى المستويات الحكومية العربية، فإن النهج التفعيلي يفسح المجال أمام الأمانة العامة لأخذ المبادرات في تطبيق تدابير وإجراءات اصلاحية واسعة تمت الموافقة عليها سابقاً.
ولئن توخى بعضهم أحياناً من تطبيق مشاريع التجديد إخراج الجامعة من الظلام وإعادتها الى دائرة الضوء والاهتمام العام، فإن هذا المسار ادى الى عكس المطلوب منه، اذ ادى الى استنفار القوى المناهضة للعمل العربي المشترك بحيث جددت حملاتها على الجامعة قبل ان تلبس الجامعة ثوبها الجديد. بالمقارنة بهذا النمط من محاولات الإصلاح، ذكّر بعضهم بمزايا «الخطة البيروقراطية» التي انجبت المشروع الأوروبي عبر تفعيل القرارات بمعزل عن الضجيج الإعلامي.
في اختيارهم نهج تفعيل القرارات، سعى الآباء المؤسسون للجماعة الأوروبية الى ترسيخ هيئات المراقبة والمتابعة باعتبارها مرتكزات رئيسية لمشروعهم. وكمثل على هذا النهج نجد أنه تقع على عاتق هيئات المراقبة والمحاسبة مسؤولية اساسية في التدقيق في مدى التزام الدول المرشحة لعضوية الاتحاد الأوروبي بمبادئه الرئيسية. وتتلخص هذه المبادئ في ما دعي بمعايير كوبنهاغن. وتؤكد هذه المعايير احترام الدولة العضو للمبادئ الديموقراطية بخاصة لجهة استقرار المؤسسات، وسيادة القانون واحترام حقوق الأقليات. وما يميز عملية المراقبة التي يقوم بها الاتحاد الأوروبي بين الدول المرشحة لعضويته انها تمارس دورها بدقة عالية فتضع التقارير الدورية الدقيقة والتفصيلية وليس العامة فحسب عن مدى التزام هذه الدول مبادئ الديموقراطية والنهج الجماعي للدول الأعضاء.
لو توافرت الإرادة السياسية في الجامعة العربية التي اشار اليها نبيل العربي في خطابه الوداعي لكان من المستطاع ان تطبّق الجامعة المراقبة على مدى التزام الدول الأعضاء انفسهم مبادئ المنظمة العربية وقراراتها. ولكنها، كما اشرنا اعلاه، ليست متوافرة عند كل المساهمين في اعمال الجامعة. انها موجودة لدى بعضهم ولكنها تحتاج إلى دعم واسع من الرأي العام العربي المتعاطف مع فكرة التكامل العربي. وتملك بعض المنظمات العربية التي تعمل على نطاق اقليمي القدرات الفكرية والمادية والبشرية للتعبير عن هذا الدعم وعلى المساهمة في تفعيل مؤسسات العمل العربي المشترك. وتقف في الصدارة بين هذه الهيئات منظمات مثل لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (إسكوا)، الاتحاد البرلماني العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، مؤسسة الفكر العربي، هذا فضلاً عن عدد وافر من المنظمات الشعبية والمهنية العربية المستقلة.
إن هذه المنظمات والجماعات تستطيع إطلاق هيئة عربية مستقلة تعمل على النهوض بالجامعة العربية عبر تفعيل قراراتها. إن مبادرة من هذا النوع سوف توفر الإرادة السياسية المناسبة التي بحث عنها الأمين العام السابق للجامعة العربية فلم يجدها داخل الجامعة، ومن المستبعد ان يتم العثور عليها في عهد الأمين العام الجديد.
رغيد الصلح
صحيفة الحياة اللندنية