يجد حزب الشعوب الديمقراطي، وبفعل بنيته الاجتماعية (الكردية) ومنظومته الفكرية، نفسه محكوماً برفع راية الدفاع عن الحقوق القومية الكردية. وعليه، انتقل، في مرحلة ما بعد دخوله البرلمان، إلى طرح تصوره للتطلعات الكردية في حكم محلي يحقق الهوية للأكراد. وفي هذا السياق، ينبغي النظر إلى تصريحات زعيمه، صلاح الدين ديمرداش، في مؤتمر المجتمع الديمقراطي ( في 25 ديسمبر/كانون أول الماضي في مدينة دياربكر) بشأن إقامة حكم ذاتي في جنوب تركيا وشرقها، وبل والحديث، للمرة الأولى، عن إقامة دولة كردستان. وكانت هذه التصريحات بمثابة صب الزيت على النار، فقد أثارت ردود فعل غاضبة في الشارع التركي على المستويين الرسمي والشعبي، إذ وجد الأتراك فيها نية دفينة للتوجه نحو الانفصال، وهذا ما يفسر مطالبة أردوغان بضرورة أن يحاسب ديمرداش على تصريحاته، ووصف رئيس الحكومة، أحمد داود أوغلو، له بالخيانة، وقد عرفت الحكومة التركية كيف تستغل هذه التصريحات، وكذلك زيارته إلى موسكو، في تصوير الحزب وكأنه يتآمر على الدولة التركية، ويسعى إلى فصل المناطق الكردية عنها، تطلعاً إلى إقامة دولة كردية مستقلة. ولعل بسبب هذه التصريحات، لم تعد صورة ديمرداش في الإعلام والشارع التركيين صورة الزعيم اليساري الذي يجمع الأكراد والأتراك والعرب والأرمن معاً، أو صورة الرجل الذي يحمل خطاب السلام، ويقوم بدور الوساطة بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني، بحثاً عن حل سلمي مقبول للقضية الكردية في تركيا، بل باتت صورته، في نظر الحكومة التركية، صورة الرجل، أو الحزب الذي يشكل رأس الحربة لحزب العمال الكردستاني، ويحاول تنفيذ مشروعه السياسي على الأرض من داخل البيت التركي.
من دون شك، فتحت تصريحات ديمرداش بشأن الحكم الذاتي، والتي دفعت بالقضاء التركي إلى التحرك سريعاً ضده، مرحلة جديدة من العلاقة مع حزب الشعوب الديمقراطي، فالتهم الموجهة له خطيرة، إذ تتعلق بالانفصال وخرق الدستور، ويشكل مثل هذا الأمر حساسية كبيرة للنظام السياسي في تركيا، ولعل هذا ما يفسر مطالبة أردوغان بتجريد ديمرداش من الحصانة البرلمانية تمهيداً لمحاكمته، وإن حصل مثل هذا الأمر، فسيكون ذلك كافياً لوضع ديمرداش إلى جانب أوجلان في المعتقل، ربما لسنوات طويلة، ما يعني أن مصير حزب الشعوب الديمقراطي سيكون أمام مقصلة القضاء، حيث يشهد للقضاء التركي، في العقود الماضية، حظره أحزاباً كردية قومية عديدة، وكذلك الأحزاب الإسلامية، بما في ذلك محاولة حظر العدالة والتنمية عام 2009 ومن قبل حزبا الرفاه والفضيلة. وعليه، ثمة أسئلة أساسية تطرح نفسها هنا، منها، كيف سيتصرف حزب الشعوب الديمقراطي أمام صورته الجديدة في الشارع التركي؟ وكيف سيجمع أو يوفق بين أجندته الكردية والتركية؟ وهل يمكن أن يذهب إلى الخيار المسلح، في ظل الحرب المتواصلة في المناطق الكردية؟ وماذا لو أقدم القضاء التركي على وضع قادته في السجن، بل وحتى حظر الحزب؟
باتت هذه الأسئلة، وغيرها، مطروحة بقوة، بعد أن وصلت العلاقة بينه وبين حكومة حزب العدالة والتنمية إلى الصدام، ولعل من أهم محطات هذا الصدام، أخيراً، إلغاء أحمد داود أوغلو اجتماعاً كان مقرراً مع ديمرداش، وقوله إنه لن يبقى هناك شيء للتباحث معه، ومن ثم رد ديمرداش بأن دورنا في الحياة التركية ليس تقديم الشاي للسلطان، والأكراد ذاهبون إلى الحكم الذاتي، ولتفعل تركيا ما تشاء.
يشير ما سبق إلى قضايا كثيرة على صعيد علاقة تركيا بأكرادها، منها عدم نضج الحل السياسي، وغياب الثقة، واختلاف الأجندة وتناقض الأيديدلوجيا، على شكل جملة من التعقيدات المتداخلة التي تجعل من الصعوبة، إن لم يكن من المستحيل، في ظلها تحقيق السلام الكردي التركي، كل ذلك في وقت تتجه الأنظار فيه إلى وضع دستور جديد، لا يمكن تصوره بعيداً عن الاعتراف بالهوية الكردية، أو إعادة التعريف بهوية المواطن في تركيا، بعد أن نصت جميع الدساتير التركية السابقة على أن كل شخص في تركيا هو تركي بالضرورة.