بدأ الإطار الهيكلي للعلاقات الأمريكية التركية عندما انضمت تركيا إلى حلف شمال الأطلسي عام 1952م، فقد أدى التفوق التكنولوجي للولايات المتحدة الأمريكية على المستوى العسكري فضلًّا عن التحالفات التي أعقبت الحرب الباردة إلى قيام علاقة عسكرية بين الدولتين، وقد عمل الحلف بشكل وثيق على مواجهة الاتحاد السوفييتي السابق الذي كان واحدا من التحديات المشتركة، حيث شكلت الشيوعية السوفيتية تهديدًا مشتركًا بالنسبة للولايات المتحدة وتركيا على حد سواء، وقد لعبت الأخيرة دورًا مهمًا،حيث كانت تركيا هي مرتكز إستراتيجية الاحتواء الغربية ضد الاتحاد السوفييتي خلال عقود الحرب الباردة. وعلى الرغم من هذه العلاقة حدثت بعض الأزمات الدبلوماسية بين الدولتين كأزمة الصواريخ الكوبية عام 1962م، والأزمة القبرصية عام 1964م، والتدخل التركي العسكري في قبرص عام 1974م. إلا أن هذه الأزمات لم تؤثر على طبيعة العلاقات الإستراتيجية بينهما، وذلك يعود لأهمية منهما تجاه الآخر في مرحلة الحرب الباردة.
منذ نهاية الحرب الباردة راجت أطروحات عديدة بشأن تراجع الأهمية الإستراتيجية لتركيا، خاصة من المنظور الغربي، وذلك عطفًا على انتهاء التهديد الشيوعي وعدم الحاجة لسياسة”سد المنافذ” التي وفرت لها دورًا مهما طيلة الحرب الباردة. بيد أن التاريخ أثبت لاحقًا عدم صحة هذه الأطروحات، فعلى سبيل المثال كانت هناك فرص اقتصادية جديدة، وأهداف مشتركة لتركيا في قطاع الطاقة، خاصة في منطقة آسيا الوسطى، تلك التي خضعت لسيادة الاتحاد السوفييتي، إلا أن تركيا لم تستغل هذه الفرص، وذلك على الرغم من أنها خلال عقد التسعينيات من القرن المنقضي قد مرت بأزمات اقتصادية وسياسية، فقد استمرت في تعاونها مع حلفائها في حلف شمال الأطلسي، وبعد عام 2000م بدأت تركيا تتعافى من مشكلاتها السياسية والاقتصادية وبدأت في تحديد مصالحها وفقًا لمصالحها.
ويمكن القول أن متغيرٍا أساسًا ساهم في إعادة تشكيل العلاقة بين الولايات المتحدة الأمريكية وتركيا في مرحلة ما بعد11أيلول/سبتمبر2001م، استئثار أول حزب ذو مرجعية إسلامية بالحكم في تركيا ، فقد تمكن حزب العدالة والتنمية برئاسة رجب طيب أردوغان من الحصول على الأغلبية في الانتخابات البرلمانية التركية في الثالث من تشرين الثاني عام 2002م، مما أعطاه اليد العليا في تشكيل الحكومة التركية وذلك لأول مرة منذ قيام تركيا المعاصرة عام 1923م. وهنا يمكن رصد ثلاثة ملامح أساسية مثلت تحولًا مهمًا في نظرة تركيا لعلاقاتها مع الولايات المتحدة الأمريكية حسبما رآها قيادة حزب العدالة والتنمية. أولها، عدم إعطائها “صك على بياض” في توظيف تركيا لخدمة مصالحها وسياساتها في الشرق الأوسط على غرار ما كان عليه الحال إبان عقد التسعينيات من القرن المنقضي.
ثانيها، إعادة التفكير في البيئة العربية بعيدًا عن منظور العلاقة مع الولايات المتحدة الامريكية، ما يعني التحلل نسبيًا من ضغوطات الاخيرة من أجل تقوية العلاقات مع الدول العربية. وثالثهما الدفع باتجاه تحميلها جزءًا من أعباء انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي.
وقد سعت الدولة التركية في ظل حكومة العدالة والتنمية إلى تأطير علاقتها مع الولايات المتحدة الأمريكية انطلاقًا من المصالح المشتركة بينهما، وليس كدولة “متعهدة تقديم خدمات” لها، لذلك برزت تصدعات في السياسة الخارجية أخذت في الظهور بين الولايات المتحدة الأمريكية في عهد إدارة الرئيس الأمريكي السابق “جورج دبليو بوش” والرئيس الحالي” باراك أوباما” وتركيا في عهد حكومة العدالة والتنمية”؛ حيث كان لكل منهما وجهات نظر مختلفة بشأن النهج الأمثل في حل المشكلات والقضايا الإقليمية.
وعليه تحاول هذه الورقة الإجابة على السؤال التالي: هل ستؤثر الخلافات في القضايا الإقليمية محل الإهتمام المشترك على الشراكة النموذجية بينهما، أم أن الدولتان حريصتان عليها مما يدفعهما إلى إعادة تقييم العلاقة بشكل يضيّق فجوة الخلافات ويزيد من مساحة الالتقاء؟
القضايا الخلافية في البيئة الإقليمية للشرق الأوسط:
شهدت –ولاتزال- تشهد العلاقات الامريكية التركية منذ مجيء حزب العدالة والتنمية إلى الحُكم في تشرين الثاني من عام 2002م، العديد من الخلافات بشأن عدد من القضايا الإقليمية، ولعل أهمها على النحو الآتي:
أولًا-المشهد العراق:
يعود الخلاف الأمريكي التركي بشأن المشهد العراقي، حينما رفض مجلس النواب التركي في آذار/مارس 2003م، السماح للقوات الأمريكية في العدوان العسكري عبر أراضيه، فقد أبدت واشطن استياؤها من هذا الرفض عبر نائب وزير دفاعها –آنذاك- بول وولفوتنز الذي وبّخ قيادة حزب العدالة والتنمية علنًا لعدم قدرتها على حشد النفوذ الكافي لتجاوز العملية التشريعية وتجاهل الرأي العام التركي تلبية لندائها. وقد كان قرار الرفض أهم مؤشر على التغير الذي طرأ على العلاقة الهرمية بين الولايات المتحدة وتركيا. ودون الخوض في أسبابه، فإن تداعياته يمكن تلخيصها فيما يلي: زيادة مساحة التوتر وعدم الثقة بين الدولتين والتي كانت قد بدأت مؤشراتها مع وصول حزب العدالة والتنمية للحكم قبل شهور قليلة من العدوان على العراق. وإثارة الشكوك الأمريكية تجاه تركيا بوصفها حليفا إستراتيجيا يمكن الاعتماد عليه وقت الأزمات. وظهور نتائج عملية لهذا التوتر تمثلت في تأجيل الولايات المتحدة الأمريكية إعطاء تركيا قرضًا ماليًا وصلت قيمته8.5 مليار دولار أمريكي، فضلًا عن رفض واشنطن نشر قوات تركية في العراق للمساعدة في جهود الإعمار.
واستمر التباعد الأمريكي التركي بشأن العراق، حيث دعمت تركيا في الإنتخابات النيابية العراقية التي جرت في عام 2010م، تكتل السيد إياد علاوي، وعارضت إعادة اختياره رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي -آنذاك- الذي رأت في سياساته الداخلية تكريسًا للنهج الطائفي، الذي “فشلت” واشنطن في كبح جماحها، كما كانت تنظر إليه أيضًا بوصفه “رجل طهران” في العراق. في حين دعمت واشنطن إعادة اختياره، وترى أن عداء أنقرة له غير ضروري ولن يأتي بنتائج إيجابية. لكن أثبت التطورات الميدانية في العراق بعد إعادة اختيار نوري المالكي رئيسًا لمجلس الوزراء العراقي وإزاحته عن الحكم في أب/أغسطس 2014، على خلفية أحداث الموصل. نجاعة الموقف التركي من المشهد العراقي.
وقد وسّع تعاون تركيا مع إقليم كردستان العراق في مجال الطاقة من فجوة الخلافات بينها وبين الولايات المتحدة الأمريكية، إذ ترفض الأخيرة ذلك التعاون- من وجهة نظرها- الذي يتجاوز الحكومة الإتحادية في بغداد، ألا أن رفضها الجوهري يكمن أن يفضي التعاون إلى أن تتخذ تركيا مواقف مستقبلية أكثر حزمًا قد تؤثر بشكل سلبي على سياسة الولايات المتحدة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط.
ثانيًا-موقف الولايات المتحدة الأمريكية من قضية الأرمن:
يعد من بين أهم المحددات في العلاقات الأمريكية التركية، حيث ساهم في توتر العلاقات بينهما، ففي 28أيلول/سبتمبر عام2007م، صوتت لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب الأمريكي، على مشروع قرار يؤيد أن ما وقع للأرمن في الدولة العثمانية عام 1915م كان “إبادة”، وأن على السياسة الأمريكية الاعتراف بذلك اعترافًا تامًا، خاصة في سياساتها حيال تركيا. ومن جانبها استدعت تركيا سفيرها في واشنطن وهددت بإيقاف التعاون العسكري معها. وقد صرح الرئيس التركي السابق “عبدالله جول” على ذلك بالقول” غير مقبول وليس له أساس ولايحترم الأتراك”.
ولم يخفف من حدة الموقف التركي سوى تنصل الإدارة الأمريكية من ذلك القرار،حيث أعلن الرئيس الأمريكي السابق “جورج دبليو بوش” آنذاك، أن القرار” سيلحق ضررًا كبيرًا بعلاقتنا بحليف أساسي في الناتو والحرب العالمية على الإرهاب”. بل وحذر –آنذاك- وزير الدفاع الأمريكي الأسبق”روبرت جيتس” من الموقف التركي على القرار قائلًا إن:” الأتراك كانوا واضحين بما فيه الكفاية”، مضيفًا أن” 70% من الإمدادات الجوية الأمريكية و30% من الوقود و95% من الآليات المدرعة الجديدة المخصصة للعراق تعبر تركيا”.
والجدير بالملاحظة هنا، أن عام 2015 سيشكل تحديًّا للقضية الأرمنية، ففي هذا العام ستحل الذكرى المئوية لما يسمى بـ “مذبحة الأرمن”، وبالتالي فإن الموقف الأميركي من القضية سيكون مرهونًا بمدى تطور العلاقات التركية الأمريكية، والتركية الإسرائيلية.
ثالثًا- المشهد السوري:
شهدت العلاقات التركية السورية منذ مجيء حكومة العدالة والتنمية إلى الحكم في تركيا، نقلة نوعية على مستوى العلاقات الدبلوماسية والإقتصادية، في الوقت الذي كانت الولايات المتحدة الأمريكية تسعى لعزل سورية، كونها- كما تتدعي- إنها تمثّل تحديّا لسياساتها في الشرق الأوسط.
وحينما اندلعت الانتفاضة السورية في 15آذار /مارس2011م، ولإحتواء تداعياتها طلبت الحكومة التركية من الحكومة السورية التجاوب مع مطالب الشعب السوري، ولكنها رفضت واستمرت في ممارسة القتل والتنكيل بالمتظاهرين السوريين. حينها، وتحديدًا في تشرين الأول/أكتوبر عام 2011م، دعا رئيس الوزراء التركي السابق ورئيس الجمهورية الحالي رجب طيب أردوغان، الرئيس السوري بشار الأسد بالتنحي عن الحكم.
وعلى الرغم من أن الموقف التركي لقي ترحيبًا من قبل الولايات المتحدة الأمريكية على أنه تأكيد لوقوف تركيا مع الغرب في مشهد التغيير العربي. إلا أن الانتفاضة السورية جسدت أكبر المشاهد الخلافية التي حازت اهتمام الدولتين، وبشأن أسلوب التعامل معها والغاية النهائية لها. فالبنسبة لتركيا لم يكن لديها اقتناع متماسك بأن الولايات المتحدة الأمريكية ترغب بشكل جدي في تغيير الحكم في سورية على الرغم من تصريحات رئيسها “باراك أوباما” بداية الانتفاضة السورية بأن حكم الرئيس بشار الأسد قد فقد شرعيته. فهي تفضل بقاؤه على جلب الإسلام السني المتحالف مع تركيا غير مرحب به إسرائيليًّا، والذي سيشكل خطرًا- كما تدعي الولايات المتحدة الأمريكية- على مكونات المجتمع السوري غير سنية. لذلك رفضت- ولاتزال- ترفض أي مقترح قد يتضمن حظرًا جويًا أو منطقة آمنة للمدنيين.
وقد اتسعت هوة الاختلاف بين الدولتين بشأن الصراع في سوريا، وخاصة فيما يتصل من دعم التحالف الدولي في حربه ضد تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام”، الذي بات يعرف إعلاميًا بـ “داعش”، في تحديد مصادر التهديد لكل دولة. لذا فقد اتخذت تركيا مسارًا مغايرا لمسار الولايات المتحدة الأمريكية في التعاطي في الحرب ضد “داعش” في مدينة العرب “كوباني”. فمن حيث اختلاف مصادر التهديد، ففي الوقت الذي رأت فيه واشنطن أن تنظيم “داعش”هو المصدر الأساسي لتهديد الأمن الإقليمي لمنطقة الشرق الأوسط، فإن تركيا رأت أن حكم الرئيس بشار الأسد هو الخطر المباشر على أمنها وأساس الإرهاب في سورية. فتركيا -حتى هذه اللحظة الراهنة- ترفض دخول الحرب ضد تنظيم الداعش إلا وفق شروطها. وهي اسقاط حكم الرئيس بشار الأسد وفرض منطقة حظر جوي وإيجاد منطقة آمنة للمدنيين السوريين داخل سورية.
رابعًا- البرنامج النووي الإيراني:
شهدت العلاقات التركية الإيرانية في عهد حكومة العدالة تقدمًا ملحوظا، هذا التقدم لم يلق استحسان الولايات المتحدة الأمريكية، الذي صنفت إيران ضمن محور الشر والمتحدية لسياساتها في منطقة الشرق الأوسط. وإذا كانت ثمة مخاوف تركية من الطموح النووي الإيراني، وما قد يؤدي إليه من خلل في التوازن الإقليمي ليس قطعًا في مصلحتها، فإن أنقرة لم تكن مع أطروحات تغيير النظام الإيراني التي انطلقت منها القوى الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية. كما كانت تركيا باستمرار ضد فكرة استخدام الخيار العسكري لمعالجة أزمة البرنامج النووي الإيراني، وقد عبرت عن مخاوفها صراحة للولايات المتحدة الأمريكية من تكرار المشهد العراقي في إيران ما قد يخل بالوضع الإقليمي تمامًا. ومن أجل ذلك بذلت تركيا جهودا دبلوماسية حثيثة مع إيران منذ انتخابها لعضوية مجلس الأمن الدولي كعضو غير دائم، وقد ظهر هذا بوضوح خلال القمة النووية في العاصمة الأمريكية واشنطن في نيسان/إبريل 2010م، عندما قدمت تركيا والبرازيل عرض الوكالة الدولية للطاقة الذرية للإيرانيين مرة أخرى، ووافقت إيران على العرض الذي يقضي بأن تقوم طهران بتسليم تركيا 1200 كيلو جرام من اليورانيوم المنخفض التخصيب في موعد لا يتجاوز السنة الواحدة، واعتبرت هذه خطوة غاية في الأهمية من قبل متخصصين متابعين للمفاوضات النووية، ولكن بدلًا من الاستجابة لهذا الاتفاق والنظر إليه بشكل إيجابي؛ قامت الولايات المتحدة الأمريكية بإفشاله، من خلال تركيزها على فرض العقوبات الإقتصادية وتعزيز التهديد العسكري لمنع إيران من أن تصبح ثاني دولة مسلحة في منطقة الشرق الأوسط. وقد ردت تركيا على هذا الإفشال، حينما صوتت في حزيران/ يونيو عام 2010م، ضد قرار مجلس الأمن القاضي بفرض حزمة من العقوبات الجديدة على إيران، مما أظهر وجود علاقة معقدة بين تركيا والولايات المتحدة الأمريكية، تتعارض مع العلاقة الأحادية الاتجاه
ومع مشهد التغيير العربي الذي انطلق من تونس في تشرين الثاني عام 2010م، واندلاع الإنتفاضة السورية في آذار /مارس 2011م، تغيرت وجهة النظر التركية من البرنامج النووي الإيراني، التغير المرتبط بتباينهما الحاد تجاهها. واستجابت تركيا أيضًا للعقوبات الغربية من خلال تخفيض وارادتها من النفط الإيراني.
لكن الملفت للإنتباه هنا، أن الولايات المتحدة الأمريكية وإيران أرادتا أن تعاقب الدبلوماسية التركية كل حسب مصالحه الخاصة، حينما عقدت المفاوضات المباشرة الإمريكية الإيرانية بشأن البرنامج النووي الإيراني في العاصمة العُمانية مسقط.
خامسًا: التقارب التركي مع حركة المقاومة الإسلامية (حماس):
شهد موقف تركيا من القضية الفلسطينية تحولًا كبيرًا، تحت قيادة حزب العدالة والتنمية، حيث كانت تركيا تضع دائمًا علاقاتها الإستراتيجية والعسكرية مع إسرائيل على قمة أولوياتها الشرق أوسطية، لكن هذا الأمر تغير مع تطبيق مبدأ”العمق الإستراتيجي”.
ففي الوقت الذي كان الغرب يفرض فيه حصارًا ماليًا على حكومة حماس عقب فوزها في الانتخابات التشريعية عام 2006م،كان رئيس الوزراء الحالي لتركيا أحمد داود أوغلو يتسقبل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل في أنقرة، وهي خطوة سببت غضبًا أمريكيًا وإسرائيليًا على السواء نظرًا للعلاقات الإستراتيجية التي تجمعها مع تركيا.
وظهر بوضوح التحول في الموقف التركي من القضية الفلسطينية أثناء العدوان الإسرائيلي على غزة في أواخر عام 2008م، فقد وجه الرئيس التركي الحالي رجب طيب أردوغان انتقادات شديدة اللهجة إلى إسرائيل، واتهمها بارتكاب جرائم حرب في غزة، بل ودافع عن حركة حماس. ولعل خروجه الشهير من جلسة كانت تجمعه مع الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز في مؤتمر دافوس في كانون الثاني/يناير عام 2009م، أبرز دليل على التحول في الموقف التركي.
أثار هذا النهج التركي مخاوف الغرب، وبدأ يتضح ببطء أنتحركات السياسة الخارجية التركية المستقلة يمكن أن تختلف عن أولويات الولايات المتحدة الإقليمية ولالتوازي مع هذا، كان العديد من الصحفيين والخبراء الباحثين الأتراك في الولايات المتحدة الأامريكية أصوليين علمانيين يعارضون بقوة صعود حزب العدالة والتنمية ويعدونه تهديدًا. واتخذوا تدابير لتحذير الغرب من الطبيعة”الحقيقية” للتوجه السياسي لحزب العدالة والتنمية، ولإلقاء الشكوك بشأن استمرار انتماء تركيا إلى المعسكر الغربي. فاستخدموا نفوذهم وعلاقاتهم بالمشرعين والمسؤولين الأميركيين للتلميح بأن للقيادة التركية الجديدة جدول أعمال غير معلن لإحلال الإسلام السياسي محل العلمانية، ومن ثم التحرك في اتجاهات تعارض بحدة المصالح الأميركية والإسرائيلية في البيئة الإقليمية للشرق الأوسط. وقد وظف هذا الرأي بشكل خاص ضد حركة حماس.ورغم أن السياسة الخارجية التركية كانت موضع متابعة دقيقة، خاصة في عهد إدارة الرئيس الأمريكي السابق”جورج دبليو بوش” تجدر الإشارة أيضًا إلى وجود بعض الدعم لوجهة النظر المضادة أساسها قبول هذا الإظهار الجديد للإستقلال التركي. أعطى هذا الرأي فرصة لواشنطن لتظهر –من خلال تركيا- أن الولايات المتحدة مستعدة وقادرة على العمل البناء مع حكومات ذات ميول إسلامية في مرحلة ما بعد أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، حتى لو اتبعت هذه الحكومة إستراتيجية مستقلة تختلف أحيانًا عن مواقف السياسة الخارجية الأميركية شريطة أن لا يهدد مصالحها.
سادسًا- التحولات في مصر :
أنتجت ازاحة الرئيس المصري الأسبق محمد مرسي عن سدة الحكم في 3تموز/يوليو2013م، تباينًا جديدًا بين تركيا والولايات المتحدة الأمريكية. فقد أوضحت الأولى أنها لا ترى في الإطاحة بالرئيس المصري المنتخب ديمقراطيًا وتجريم قاعدته السياسية من الإخوان المسلمين أمرًا مبررًا أو مشروعًا. واعتبرت ما حدث في مصر على انه انقلاب عسكريّ، الأمر الذي أدى إلى تأزم العلاقات المصرية التركية حتى يومنا هذا. أما الثانية فقد اتبعت خطًّا أكثر حذرًا ،متقبّلة ما يحدث في مصر، رغم بعض كلمات الأسف إزاء قتل ألاف المتظاهرين المؤيدين للرئيس الأسبق محمد مرسي في ميداني “رابعة والنهضة”. الموقف الأميركي من الإنقلاب يدل على دعهمها له كما دعمته ورحبت به معظم الدول العربية وعارضته بقوة تركيا.
الخلاصة:
من المعلوم أن العلاقات التركية الأمريكية ذات خصوصية مميزة، ما يفرض عليها أن تحسم خياراتها بشأن القضايا الإقليمة محل الخلاف بينهما. فإذا كان صحيحًا أن استقلال السياسة الخارجية التركية في بيئتها الإقليمية قد يتعارض مع سياسية الولايات المتحدة الأمريكية، ومصالحها، قد يدفعها لثنيها عن ذلك، إلى استخدام بعض ملفات الضغط ضد تركيا، كتحريك قضية الأكراد لتقويض استقراها، أو إثاره القضية الأرمنية، وأيضًا دعم الموقف اليوناني إزاء استقلالية قبرص، فضلًا على نسفها لطموحات تركيا، وعرقلة دخولها إلى الاتحاد الأوروبي.
لكن من الصعوبة بمكان أن تقدم الولايات المتحدة الامريكية على معالجة خلافاتها معها على ذلك النحو. لأنها لا تزال تحتاج إلىها، ولا تقتصر هذه الحاجة على حل مشكلات الشرق الأوسط، بل تتعدى ذلك إلى إدراكها الدور التركي في مناطق أخرى وقضايا أخرى كآسيا الوسطى، والقوقاز، وأمن الطاقة، ومكافحة الإرهاب. هذه الأهمية الإستراتيجية لتركيا بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية تعود لثلاثة أسباب رئيسة؛ الأول: يكمن في موقعها الجيوبوليتيكي المتميز الواقع وسط القارات الثلاث: ( أوروبا وآسيا وأفريقيا)، والذي يربط تركيا بالعديد من المناطق التي تقع صلب المصالح الأمريكية، فتركيا ترتبط بمناطق الشرق الأوسط، والبلقان، والقوقاز، والبحر الأسود، وآسيا الوسطى، بروابط اقتصادية وثقافية وتاريخية. إلى جانب تحكمها في الممرات البحرية في البوسفور والدردنيل، وكونها معبرًا لخطوط النفط والغاز من آسيا الوسطى، وبحر قزوين إلى أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية.
أما السبب الثاني: فيتمثل في المنظور الجديد(العمق الإستراتيجي) الذي اتبعه حزب العدالة والتنمية فيما يتعلق بالسياسة الخارجية التركية، حيث مكن هذا المنظور تركيا من الإنخراط في معظم القضايا المتوترة في منطقة الشرق الأوسط، سواء في العراق، أو إيران، أو لبنان، أو القضية الفلسطينية. ويكمن السبب الثالث في أن الولايات المتحدة الأمريكية تنظر إلى تركيا باعتبارها الدولة الإسلامية” النموذج”. فهي دولة ديمقراطية حديثة، حققت قدرًا كبيرًا من التنمية الإقتصادية، وتمثل من وجهة النظر الغربية تعايشًا بين الإسلام وقيم الحداثة الغربية. هذه الأسباب جعلت من الصعوبة بمكان على الولايات المتحدة الأمريكية أن تحل أيًّا من تلك القضايا الشائكة التي تواجهها دون مساعدة تركيا.
ولكي تتفهم الولايات المتحدة الأمريكية أن استقلالية السياسة الخارجية التركية لا تهدد مصالحها الإستراتيجية، فإنه يتعين الولايات المتحدة الأمريكية وتركيا من إجل إقامة علاقة متنوعة ودائمة، التغلب على عائقين رئيسيبن هما البعد النفسي والبعد الجيوسياسي، فالبعد النفسي يتعلق بطبيعة العلاقة الهرمية بين الدولتين التي تعود إلى ما قبل 60 عامًا، لذلك سيكون من الصعب على الأولى أن تدرك أن الثانية في الوقت الراهن تتصرف بناءً على مصالحها الخاصة وليس بالضرورة لصالح أو ضد مصالح الولايات المتحدة في بيئتها الإقليمية، ولا جدال في أن تركيا سوف تتعلم كيف يمكنها تحقيق توازن بين مصالحها الخاصة وتوقعات حلفائها، وأما من ناحية التحدي الجيوسياسي؛ فتركيا تعيش حاليًّا في جوار مضطرب، وعلاقاتها مع جيرانها متعددة ومتنوعة، وفي أغلب الأحيان تؤثر علاقتها مع دولة ما على علاقاتها مع دولة أخرى؛ وبناءً على ما سبق؛ فإن الولايات المتحدة بحاجة إلى أن تنظر إلىها بوصفها حليفًا إقليميًا قويًا، لها مصالح متنوعة وتحالفات مختلفة، وليس على أنها مجرد تابع للولايات المتحدة الأمريكية في أنقرة، كما تحتاج الولايات المتحدة الأمريكية أيضًا إلى أن تكون مرنة وبراغماتية إلى حد كاف، لكي تدرك قيمة الجهود التي تبذلها في سد الفجوات بين الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الجهات الإقليمية الفاعلة. لذا ستحتاج كل من تركيا والولايات المتحدة الأمريكية إلى بعض الوقت لتغيير مواقفهم التقليدية تجاه بعضهما البعض. فالحرب الباردة قد انتهت، ومن ثم من حقهما أن تنوع شراكتهما بما يخدم مصالحها، شريطة ألا تنعكس على علاقاتهما الثنائية بشكل سلبي، وهذا يعد تحدِ جديد لهما في قادم الأيام.
د. معمر خولي