يبدو أن تحول الكباش المشدود، منذ أقل من سنة، بين السعودية وإيران الى مواجهة مفتوحة بينهما، على خلفية إعدام المملكة الشيخ نمر النمر، ستستمر بوتيرة متصاعدة على امتداد المسرح الإقليمي من اليمن إلى سورية، مروراً بالعراق ولبنان. والأرجح أن مرد ذلك، هذه المرة، قرار سعودي، عنوانه وضع حد للعنجهية والتمدد الإيراني المستمر في المنطقة. وتحسباً لمضاعفات بدء العد العكسي لدخول الاتفاق النووي، الذي تم توقيعه بين إيران والدول “الخمس زائد واحد” (أميركا وفرنسا وإنجلترا وروسيا والصين + ألمانيا)، حيز التطبيق مع بداية العام الجديد. وهو يعني لطهران فك تجميد جزء من أرصدتها في المصارف الأميركية والأوروبية، وبدء رفع تدريجي للعقوبات الاقتصادية المفروضة على طهران، منذ سنوات طويلة. وهذا يعني في المقابل، تمكين نظام الملالي من استعادة بعض من الأوكسجين اللازم لإعادة تنشيط اقتصاده، وتخفيف من حدة النقمة الشعبية في الداخل، فيما هو موغل في تورطه في سورية والعراق واليمن ولبنان، أي العواصم العربية الأربع التي اعتبر أحد مسؤولي مجلس الشورى، منذ نحو سنة، أنها باتت تحت سيطرته.
ومثلما يريح هذا الاتفاق إيران، فإنه يريح، أيضاً، الولايات المتحدة التي نزعت، بموجبه، أنياب طهران النووية، وأبقت سلاح الرقابة مسلطاً على منشآتها النووية، عبر وكالة الطاقة الذرية، إذ أبقى الاتفاق مسألة رفع العقوبات مرتبطة بمدى التزام طهران بوقف نشاطها النووي، غير أن هذا الاتفاق الذي تم التوقيع عليه، في يوليو/تموز الماضي، لم تهضمه، بطبيعة الحال، المملكة السعودية التي تخشى من أن يطلق يد إيران في المنطقة، وبتواطؤ غربي ربما، فقد قرر الملك سلمان بن عبدالعزيز، على ما يبدو، منذ تنصيبه (يناير/كانون ثاني 2015) التصدي لنفوذ إيران وتأجيجها النزاعات والفتن، في عدد من الدول العربية والخليجية، ففاجأ الجميع، وخصوصاً إيران، بقرار التدخل العسكري في اليمن (عاصفة الحزم)، في مارس/آذار الماضي، ثم دعم المعارضة السورية المسلحة، والإصرار على رحيل بشار الأسد. وقبل أسبوع، جاء قرار إعدام الشيخ السعودي الشيعي، نمر النمر، بمثابة الفخ الذي وقعت فيه إيران هذه المرة، فراحت تنفخ في البوق المذهبي، مجندة كل أدواتها في العراق ولبنان والبحرين، احتجاجاً على اغتيال رجل دين شيعي، ولم تنطق بكلمة إدانة واحدة لإعدام 44 سعودياً آخرين من السنة. وقد تزامن قرار الإعدام مع إلغاء الهدنة التي كانت سارية في اليمن، قبل الذهاب
إلى المفاوضات في جنيف، لعدم احترام الحوثيين لها.
ويؤكد التصعيد السعودي الفوري رداً على اقتحام السفارة في طهران، وتجاوب العرب معه، أن الرياض قد استعدت، أو على الأقل، توقعت طبيعة ردة فعل طهران، وقرّرت الذهاب بعيداً في مواجهة محسوبة (حتى الآن) مضاعفاتها. وهي لا تخوضها وحدها، وإنما تمكنت من توحيد معظم العرب وراءها، من سحب السفراء، إلى قطع العلاقات الدبلوماسية، ووقف حركة الطيران ووقف التعامل التجاري.
وواضح أن هذا الاصطفاف عربي بالدرجة الأولى، لكنه، أيضاً، مذهبي في العمق، ردة فعل على نظام يعمل على تأجيج الصراع المذهبي السني-الشيعي في المنطقة، ولا يألو جهداً في تأليب الجماعات الشيعية على الأنظمة والحكام في دول عربية وخليجية عديدة. يريد النظام الإيراني القول، إنه المسؤول الوحيد عن الشيعة، أينما وجدوا في العالم، وأنه يشكل زعامتهم ومرجعيتهم السياسية والدينية والروحية، فالشيخ النمر كان يطالب، في خطبه، بتطبيق “نظام ولاية الفقيه” في السعودية وفي البحرين وفي العالم، كما كان يؤكد. وهذا زعيم حزب الله اللبناني، حسن نصرالله، يجاهر ويفاخر ويكرّر في خطاباته أنه “جندي في إمرة ولاية الفقيه”.
ما هو أفق هذه المواجهة المفتوحة، وهل هي تجري خارج صراع الكبار المفتوح في الشرق الأوسط وعليه؟ لا شك أن السعودية تسعى إلى تكريس زعامتها العربية والإقليمية (والإسلامية) اليوم في المنطقة، بعدما كانت تتصدرها مصر، وتقف هي وراء الكواليس، في مواجهة تمدد إيران عربياً. وقد عملت على تقوية موقعها ودورها، عبر إعادة ترتيب علاقاتها وتمتينها مع مصر عبد الفتاح السيسي وتركيا أردوغان الذي زار السعودية، أخيراً، وتم الإعلان عن إنشاء مجلس تعاون وتنسيق بين البلدين. ويرتبط هذا الثلاثي بعلاقاتٍ تاريخيةٍ وتقليديةٍ مع الولايات المتحدة، يشوبها اليوم بعض من تضارب في المصالح، وبعض من اختلاف في الحسابات والرؤية، وبعض من “سوء الفهم”، فالرئيس الأميركي، باراك أوباما، تخلى عن دوره في الشرق الأوسط، رئيس أقوى دولة في العالم، وبات بلا سياسة، مخلياً الساحة لـ”الدب الروسي”، وتاركاً حلفاءه وحدهم في المواجهة. وراحت واشنطن تغازل خصمهم اللدود الذي يتمدد كالأخطبوط في المنطقة، ممهدة الطريق لانتصار موسكو وطهران وحزب الله في سورية.
لذلك، اختارت السعودية التوقيت مع بداية السنة الجديدة، بهدف خلط الأوراق واستعادة زمام المبادرة، عبر إرباك إيران وممارسة الضغط عليها، وفي الوقت عينه، إحراج الولايات المتحدة التي أخذت ما تريده من إيران، وتريد، في الوقت نفسه، إبقاء الضغط قائماً عليها، لكي تضمن أن يسلك الاتفاق النووي طريقه، خصوصاً وأنها ستضطر، على الأرجح، إلى فرض عقوبات جديدة على طهران، لتطويرها صواريخ باليستية. ومن هذا المنطلق، لم تبد واشنطن، في الظاهر، تعاطفها مع الرياض، لا بل إنها اعترضت على حكم الإعدام، غير أنها ضمنياً مرتاحة لما يجري.
وفي المقابل، ينظر الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بخبث الماكر إلى ما تقوم السعودية بما يتمناه هو، أي تقليم أظافر حليفه الإيراني، والحد من طموحاته الإمبراطورية، كما أن القيصر الروسي ينظر بعين الرضا إلى الجهود التي تبذلها الرياض، من أجل توحيد صفوف المعارضة السياسية والعسكرية السورية، استعداداً للجلوس مع ممثلين عن النظام الذي تحميه موسكو، إلى طاولة المفاوضات المنتظرة في جنيف، في 25 يناير/كانون ثاني الجاري، على أساس قرار مجلس الأمن 2254 الذي وضع آلية لحل سياسي للمأساة السورية.
هل إن حشر إيران بين مطرقة السعودية وسندان أميركا وروسيا كاف لاحتواء المواجهة، أم لدى الملالي ما يخبئونه؟
سعد كيوان
صحيفة العربي الجديد