تثير القوة المتصاعدة لتنظيم الدولة الإسلامية في ليبيا، وتمدده خصوصًا باتجاه منابع النفط، مخاوفَ متزايدة داخل ليبيا وخارجها من احتمال استخدام ذلك ذريعة لتدخّلٍ عسكري غربي في البلد العربي الغنيّ بالنفط، والذي ما فتئ يشهد حالةً من الاضطراب والفوضى، بعد انتخابات تشريعية أولى، بشّرت بانتقال ممكن نحو الديمقراطية، بعد إسقاط نظام الرئيس السابق، معمر القذافي، عام 2011. وتدور معظم التحليلات حول قيام الأوروبيين، الأكثر تأثّرًا بما يجري في ليبيا، لقربها منهم جغرافيًا (فرنسا، وإيطاليا، ثم بريطانيا)، بتحمّل العبء الأكبر في أيّ تدخّل عسكري، على غرار ما حصل في عملية الأطلسي التي أسهمت في إسقاط نظام القذافي عام 2011، بيد أنّ هناك مخاطر كبيرة ترافق هذا التدخّل الممكن، ومخاوف أكبر من تداعياته، وذلك ليس على ليبيا فقط، إنما على منطقة شمال إفريقيا عموماً.
بداية مشجعة لانتقال متعثر
بعد أسبوع فقط على نجاح الشعب المصري في إطاحة الرئيس الأسبق حسني مبارك، التحق الشعب الليبي في فبراير/شباط 2011 بالركب الذي انطلق في تونس، وثار على واحد من أسوأ الأنظمة التي عرفتها المنطقة العربية. وفي أجواء إقليمية ودولية مواتية، وبسبب قدرتهم أيضاً على تنظيم صفوفهم سريعًا، والدعم الخارجي الذي تلقّوه، بعد تقدّم كتائب القذافي نحو بنغازي، تمكّن الليبيون من تحقيق أهدافهم في إطاحة النظام، لتبدأ على الفور مرحلة انتقالية نحو تحوّل ديمقراطي، طالما تطلّع إليه أبناء ليبيا. وكانت البدايات مشجعة إلى حدٍ كبير، إذ تمكّن الليبيون من إجراء أوّل انتخابات حرة في تاريخ بلادهم في يوليو/تموز 2012، أفرزت أول مؤتمر وطني عامّ منتخب، وتمّ تشكيل حكومة لقيادة المرحلة الانتقالية.
لكن عوامل مثل؛ الفشل في دمج المسلحين في الجيش والشرطة ومؤسسات الدولة، وسقوط القوى السياسية الليبية في دائرة الاستقطابات الإقليمية والدولية، وآثار التدخّل الخارجي السلبية، وخشية قوى الثورة من “سرقة” الطبقة السياسية الليبية إنجازاتهم وتضحياتهم، مع عدم تمكّن هذه القوى من تنظيم نفسها بوصفها قوة موحدة، أدّت إلى شروخ ظلت تتّسع، وصولاً إلى إقرار قانون العزل السياسي في مايو/أيار 2013 الذي جاء بضغط من الكتائب الثورية التي تحمّلت عبء إطاحة نظام القذافي. وشمل القانون شرائح واسعة جدًا من القوى والشخصيات السياسية الليبية، وفي خضمّ المزايدات بين معارضي القانون ومؤيديه، توسّع قانون العزل السياسي، نكايةً ليشمل شخصيات ما كان ينبغي أن تُشمل.
أدّى نشوء مخاوف متبادلة بين الثوار الذين كانوا يخشون استيلاء قوى سياسية على منجزات الثوار وتضحياتهم من جهة، وخوف القوى السياسية نفسها من سلاح الثوار، وعدم قدرة الطرفين على إبداء المرونة الكافية للتوصّل إلى حلول وسط، إلى فقدان السلطة كلّها، وربما كيان الدولة الليبية نفسه.
مثّل قانون العزل السياسي نقطة فاصلة في المرحلة الانتقالية. وعلى إثره، تكاتفت كلّ القوى المتضرّرة من القانون، لمقاومة مفاعيله وإسقاطه، ما أدّى إلى شقّ القوى السياسية المعارضة للقذافي التي تكاتفت سويّة خلال الثورة. واستغلّ اللواء المتقاعد خليفة حفتر هذا الانشقاق، وأعلن في 10 فبراير/شباط 2014 عن إطلاق ما أسماها “عملية الكرامة” لتخليص ليبيا من “الإرهابيين”، متشجعًا بمناخ إقليمي ودولي، بدأ يميل لمصلحة قوى الثورة المضادة بعد الانقلاب الذي حصل في مصر. ردّت عليه القوى الثورية بإطلاق عملية “فجر ليبيا” في 13 تموز/ يوليو 2014. وبين تاريخ إطلاق العمليتين، لم يؤدّ التوافق على إجراء انتخابات عامة جديدة في يونيو/حزيران 2014، بوساطة الأمم المتحدة، إلى حلّ مشكلة الشرعية والتمثيل، بل زادها تعقيدًا، ففي ظلّ هذه العوامل من الانشقاق السياسي الاجتماعي العمودي، تؤدي الانتخابات إلى تعميق الخلافات؛ إذ ما لبث أن اندلع خلافٌ بين النواب المنتخبين على شرعية عقد جلسات البرلمان الجديد خارج طرابلس، ومن دون تسليم رسمي من المؤتمر العام السابق. وكان النواب الممثلون لتيار سُمِّيَ “ليبراليًا” (لأنّ غالبيته تتألف من قوى غير إسلامية، وهي تسمية تعوزها الدقة) قد تداعوا إلى عقد أولى جلساتهم في طبرق، بينما رفض نواب مصراتة وآخرون (غالبيتهم ليسوا إسلاميين بالمعنى السياسي) هذا الإجراء بِعدِّه غير دستوري، وقاطعوا، بناءً عليه، جلسات البرلمان الجديد. ونتج من ذلك أن البرلمان في طبرق والمؤتمر الوطني العام في طرابلس شكّل كل منهما حكومة ادّعت شرعية تمثيل الشعب الليبي. وتدريجيًا، تحوّل الانقسام السياسي إلى مواجهة مسلّحة شاملة، مع نزوع الأحزاب والنواب في كلا الطرفين إلى تأييد كلٍ من “عملية الكرامة”، أو “فجر ليبيا”، وتبنّيها، الأمر الذي أدّى إلى فشل وساطة الأمم المتحدة، واستقالة مبعوث الأمم المتحدة إلى ليبيا طارق متري (11 أغسطس/ آب 2014) الذي حاول التقريب بين القوى الليبية، بموجب أجندة وطنية ليبية، واستبداله بالإسباني، برناردينو ليون، الذي جاء حاملًا أجندة لأطراف دولية محدّدة.
تنظيم الدولة يدخل على خط الأزمة
بالاستفادة من ظروف الانقسام السياسي، وفوضى المليشيات والسلاح، وعجز القوى السياسية والعسكرية الليبية عن إنتاج مصالحة وطنية تؤدي إلى إعادة بناء أجهزة الدولة، وخصوصاً الجيش والأمن، وفرض سلطتها على كامل البلاد، وفي ظل حالة استياء شعبي من الأوضاع الاقتصادية والمعيشية والانفلات الأمني، وانقسام إقليمي انعكس على ليبيا في صورة اقتتال داخلي، وجد تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” بيئة ملائمة للنشاط.
ونشرت جماعات مسلّحة في فبراير/شباط 2015 (كانت أعلنت ولاءها لزعيم التنظيم أبو بكر البغدادي) تسجيلاً مصوّراً أظهر إعدامها 21 مصرياً قبطياً كانوا يعملون في ليبيا. كانت هذه جريمة ذات بعد طائفي بغيض واضح، في بلدٍ لم يعرف الطائفية. لفتت الحادثة التي أثارت الاستنكار والاستياء عالمياً الانتباه إلى وجود التنظيم في ليبيا، بعد أن كان وجود القوى المتطرفة المعروفة مقتصراً على مدينة درنة. بعدها، تمدّد التنظيم، حتى استولى على مدينة سرت التي اتخذها مقراً له، مستفيدًا من وجود حالة استياء بين أبناء المدينة التي كانت تعدّ معقلاً كبيراً للنظام السابق، وحيث يكثر فيها مؤيّدوه، وكانت لافتةً تصريحات أطلقها أحمد قذاف الدم على شاشة التلفزيون من ملاذه في مصر، كانت مؤيدة التنظيم، أو متفهمة سلوكه في ليبيا.
وقد تزايدت، في الآونة الأخيرة، احتمالات إعداد التنظيم إمكانيات الانتقال إلى ليبيا، في حال جرى طرده من سورية والعراق، بفعل الهجمات التي يتعرّض لها من قوات التحالف في هذين البلدين، ومن ضمن ذلك خروج عدد من قيادات التنظيم، وخصوصاً التي تنحدر من أصول شمال إفريقية باتجاه ليبيا، تحضيراً لاحتمالية انتقاله إليها. وتتوفر في ليبيا شروطٌ عديدة تجعل منها بيئة مثالية لعمل التنظيم، مثل اتساع المساحة الجغرافية، وغياب حكومة مركزية قوية قادرة على السيطرة على الأراضي الليبية، وتوفر ثروات نفطية كبيرة، أصبح التنظيم يوليها اهتماماً كبيراً، بعد تجربته في سورية والعراق، بوصفها تمثّل موردَ دخل كبيراً، يحتاج إليه التنظيم، لدفع رواتب منتسبيه وتمويل نشاطاته.
تشكيل رأي عام مؤيد للتدخل العسكري
تكاثرت، في الآونة الأخيرة، التقارير الإعلامية الغربية التي تسبق، عادةً، اتخاذ قرارات سياسية بتدخّل عسكري خارجي، وذلك لإعداد الرأي العام، لتقبّل هذه القرارات “وتثقيفه” حول أسباب اتخاذها. وتتحدّث هذه التقارير التي تستند، في معظمها، إلى معلومات استخباراتية أو تصريحات مجهولة المصدر، عن مخاطر تمدّد تنظيم الدولة في ليبيا، وسيطرته على حقول النفط فيها. وفي هذا السياق، نشرت تقارير عديدة، تتناول محاولات تنظيم الدولة التقدّم باتجاه المثلث النفطي على الساحل الليبي، وتكثيف هجماته على المواقع النفطية في ميناءَي السدرة ورأس لانوف اللذيْن يعدّان المنشآت النفطية الأكبر في ليبيا. وفي حال تمكّن التنظيم من السيطرة على هذه المواقع، فإنّ قدراته المالية، بحسب المصادر الغربية، سوف تتضاعف، علمًا أنّ المصادر نفسها تقدّر قيمة الثروات النفطية الليبية التي يسيطر عليها داعش حاليًا بنحو 100 مليار دولار. وهذا طبعًا تقدير مبالغ فيه، لأنّ المقصود هو النفط في باطن الأرض. وبناءً عليه، تكون النتيجة أنّه إذا لم يجْر التصدي لداعش اليوم، فإنّ ما يفعله التنظيم، بسيطرته على أجزاء من سورية والعراق لن يكون إلّا تفصيلاً، مقارنة بما يمكن أن يفعله في حال نجح في السيطرة على ليبيا. كما أخذت هذه التقارير تعزف على الوتر الحساس للمجتمعات الأوروبية، والمتمثّل باحتمال حصول موجات لجوء أكثر اتساعاً نحو أوروبا، فحالة اللااستقرار الأمني والسياسي القائمة في ليبيا، بسبب عجز الفرقاء الليبيين عن حلّ خلافاتهم، والتي شكّلت بدورها بيئة ملائمة لظهور داعش، وتمدده، تهدد بدفع موجات كبيرة من اللاجئين إلى الشواطئ الأوروبية، على غرار موجات اللجوء السوريّة، مع ما يحمله ذلك أيضاً من مخاطر تسلّل “إرهابيين” بين اللاجئين، لاستهداف المصالح والمجتمعات الأوروبية. وأخيراً، جرى إبراز المخاطر المتمثلة بتحوّل ليبيا إلى قاعدة خلفية للتنظيم، يستخدمها لأغراض التدريب والتخطيط والتمويل لعملياته التي يمكن أن تبلغ المجتمعات الغربية، كما حصل أخيراً في باريس وكاليفورنيا.
إبراز مخاطر الفوضى الليبية على الغرب، وتمدّد تنظيم الدولة، وسيطرته على موارد الطاقة في ليبيا، لم يعد يقتصر على وسائل الإعلام وتقارير مجهولة المصدر، بل أخذ المسؤولون الغربيون يتناولونها بكثرة في الآونة الأخيرة. وكان آخر هؤلاء مفوضة الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي، فيديريكا موغيريني، التي، وإن كانت نفَت حصول “تدخّل على الأرض” من القوى الغربية في ليبيا، فهي لم تَنف حصول تدخّل عسكري، على غرار ما يحصل في سورية والعراق، يشتمل على قصف جوي وعمليات للقوات الخاصة.
لكن التدخّل العسكري، بغض النظر عن الشكل الذي سيأتي به، سوف يحتاج إلى غطاءٍ، لتبريره من الناحيتين القانونية والسياسية. من هنا، كان لافتاً حجم الضغوط الغربية التي مورست على أطراف الصراع الليبي، لتوقيع “اتفاق الصخيرات” الذي جرى التوصّل إليه بوساطة المبعوث الأممي السابق إلى ليبيا، برناردينو ليون، وتوقيعه في عهد خلفه مارتن كوبلر، بين جماعات داخل المؤتمر الوطني في طرابلس وجماعات داخل برلمان طبرق، لتشكيل حكومة وحدة وطنية، مهمّتها الأساسية دعوة “المجتمع الدولي” للتدخّل عسكرياً لمساعدتها في مواجهة تنظيم الدولة. كما بدا مثيرًا للاستغراب رفض القوى الدولية الراعية لاتفاق الصخيرات إبداء أيّ مرونة، تسمح بتغيير نصوص في هذا الاتفاق، أو إمكانية دمج فئات أوسع فيه، ما أدّى إلى انشقاق جديد في كلّ معسكر من المعسكرين المتخاصمين في ليبيا، بين مؤيدي الاتفاق ومعارضيه، في كلٍ من برلمان طبرق والمؤتمر العام في طرابلس.
خاتمة
حتى الآن، لم يتّضح شكل التدخل الغربي في ليبيا، والذي يبدو أنّه أصبح مسألة وقت فقط. لكن، وبغضّ النظر عن شكله وحجمه (تدخّل بري محدود، أو غطاء جوي لقوى محلية، أو عمليات خاصة محدودة)، فإنّ احتمالات نجاحه لا تبدو أكبر ممّا هي عليه حتى الآن في سورية والعراق. بل سيبدو التدخّل بمنزلة جانبٍ آخر لصراعٍ متعدد الأوجه، يجري بين قوى عديدة في ساحة واحدة، خدمةً لأجندات مختلفة. أمّا انعكاساته ليبيًا، فسوف تظهر على شكل مزيد من الانقسام الداخلي، ومزيد من الفوضى، ومزيد من الدمار. وقد أثبتت التجربة أنّ محاربة الإرهاب في ظلّ الفوضى وغياب الدولة غير ممكنة، من دون وحدة المجتمع المحلي في مواجهته، فهو القادر على ذلك. ويقاوم الناس إرهاب القوى العدمية المتطرفة، إذا كان البديل الأفضل مطروحاً بوضوح.
المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات