أتى الخطاب الأخير للرئيس الأميركي الـ44، باراك حسين أوباما، حول حالة الاتحاد أمام الكونغرس، باهتاً بلا ذلك البريق الذي رافق انتخابه ودخوله إلى البيت الأبيض قبل 7 سنوات وسط تطلعات ودهشة واحتفاء عالمي. أوباما اليوم يبدو منقبضاً يعترف بأن أميركا باتت أكثر حقداً وتشكيكاً وانقساماً في عهده، ويعرب عن أسفه لعدم تمكنه من لمّ الشمل. إنما أوباما ليس آسفاً على كثير من الأمور بل هو متصلّب في إصراره على أن آراءه وسياساته صائبة، وهو مقتنع بأن تركته للتاريخ ستصنّفه رؤيوياً أنقذ الولايات المتحدة من العجرفة والحروب. هذا في نظره. في نظر الذين يلومونه على تقزيم قيادة الولايات المتحدة، وإضعاف نفوذها، فهو مثال الغرور والعناد ساهم جذرياً في تعميق الانقسام الأميركي. التاريخ سيحكم. وأوباما عازم على أن تتوّج إيران تركته عبر طي صفحة العداء معها – معترفاً بذلك بشرعية نظام الملالي والثورة الإيرانية بعد مرور 36 سنة وعبر الاتفاق النووي الذي أقر بحق طهران امتلاك القدرات النووية وأجّل إمكانية تطوير تلك القدرات كسلاح نووي لفترة 10 سنوات مقابل رفع العقوبات الاقتصادية عنها والقبول بدورها الإقليمي المميز والقيادي. تركة أوباما للتاريخ شيء، وما يتركه وراءه عندما تنتهي ولايته بعد سنة شيء آخر.
أي عالم ساهم الرئيس الديموقراطي باراك أوباما في نسجه؟ وهل ترك لخليفته مهمة أصعب أو أسهل مما ورثه عن جورج دبليو بوش الجمهوري؟ ثم هل يصنع رئيس لولاية أو اثنتين السياسة الخارجية الأميركية أم أنه حلقة من حلقات صنع هذه السياسة التي توضع تقليدياً لعشرين سنة إلى الأمام على الأقل؟
الذين يقدّرون أوباما ويعتبرونه رئيساً جيداً وسيسجل التاريخ انه منقذ أميركا يشيرون إلى سلسلة إنجازات من ضمنها، أولاً، أنه أحسن قراءة مزاج الرأي العام الأميركي ولبّى طلباته وأبرزها الانسحاب من الحروب التي خاضها الرئيس بوش انتقاماً من الإرهاب الذي ضرب الولايات المتحدة في 11 سبتمبر 2001. الأكثرية الأميركية ارتدت على انتقامات بوش في حربي أفغانستان والعراق لا سيما بعدما تبيّن أن اتهام العراق بامتلاك أسلحة دمار شامل أتى بناءً على أدلة مزورة. وقررت الأكثرية أنها لا تريد التورط في الانتقام ولا أن تخوض حروب الآخرين. هكذا قرأ أوباما المزاج الأميركي فانسحب من أفغانستان والعراق، بغض النظر إن كان الانسحاب متسرعاً، وقاوم دخول حلبة الحروب المباشرة أينما كان.
ثانياً، يشير المعجبون بباراك أوباما إلى انه تمكن من حماية الولايات المتحدة من عملية إرهابية كبيرة – حتى وإن اعترفوا بفضل بوش في ذلك على مضض. يرفعون إنجاز قتل زعيم «القاعدة» أسامة بن لادن دليلاً على إنجاز ضخم وتحدياً لمن يتهم أوباما بالوهن أو الجبن أو الضعف. يشيرون إلى أن أوباما، كما بوش، تبنى عقيدة «لنحاربهم هناك كي لا نحاربهم في المدن الأميركية».
ثالثاً، يبارك المعجبون بالرئيس الـ44 عقيدة «القيادة من الخلف» التي تبناها أوباما والتي يرون فيها وسيلة لإبعاد الولايات المتحدة عن التورط في حروب باسم القيادة الأميركية التقليدية كدولة عظمى. يعتقدون أن تلك العقيدة رمت الثقل على الآخرين بدلاً من الأكتاف الأميركية وأنها، بذلك، صدّرت كلفة القيادة الاقتصادية والسياسية والميدانية إلى مَن يرغب بأن يسدّدها بدلاً من الأميركيين. في رأيهم، استطاعت الولايات المتحدة أن تمارس القيادة لا كلفة – وهذا إنجاز كبير.
رابعاً، بناءً على الانسحاب من مغامرة القيادة الهجومية، يرى داعمو أوباما أن ذلك ساعد في تحسين الاقتصاد ومكّن أوباما من التركيز على الاقتصاد الداخلي ومسائل محلية بالغة الأهمية مثل انخفاض نسبة البطالة. ومن وجهة نظرهم، أن التأمين الصحي المسمى «أوباما كاير» إنجاز.
خامساً، تحتفي القاعدة المؤمنة بعقيدة أوباما بإدارته للعلاقة مع الصين بعيداً عن المواجهة وعزمه على بناء علاقات تهادنية مع الدول التي لها تاريخ مواجهة مع الولايات المتحدة. وهم يرون أن سياسة «التحوّل شرقاً» بعيداً عن الشرق الأوسط سياسة حكيمة ومجدية. ففي رأيهم، حان الوقت للتخلص من علاقات تاريخية مع دول الشرق الأوسط، لا سيما النفطية، وذلك لأن لا حاجة لنفطها بعد اكتشاف ضخامة النفط الأميركي وبعد انخفاض أسعار النفط لدرجة سقوطه عن 30 دولاراً للبرميل.
سادساً، المعجبون بسياسة أوباما ينظرون إلى العلاقة مع روسيا فقط من منظور درجة التشاور والتنسيق، إما لمعالجة الخلافات الجذرية أو لبناء شبه تحالف أميركي – روسي لمعالجة الأزمات كتلك التي في سورية. يُعجَبون أيضاً بقرار إدارة أوباما الأزمات مع روسيا نفسها كما في موضوع جورجيا مثلاً، وحتى في أعقاب استيلاء روسيا على القرم وفي الوقت الذي تُفرَض فيه عقوبات غربية على روسيا. فلغة حلف شمال الأطلسي (ناتو) تغيّرت في عهد باراك أوباما.
سابعاً، يوافق الداعمون لأوباما على سياساته نحو سورية بما فيها التراجع عن الخط الأحمر الكيماوي والخط الأحمر الآخر، أي رحيل الرئيس بشار الأسد عن السلطة. يدعمونه في رفض التورط قبل خمس سنوات عندما انطلقت التظاهرات المطالبة بالإصلاح، أو الآن بعدما ساهم امتناع إدارة أوباما عن الانخراط في صنع كارثة إنسانية حصيلتها 300 ألف قتيل و9 ملايين مشرد ولاجئ وتحوّل سورية إلى المغناطيس الذي يجذب الإرهاب إليها. لا يوافق الداعمون على تحميل إدارة أوباما مسؤولية المساهمة عبر اللاانخراط، ويرفعون الأيدي استسلاماً للقدر عندما يُواجَهون بمقولة القيادة الأخلاقية الأميركية. فهم مرتاحون إلى أوباما في اعتباره أن لا عيب في التراجع عن الخطوط الحمر.
ثامناً، لا مانع لدى أوباما أو لدى مؤيديه من مباركة تحالف روسي – إيراني مع نظام الأسد و «حزب الله» الذي تصنّفه واشنطن إرهابياً طالما أن الولايات المتحدة ليست متورطة في المستنقع السوري بعض النظر عن التغيير الجذري في موازين القوى الدولية والإقليمية. بل أن بعض ذلك التغيير مطلوب، بحسب المؤمنين بعقيدة أوباما.
تاسعاً، لم يواكب الذين يدعمون سياسات أوباما ما حدث بعد خطابه الشهير في القاهرة الذي دشّن فيه سياسات جريئة على نسق العزم على حل النزاع العربي – الإسرائيلي والمشكلة الفلسطينية. لم يرافقوا ذلك الاندفاع لأخذ النموذج التركي للحكم الإسلامي مثالاً صالحاً لتطبيقه في مصر. مثلاً، احتفوا بالتخلص من الرئيس المصري حسني مبارك وهرولوا إلى تبني «الإخوان المسلمين» كنموذج «الاعتدال» كما تراه تركيا. اعتبروا إسقاط مبارك إنجازاً لأوباما، على نسق القيادة من الخلف. وكذلك الأمر عند إسقاط معمر القذافي في ليبيا، مع أن ذلك كان قيادة من الأمام عبر وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون والسفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة، مستشارة الأمن القومي حالياً، سوزان رايس. المهم، أن إسقاط الرجلين في رأي مساندي أوباما هو إنجاز له، حدث في عهده.
عاشراً، الانفتاح على كوبا إنجاز. القضاء على مرض «ايبولا» إنجاز. الاتفاقية الدولية في شأن التغيير الماضي إنجاز. هكذا يعدد داعمو أوباما إنجازاته.
الذين يحمّلون أوباما مسؤولية سياسية وقيادية وأخلاقية يشيرون، أولاً، إلى وهم داعميه بأنه داعية سلام يداه نظيفتان من الدماء. يشيرون إلى حروب الطائرات بلا طيار (drones) التي لبّت، عملياً، رغبات الأميركيين. فطالما ليست هناك جثث أميركية عائدة على متن الطائرات، وطالما لا مشاهد تلفزيونية لأفعال أميركية خلّفت القتلى والدماء، فليكن. إنما واقع الأمر هو أن سياسة أوباما خلّفت وراءها الضحايا والدماء عبر حروب الـ «درونز» فارتاح الضمير الأميركي لمجرد أنه لم يطّلع ولم يشاهد. إنما هذا ليس المصدر الأساسي لمنتقدي أوباما الذي، في رأيهم، لبّى الانعزالية الأميركية الجديدة عبر لعب الأدوار الخفية.
أولى محطات الانتقاد هي أن أوباما هو الرئيس الذي مزّق التآلف الأميركي. فإذا كان بوش أطلق الانقسامات، فإن أوباما متّنها.
احتجاج المعارضين هو على استضعاف باراك أوباما للولايات المتحدة وتحويلها من دولة عظمى إلى نمر من ورق. هذا، في رأيهم، جعل روسيا تتحدث عن أميركا بأنها «العجوز» التي لا حيوية ولا نشاط فيها. والتي بالتأكيد ستتراجع.
المعارضون يرون في «القيادة من الخلف» تفويضاً لأمثال روسيا وإيران، في جورجيا وفي سورية واليمن والعراق ولبنان، على حساب المصالح والقيم الأميركية. يقولون إن القائد الحقيقي ليس مجرد قارئ يحسن استنباض مزاج الناس، وإنما هو رؤيوي يحسن حماية المرتبة المميزة التي جعلت الولايات المتحدة تستفرد بمركز العظمة ولا تتخلى عن زمام القيادة.
يقول المعارضون لسياسات أوباما إن كلفة الانعزالية وسمعة الضعف والتخلي عن الحلفاء ستكون باهظة للولايات المتحدة مهما بدت الانعزالية واللامبالاة مريحة الآن. رأيهم نحو روسيا وإيران و «حزب الله» وبشار الأسد وكذلك الصين هو أن تلك سياسات أوباما ستثبت أنه ساهم في إنماء التطرف السنّي والشيعي، وأنه مكّن الميليشيات من أخذ زمام الأمور بأيديها بدلاً من الحكومات، وأنه أعطى إيران مفاتيح التسلط إقليمياً والتعالي على الولايات المتحدة، ورسّخ سمعة التخلي عن الأصدقاء والحلفاء وخيانتهم، ونصب روسيا زعيماً في الشرق الأوسط بشراكة مع إيران واستثمار التنافس والتصادم مع تركيا.
رأيهم أن ثقافة الانتقام من تنصيب إيران كولي الأمر في عالم إسلامي بأكثرية سنّية ستسفر عن تقاعس الشريك السنّي الضروري في الحرب على «داعش» و «القاعدة» وكافة المنظمات الإرهابية.
تركة أوباما، بحسب الناقدين له، هي أنه في عهده، قُتِلَ مئات الآلاف من الضحايا المدنيين في مغامرة إسقاط القذافي ومغامرة بقاء الأسد. النأي بالنفس عن الإقرار بهذه الحصيلة لا يعفي من المسؤولية الأخلاقية ولا يليق بدولة عظمى تدعي التمسك بالقيم العليا.
الرئيس أوباما ما زال في صدد صنع تركته التاريخية لأنه وضعها في أيدي غيره وليس في يديه. الانتخابات الإيرانية في الشهر المقبل محطة اختبار. مسيرة الحرب السورية محطة اختبار. عمليات «داعش» في سورية والعراق إن امتدت إلى المدن الأميركية ستلغي جزءاً من التركة التي يتمناها أوباما. لعل التركة الثابتة هي أن الرئيس الـ44 رأى في العظمة ثقلاً لا تحتاجه ولا تريده الولايات المتحدة، فقرر «القيادة من الخلف» باعتبارها في صلب المصلحة الأميركية. هل كان هذا قراراً تفرد به، أو أنه محطة من محطات السياسة الأميركية البعيدة المدى؟ التاريخ لديه الجواب.
راغدة درغام
صحيفة الحياة اللندنية