جاء اعدام المملكة العربية السعودية للمعارض السعودي الشيعي نمر باقر النمر في الثاني من الشهر الجاري وما رافقه من تصريحات لمسؤولين الإيرانيين معادية ضد المملكة، ليكشف البعد الطائفي في السياسة الخارجية الإيرانية في مرحلة ما بعد عام 1979م تجاه دول الدول العربية وخاصة في المشرق العربي. هذا الإعدام كشف لنا بإن إيران تدار بعقليتين: الأولى “إيران الدولة” وهي العقلية التي تخاطب بها المجتمع الغربي كالولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي والقوى الكبرى كروسيا والصين، وبفضل هذه العقلية التي استطاعت إيران بعد مفاوضات شاقة مع “مجموعة خمسة زائد واحد” في التوصل إلى اتفاق ينهي الأزمة الدولية التي استمرت أكثر من عقد من الزمان بشأن مشروعها النووي. أما العقلية الثانية: هي “إيران الثورة” التي تتعامل بها مع الدول العربية التي يغلب على تكوينها المجتمعي التنوع الطائفي كما هو واقع في دول الخليج العربي ولبنان وسوريا والعراق واليمن، فهذه العقلية وظفت ذلك التنوع في المجتمعات العربية المشرقية أسوأ توظيف إذ عملت إيران الثورة على عسكرة الطائفة الشيعية وحولّتها إلى مليشيات تعمل على زعزعة استقرار تلك المجتمعات بما يخدم مشروع إيران الثورة التوسعي إزاء الدول العربية. وهنا نتساءل كيف استطاعت إيران عسكرة الطائفة الشيعية في المجتمعات العربية المشرقية؟ وآلية التخلص من هذه العسكرة؟
يأتي من أقوال قائد الثورة الإيرانية، “الخُميني”، الذي قال عام 1980م ما نصه “نحن في جمهورية إيران الإسلامية سوف نعمل بجهد من أجل تصدير ثورتنا للعالم، وأنه بمقدورنا تحدي العالم بالأيديولوجية الإسلامية”. وقال أيضاً: “نحن نهدف إلى تصدير ثورتنا إلى كل الدول الإسلامية، بل إلى كل الدول حيث يوجد مستكبرون يحكمون مستضعفين”. فهذه السياسات المُعلنة للدولة الإيرانية تهدم بشكل مباشر وصريح السيادة الداخلية للدول الأخرى وتؤثر بالأمن والسلم والاستقرار، وهذا ما حصل في الدول التي تدخلت فيها السياسة الإيرانية. ومن ثم تؤسس لبعد طائفي في السلوك السياسي الخارجي الإيراني تجاه دول المشرق العربي بشكل خاص.
وينبع أيضًا من الدستور الإيراني الذي يؤكد على مشروعية التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى وبشكل صريح: فلقد جاء في الفصل الأول المعنون ب”الأصول العامة” في المادة الثالثة (المادة 3) بأنه من أجل الوصول إلى الأهداف المذكورة في المادة الثانية،تلتزم حكومة جمهورية إيران الإسلامية بأن توظف جميع إمكانياتها لتحقيق ما يلي”، ومن الأهداف ما جاء في الفقرة ست عشرة (فقرة 16) ما نصه “تنظيم السياسة الخارجية للبلاد على أساس المعايير والالتزامات الأخوية تجاه جميع المسلمين، والحماية الكاملة لمستضعفي العالم.” أيضاً جاء في الفصل العاشر “السياسة الخارجية” في المادة الرابعة والخمسين بعد المائة (المادة 154) ما نصه “تعتبر جمهورية إيران الإسلامية سعادة الإنسان في المجتمع البشري كله قضية مقدسة لها، وتعتبر الاستقلال والحرية وإقامة حكومة الحق والعدل حقاً لجميع الناس في أرجاء العالم كافة، وعليه، فإن جمهورية إيران الإسلامية تقوم بدعم النضال المشروع للمستضعفين ضد المستكبرين في أية نقطة من العالم، وفي الوقت نفسه لا تتدخل في الشؤون الداخلية للشعوب الأخرى”. هذه المواد الدستورية تُعلن صراحةً مبدأ التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى تحت غطاء دعم ما يُسمى المستضعفين، وهو مُصطلح مضلل يهدف للتأثير العاطفي على الرأي العام، ولكن اكتشف الرأي العام العربي والإسلامي بأن أحد المُستضعفين الذين تدعمهم الدولة الإيرانية هو الرئيس السوري بشار الأسد!
كما يأتي أيضًا من هويتها السياسي المبنية على البعد المذهبي على نحو لا لبس فيه، وبمواد دستورية، وبخاصة المادة 12 من دستورها. بل إن المادة 71 تحرّم على مجلس الشورى (بمثابة السلطة التشريعية) تمرير أي قانون يتعارض مع مبادئ المذهب الرسمي للدولة، وليس مع الدستور، على رغم أن هذا «الدستور» مذهبي في معظم مواده. بينما، نجد أن الدساتير في كل الدول العربية لا تتناول فيها عند تحديد هوية الدولة إلى هذه المسألة المذهبية. إنما تشير هذه الدول عند تعريف نفسها إما إلى «أن دينها الإسلام»، وإما «أنها دولة عربية إسلامية»، وأن الشريعة (من دون تحديد مذهب معين) إما مصدر من مصادر التشريع فيها، وإما مصدر للتشريع، وإما أنها تحكم وفقاً للشريعة، كما في السعودية مثلاً، في نظامها الأساسي للحكم الذي هو بمثابة دستور للدولة.
قد يقال إن أمر تحديد هوية الدولة شأن داخلي للدولة، يعبر عن إرادتها بوصفها دولة ذات سيادة. وبالتالي لا يحق لأحد أن يفرض على إيران أو غيرها كيف ينبغي لها أن تحدد هويتها، حتى وإن اختارت المذهبية بمثابة محدد من محددات هذه الهوية. وهذا صحيح، لكن إيران تجعل من هويتها المذهبية هذه أساساً لدورها ولتحالفاتها الإقليمية. تختار حلفاءها على أساس مذهبي، وتجعل من الميليشيا المذهبية أداة رسمية لهذا الدور، وقاسماً مشتركاً يجمعها مع هؤلاء الحلفاء. بالتالي فإن تحديد إيران هويتها المذهبية بنصوص دستورية لم تعد تقتصر آثاره وتبعاته داخل حدودها، حتى يقال إنه خيار لها نابع من سيادتها، وإنما تجاوز ذلك، وأصبح منطلقاً لسياستها الخارجية، وأساساً تبرر به تدخلاتها في دول الجوار، ونشر آثار هذه الهوية وتبعاتها المدمرة خارج حدودها. هذا واضح في حالة العراق الآن، الذي يعاني من حروب أهلية وتطهير مذهبي منذ أكثر من اثنتي عشرة سنة بسبب الاحتلال الأميركي الذي دمر الدولة هناك، والنفوذ الإيراني الذي جاء معه بآلية الميليشيا بمثابة قوة موازية ومنافسة للدولة التي أعيد بناؤها على أساس مذهبي. وما يحدث حاليا من إبادة أهل السُنة في مدينة المقدادية بمحافظة ديالى العراقية من قبل مليشيات إيران العراقية إلا دليل على ذلك، وكأن إيران ومليشياتها العراقية أرادت أن يكون الانتقام والرد على اعدام نمر باقر النمر من سنة العراق في محافظة ديالى.
ولمن يعرف التركيبة السكانية في ديالى، يدرك أن التعايش هو السمة التي كانت سائدة في هذه المحافظة بين سكانها الذين يغلب عليهم الانتماء إلى أهل السنة والجماعة إضافة إلى الشيعة، والكرد، ولكن مجاورة المحافظة لإيران قد جلب عليها النقمة وجعلها ساحة صراع استثمرته الأحزاب والقوى الشيعية المتنفذة بعد 2003 في الاستحواذ على مقاليد السلطة الإدارية والأمنية فيها من خلال الاستقواء بالميليشيات التابعة لتلك الأحزاب. ولم يخفِ المسؤولون الإيرانيون نواياهم بجعل المحافظة خالية من أي نشاط معاد لإيران وخاصة خلال فترة نشاط المقاومة والقاعدة ضد الاحتلال الأمريكي وبعد ظهور تنظيم الدولة وسيطرته على أغلب مناطق ديالى بعد 2014. حيث أعلن الايرانيون انهم لن يسمحوا بتواجد التنظيم على حدودهم وأنهم يتصدون لهذا التواجد، لذا استثمرت إيران فتوى الجهاد الكفائي التي أعلنها المرجع الشيعي علي السيستاني وزجت الحرس الثوري الإيراني في المحافظة تحت ستار دعم الميليشيات والحشد الشعبي والقوات الحكومية بمواجهة تنظيم الدولة.
وقبل ذلك هناك «حزب الله» في لبنان، وأمينه العام الذي يتفاخر بكونه أحد جنود في الجيش ولاية الفقيه، الذي كاد هو وحزبه “الممانع، والمقاوم”! في الثامن من آيار/ مايو عام 2008م، عند محاصرته للعاصمة اللبنانية بيروت أن يُجهز على الدولة اللبنانية بتشجيع وتسليح إيراني معلن، حاليًا، ما فراغ منصب رئيس الجمهورية من رئيس إلا تحقيقًا للرؤية الإيرانية في لبنان. ومن المنطلق ذاته كان ولا يزال التدخل الإيراني في سورية من خلال ميليشيات شيعية تأتي بها إيران من لبنان والعراق وأفغانستان دعماً للإبقاء على بشار الأسد رئيساً للدولة، لا لشيء إلا لأنه علوي،خوفاً من استيلاء الغالبية السنية على الحكم هناك، وكسر الطوق المذهبي الذي تحاول ترسيخه من بغداد إلى بيروت مروراً بدمشق. أضف إلى ذلك دعمها للمتمردين الحوثيين الذين تحولوا إلى مليشيات تقاتل بالنيابة عن المشروع الإيراني في اليمن، وكذلك الأمر يتعلق ببعض الشيعة العرب في الخليج العربي الذين أيضاً تحولوا إلى خلايا نائمة كما _حدث_ ويحدث في مملكة البحرين ودولة الكويت والمملكة العربية السعودية في مواسم الحج وغيرها، لزعزعة استقرارها مستغلة المواطنين العرب الشيعة في خدمة مشروعها القومي الإيراني.
الآثار المدمرة لهوية إيران المذهبية في هذه الحال هي ما يهدد وطنية الدول العربية وسيادتها، وليس العكس. وذلك لأن إيران تنطلق من هذه المذهبية لتجعل من نفسها دولة ليس فقط للشيعة الفرس، بل وللشيعة العرب في المنطقة، بما يسمح لها – كما ترى – بالتدخل سياسياً وعسكرياً في دول عربية (العراق وسورية مثالاً) متجاوزة بذلك حدود الدول وسيادتها. والأخطر أنها لا تعمل على تحقيق ذلك من خلال السياسة والنشاطات الدينية والثقافية فحسب، بل تعمل إلى جانب ذلك على نشر ثقافة الميليشيا في دول الجوار، في الوقت الذي تحرم هي فكرة الميليشيا على أراضيها. وإذا كانت الميليشيا المذهبية المسلحة هي نقيض للدولة ومصدر تهديد لوحدتها وسيادتها، فإنه يصبح من الواضح أن استثمار إيران للكثير من مواردها لنشر هذه التنظيمات وتمويلها في الدول العربية إنما هو بهدف إضعاف هذه الدول، بما يمكنها من استخدام هذه التنظيمات قناة للتدخل فيها، والتأثير في سياساتها وخياراتها المحلية والخارجية. آخر تجليات هذا التأثير هو امتناع لبنان قبل أيام عن التوقيع على قرار الجامعة العربية.
هذه العقلية الإيرانية الثورية التي انتجت عسكرة الطائفية الشيعية في المجتمعات العربية قد تستمر ولاسيما بعد رفع العقوبات الاقتصادية على ايران وتدفق الأموال المجمدة إليها، وقد يزداد أيضا تدخلها في شؤون بعض الدول العربية، وعليه لتجنب التوتر والصراع في العلاقات العربية المشرقية وإيران،فعليها مراجعة عقلية إيران المبنية على البعد الطائفي تجاه دول المشرق على العربي على وجه التحديد، والانتقال بها إلى عقلية إيران الدولة كما تتعامل بها مع الدول الكبرى في العالم، وبهذا الانتقال يمكن التأسيس لعلاقات حسن جوار حقيقية يكون مدخلها، إدراك ذلك النظام أن الشيعة العرب في دولهم مواطنون عرب وليس رعايا لدولة إيران يلزمها حمايتهم، فإذا كان الأمر كذلك فالدول العربية وفي مقدمتهم المملكة العربية السعودية معنية أيضًا في الدفاع عن حقوق أهل السنة في إيران، فإيران تعلم علم اليقين بمعاناة أهل السُنة من قبل دولة من يُمثل الله ورسوله على الأرض “الولي الفقيه”.
أو مواجهة هذا النظام وبقوة وعلى كافة المستويات الدبلوماسية والاقتصادية والدولية وبأسوأ الاحتمالات العسكرية كما هو حاصل اليوم من خلال الحرب بالوكالة كما في اليمن وسوريا وقد تتطور إلى حرب مباشرة، وهذا الأمر أي المواجهة يتطلب معالجة جدية للخلل في النظام العربي البنيوي تسهل قيام حلف عربي يواجه التحديات الإقليمية بما فيهم التحدي الإيراني، لأن عقلية إيران الثورة ليست خطر فقط على دولة عربية واحدة بعينها وإنما على جميع الدول العربية، فإقامة هذا الحلف العربي قد يشكل فرصة تاريخية للعرب ليؤكدوا على فرضية أن إيران ليست دولة قوية كما يتوقعها بعض بل قوتها تستمدها من ضعف الموقف العربي في تعامل معها ومع غيرها من الدول الإقليمية والدولية.
في الختام لسنا ضد الدولة الإيرانية كشعب وحضارة وثقافة فقد ساهم أبناء القومية الفارسية عبر التاريخ الإسلامي مساهمة كبيرة عبر علمائها في إزدهار الحضارة العربية الإسلامية ولهذا السبب اقترن اسم الحضارة العربية بالاسلام لأن هناك مسلمون كالفرس ساهموا في بنائها، لكننا ضد سياسات المتغطرسة للنظام السياسي الإيراني وسياساتها التدخلية في الشؤون العربية الدول وخاصة في المشرق العربي، فحقائق السياسية الجغرافية تؤكد لنا وعلى الدوام أن التعاون والتلاقي أو التنافس أفضل بكثير من التناحر والصراع.
معمر فيصل خولي
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية