إرث «الربيع العربي» في التوازنات الجغرافيّة – السياسيّة

إرث «الربيع العربي» في التوازنات الجغرافيّة – السياسيّة

الصورة-الأساسية-117

يرى بعضهم أن الحال في دول الربيع العربي كانت لتكون أحسن وأكثر استقراراً لو بقيت الأنظمة الديكتاتورية في سدة السلطة. لكن، هل كان لا مفر من الثورات العربية وكانت لا محالة واقعة؟ جوابي هو الإيجاب. فتقرير أحوال التنمية في الدول العربية الصادر عن الأمم المتحدة في 2005، سلّط الضوء على التباين بين هذه المنطقة والعالم الأوسع سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. وكان متعذراً بقاء الأمور على حالها من الخلل والشلل.

وعلى رغم أن ظروف اندلاع الثورة التونسية وقعت موقع المفاجأة – إضرام بائع متجول النار في نفسه إثر مشادة مع الشرطة – ليس اندلاع الثورة مدعاة مفاجأة. وقد لا تنجو دول عربية لم تبلغها الثورة بَعد من عدواها. وحين اندلعت الثورة في تونس ومصر وليبيا… – ومحاولات ثورة وقدت في المغرب والجزائر – كان جلياً أنها لن تجري مجرى الثورات في أوروبا في 1989. وفي ما خلا تونس، الربيع العربي لم يفض الى صيف الديموقراطية ودولة القانون.

وسرعان ما بلغت هذه الثورات حالاً من الفوضى وغياب الاستقرار، عوض إرساء نظام جديد. وفي المتناول إقامة أوجه الشبه مع حوادث تاريخية. فحين انهارت في ليبيا وسورية واليمن والعراق كل هيئات الحكم على وقع الثورات أو الاحتلال الأميركي (العراق)، بلغت هذه الدول حالاً سبق أن خبرتها أوروبا في مطلع القرن السابع عشر إبان حرب الثلاثين عاماً (1618 – 1648): حركة الإصلاح، وتنافس معسكرين دينيين، ومحاربة سلطات تقليدية بروز الأمة الفرنسية. وفي تلك الحرب، لم يكن فالق الانقسام بائناً، بل كان الانقسام مبهماً ومختلطاً يجمع بين عدد من الأضداد – الدينية والإقليمية والخلافات بين العائلات الحاكمة.

وهذه حال العالم العربي اليوم، إذ تشوبه نزاعات بين أسر حاكمة ونزاعات على السلطة وتنافس الجماعة الواحدة. وهذه المشكلات نراها في مشكلات «إقليمية»، أي مدارها على الحدود والأرض، وهذا ما يشي به إعلان «داعش» تبديد حدود سايكس – بيكو الموروثة من القرن الماضي. وليس مستبعداً أن يرسم وجه المنطقة وخارطته مجدداً على وقع هذه الأزمة، على ما حصل في أوروبا في نهاية حرب الثلاثين عاماً.

وحريّ بالأوروبيين التزام الحذر في مقاربة الشرق الأوسط. ولا دالة أو نفوذ للأوروبيين – أو دالتهم ضعيفة ومحدودة – على دول المنطقة والقوى التي انفلتت من كل عقال. وتترتب على غياب الدالة هذه، نتائج استراتيجية وازنة. فالجهادية هي صنو قوى الأيديولوجيات الكبيرة الشمولية. ويغامر كل من يحسب أن في الإمكان التأثير في السياسة في الشرق الأوسط. وفي مثل هذه الأحوال، التوصل الى حل سريع عسير. فالدول الأوروبية لن تفوز في حرب الثلاثين عاماً الجديدة.

وساهم الربيع العربي في تعاظم موجات الهجرة. ولن تبلغ سيرورة الربيع هذا خاتمتها في القريب العاجل. فالجزائر تنتظر انتقال السلطة، وتتكبد هبوط عائدات النفط والغاز. وليست فرنسا في منأى عما يجري هناك. فشطر من ناخبيها يتحدر من «الأقدام السود» (مليونان الى ثلاثة ملايين شخص وأقاربهم) ومن أصول جزائرية وثيقة الصلة بالتغيرات في البلد الأم، ولا يجمع هؤلاء على رأي واحد. وفي 2015، بدا أن اتفاق شنغن (حريةالتنقل بين الدول الأوروبية) لم يعد يلائم ظروف اليوم الشائكة. وتمس الحاجة الى نقاش كبير حول الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي. وفي محاربة الإرهاب، ليس قصف الرقة جل ما في وسع فرنسا القيام به، وعليها الانشغال بتعزيز الأمن الوطني والأوروبي. فتجربة جورج دبليو بوش في الحرب على الإرهاب هي خير دليل على ضعف المرتجى من الضربات العسكرية. والسؤال البارز اليوم هو من يمثل سنّة شمال العراق؟ والى اليوم، لا قوة سنّية تقارع «داعش». ولا يسع الضربات الجوية تغيير وجه الشرق الأدنى تغييراً يتماشى مع مصالحنا. وقدرة الأوروبيين على التأثير هناك أضعف اليوم مما كانت قبل قرن. وهذا ما أدركه «داعش».

فرنسوا هيزبورغ

* باحث، مستشار خاص في «فونداسيون بور لا ريشرش ستراتيجيك» الفرنسية، عن «لوفيغارو» الفرنسية، 14/1/2016

إعداد منال نحاس

نقلا عن صحيفة الحياة