بعد أكثر من خمس سنوات ونصف من التحقيق المضني أصدرت لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ الأميركي ملخص تقريرها حول التعذيب الذي مارسته وكالة الاستخبارات الأميركية المركزية (سي آي أي) بحق معتقلين عرب ومسلمين خلال سنوات رئاسة الرئيس السابق جورج بوش.
ملخص التقرير الذي جاء في 523 صفحة سُمح برفع السرية عنها من أصل ستة آلاف يغطي أساليب التحقيق الوحشية التي اتبعتها “سي آي أي” بحق المعتقلين في سياق ما أطلقت عليه إدارة بوش “الحرب العالمية على الإرهاب”، وذلك في أعقاب هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001 في كل من نيويورك وواشنطن، والتي أعلن تنظيم “القاعدة” مسؤوليته عنها.
ويفصل الملخص بعض أساليب التعذيب الوحشية التي اتبعتها “سي آي أي” والتي شملت عمليات الإيهام بالغرق، والانتهاكات الجنسية، والحبس لأشهر طويلة في أقبية لا يدخلها الضوء نهائيا مع ضوضاء شديدة، والوقوف لساعات طويلة على أقدام أو أرجل مكسورة أو مصابة، والتحقيق المتواصل لأيام طويلة والأيدي مقيدة إلى الأعلى، مع الحرمان من النوم لمدد قد تبلغ أسبوعا، والموت بردا، فضلا عن الإطعام الوحشي والمهين عبر الشرج.. إلخ.
الأدهى من ذلك أن التقرير يشير إلى أن “سي آي أي” لم تحصل على أي معلومات مفيدة جراء وسائل التعذيب تلك، دع عنك إشارة التقرير إلى أن كثيرا ممن تم اختطافهم أو اعتقالهم وتعذيبهم في معتقلات سرية أو “المواقع السوداء” ثبت أنهم أبرياء في ما بعد.
دلالة التوقيت
إصدار التقرير في هذا الوقت جاء في سياق إدراك رئيسة لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ الأميركي الديمقراطية دايان فاينستاين بأنه إن لم يصدر الآن فإن التقرير لن يرى النور أبدا، فالكونغرس الحالي تنتهي ولايته نهاية هذا العام، وعند عودة الكونغرس إلى الانعقاد في العام القادم فإنه سيكون مختلفا جدا عن هذا الكونغرس من حيث تركيبته، فالجمهوريون ستكون لهم الأغلبية في مجلسي الشيوخ والنواب، وذلك بعد فوزهم الساحق في انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، في حين أنهم في الكونغرس الحالي لا يملكون إلا أغلبية في مجلس النواب، وهو ما سمح لفاينستاين إصدار التقرير من موقع رئاستها للجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ التي لن تكون تحت قيادتها مطلع 2015.
ومعروف أن فاينستاين هي من تبنت شخصيا مسألة الدفع في التحقيق في انتهاكات “سي آي أي”، وذلك في ظل معارضة شرسة من قبل الوكالة الاستخباراتية ومن الجمهوريين، وموقف متردد من الإدارة الأميركية الديمقراطية والتي بقيت -حتى آخر لحظة- تضغط من أجل تأجيل إصدار التقرير، غير أنها وأمام إصرار فاينستاين وافقت على إصداره، ولكن بعد فرض السرية على أغلبه.
تداعيات التقرير
مباشرة بعد إصدار التقرير انفجرت أزمة سياسية في الولايات المتحدة بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري، فالحزب الجمهوري سارع إلى وصف ذلك بـ”السياسي” و”الشائن” و”المشوه” و”المهدد للأمن القومي”، في حين دعا بعض الديمقراطيين إلى إقالة مدير الوكالة جون برينان، متهمين إياه بالكذب عليهم.
أما البيت الأبيض فقد وجد نفسه في وضع حرج، فمن ناحية حرص الرئيس باراك أوباما ومساعدوه على إعلان تأييدهم نشر التقرير، وعلى إدانة وسائل التعذيب التي مارستها “سي آي أي”، غير أنهم حاولوا -في المقابل- إعلان تأييدهم الوكالة الاستخباراتية وامتداح جهودها في “الحرب على الإرهاب”.
أيضا، وضمن سياق تداعيات هذا التقرير، فقد انقسم الإعلام الأميركي ما بين مؤيد لنشره وداع لضرورة محاسبة المتورطين في التعذيب، وآخرين ناقدين له وللحزب الديمقراطي وللبيت الأبيض لنشره. هذا الانقسام جاء على أسس أيديولوجية وحزبية وسياسية، فجل الإعلام اليميني والقريب من الحزب الجمهوري أدان بقوة نشر التقرير، في حين أن جل الإعلام الليبرالي والقريب من الحزب الديمقراطي أيد نشره.
وبالدرجة نفسها انقسم الرأي العام الأميركي حيال ما كشف عنه التقرير، فرغم أنه لم تجر بعد استطلاعات رأي علمية لسبر غور توجه المواطن الأميركي لناحية نشر التقرير من عدمه فإن الصحافة الأميركية نشرت مقالات كثيرة فاحصة لاستطلاعات رأي سابقة حول الموضوع.
اللافت في هذا السياق أنه ورغم أن الأصل أن الأرقام لا تكذب فإن الخبراء لم يتفقوا حول ما إذا كان الرأي العام الأميركي يؤيد تعذيب المعتقلين في قضايا الأمن القومي والإرهاب أم لا، ومرد ذلك الخلاف عائد إلى اختلاف مناهج قراءة نتائج تلك الاستطلاعات.
فمثلا، تتفق كل استطلاعات الرأي على أن الرأي العام الأميركي اتجه تصاعديا في منحنى تأييده عمليات “التحقيق العنيفة” منذ 2004 إلى 2010، أي بعد الكشف عن الانتهاكات الوحشية التي مارستها القوات الأميركية في سجن أبو غريب العراقي أواخر عام 2003.
غير أن بعض المتخصصين يؤكدون أن استطلاعات الرأي تلك مضللة، ذلك أنها تحسب -ضمن المؤيدين- من يقولون إن “التحقيق العنيف” يكون مبررا “في حالات نادرة” (وهم الأغلبية) إذا تطلب الأمن القومي الأميركي ذلك. وبالتالي، وحسب هؤلاء الخبراء فإن هؤلاء لا يؤيدون “التحقيق العنيف” دائما، اللهم إلا إذا تعلق الأمر بإنقاذ حياة أميركيين.
أيضا، يشير أولئك الخبراء إلى عيوب أخرى -كما يرون- في منهجية استطلاعات الرأي محل الخلاف، ومن ذلك مثلا أنها لا تشير إلى أن أغلب المستطلعة آراؤهم أيدوا “وسائل التحقيق المعززة”، أو “التحقيق العنيف”، كما كانت تطلق عليها إدارة بوش، و”سي آي أي” لا “التعذيب”.
رابعا: تخوف إدارة أوباما ومسؤوليها من أنهم إذا سمحوا بإجراء مثل هذه المحاكمات اليوم فإنهم هم أنفسهم قد يكونون هدفا لمحاكمات أخرى في المستقبل، خصوصا في ظل إدارة جمهورية. وفعلا فإن كثيرين من المحسوبين على الحزب الجمهوري بدؤوا يثيرون تساؤلات حول قانونية العمليات التي تشنها طائرات أميركية بدون طيار في عدد من الدول العربية والإسلامية، ويترتب عليها سقوط ضحايا مدنيين كثر، وفي بعض الحالات أفراد من حملة الجنسية الأميركية.
ماذا بعد؟
من الواضح أن الولايات المتحدة لن تقدم على محاكمة العناصر المتورطة في عمليات التعذيب التي مارستها “سي آي أي”، ومن صدّق عليها، ولكن هذا لا يعني أن القضية ستنتهي هنا.
فمن ناحية، ثمة مخاوف أميركية حقيقية من أن ترفع دعاوى قضائية ضد المتورطين في برامج التعذيب تلك أمام المحاكم الأوروبية. أيضا، إسدال الستار على موضوع المحاكمة أميركيا لا يعني أن القضية لن تبقى مثارة مستقبلا. فمثلا، إن اتحاد الحريات المدنية الأميركية طالب أوباما بإصدار عفو خاص عن بوش وتشيني وكل شخص في إدارتيهما تورط في تلك العمليات، وبهذا يكون قد تمت إدانة أفعالهم قانونيا، وفي الوقت ذاته تجنبت الولايات المتحدة محاكمة قد تكون تداعياتها كارثية سياسيا، ولكن لا يبدو أن ثمة أملا أن يحدث مثل هذا الأمر.
أيضا، فإن كثيرا من الناشطين في القاعدة الانتخابية للحزب الديمقراطي يطالبون الآن بلجنة “مصالحة وعدالة” تفضح تلك الممارسات الوحشية التي استخدمتها إدارة بوش بحق المعتقلين، وتعويض الضحايا، وأيضا لا يبدو أن لهذا الخيار أي أفق واقعي.
في المحصلة فإنه وبغض النظر عن أي طريق ستسلكه إدارة أوباما في هذا الصدد فإن سمعة أميركا التي تقدم نفسها كـ”منارة للحرية والديمقراطية” في العالم قد تلطخت وإلى الأبد، دع عنك طبعا تلطخ سمعتها أكثر فأكثر بين العرب والمسلمين ضحايا تلك الممارسات الوحشية.
استبعاد المحاسبة
يعد القانون الأميركي التعذيب جريمة جنائية، ويندرج ضمن مفهوم التعذيب كل تهديد بممارسة عنف جسدي أو نفسي على متهم من قبل مسؤول، كما أن القانون الأميركي لا يحظر التعذيب على الأراضي الأميركية وضد المواطنين الأميركيين فحسب، بل إنه يحظر ممارسته أميركيا، وفي أي مكان، ويدخل ضمن ذلك “المواقع السوداء” التي كانت تديرها “سي آي أي” في كثير من دول العالم.
أبعد من ذلك، فإن الولايات المتحدة صادقت رسميا عام 1994 على معاهدة جنيف الدولية الخاصة بمناهضة التعذيب، وتقوم تلك المعاهدة على محورين رئيسين: الأول حظر التعذيب بكل أشكاله، ودون أي استثناءات، والثاني محاكمة كل من تثار حوله شبهات بارتكاب جرائم تعذيب.
ضمن هذا السياق، فإن أوباما يقر بأن أساليب التحقيق التي اتبعتها “سي آي أي” غير قانونية، وهو الذي كان قد أصدر قرارا تنفيذيا في اليوم الثاني لرئاسته الأولى عام 2009 بحظر التعذيب، وبهذا فإن الولايات المتحدة تكون قد استوفت الشرط الأول لمعاهدة جنيف، المشكلة هنا تكمن في الشرط الثاني للمعاهدة الدولية، والذي ترفض إدارة أوباما منذ اليوم الأول لوصوله إلى الرئاسة وإلى اليوم تنفيذه، والمتمثل بفتح تحقيق جنائي في المسألة.
الذرائع التي تسوقها إدارة أوباما في هذا الصدد كثيرة، ومنها أن أغلب تلك الجرائم سقط عمليا بالتقادم، وهو أمر غير مسلم به، فجرائم التعذيب لا تسقط بالتقادم. أيضا، تشير مصادر الإدارة إلى أن عملاء “سي آي أي” الذين تورطوا في عمليات التعذيب تصرفوا بـ”حسن نية” بناء على التوجيهات والنصائح القانونية التي قدمت لهم من قبل محامي وزارة العدل في إدارة بوش، وهو أمر يرد عليه الناقدون بأنه حتى كبار مسؤولي إدارة بوش ومحاميها ممن كانوا على اطلاع على البرنامج وصادقوا عليه ينبغي أن تشملهم المحاكمات.
وسبب ثالث تشير إليه مصادر قريبة من الإدارة يتمثل بأنه سيكون من الصعب إقناع هيئة محلفين بإدانة عملاء “سي آي أي” والمسؤولين المتورطين في برامج التعذيب تلك، ذلك أنه لا توجد أدلة إثبات حاسمة من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن أي هيئة محلفين أميركية لن تقبل إدانة أولئك المسؤولين عن التعذيب على أساس أنهم كانوا يقومون بذلك، لحماية الأمن القومي وحياة وسلامة المواطنين الأميركيين.
ولكن هل هذه هي كل الأسباب التي تبرر تردد إدارة أوباما في محاكمة المتورطين في جرائم التعذيب تلك؟
كلا، فثمة أسباب أخرى، أهمها:
أولا: أي مسعى من قبل إدارة أوباما لإطلاق مثل تلك المحاسبات ستترتب عليه أزمة سياسية حادة بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري، وهو ما سيعني تعطيل أجندة أوباما في العامين والنصف اللذين تبقيا من رئاسته، خصوصا بعد سيطرة الجمهوريين على مجلسي الكونغرس.
ثانيا: سينظر إلى مثل هذه المحاكمات على أنها سياسية أكثر منها قانونية، ذلك أنها قد تشمل خصوما سياسيين لأوباما والديمقراطيين مثل بوش، ونائبه ديك تشيني، وهما من الحزب الجمهوري.
سي آي أي