بعد توقيع الاتفاق النووي، في يوليو/تموز الماضي، شعرت دول الخليج العربي بالقلق من تنامي النفوذ الإيراني ليس فقط لاحتمال تضمين هذا الاتفاق بنوداً غير معلنة تعطي دوراً أكبر لإيران في شؤون المنطقة، إنما أيضاً أن تزيد من نفوذها فيها في وقت تبدي فيه الولايات المتحدة اهتماماً أقل بالمنطقة التي يتزايد فيها نفوذ روسيا حليفة إيران. فمن الناحية الاقتصادية على الأقل يشعر الخليجيون بأن الاتفاق سيقود حتماً إلى فك العزلة الاقتصادية عن إيران وحصولها في الوقت نفسه على عشرات المليارات من الدولارات من المبالغ المجمدة لها بسبب العقوبات التي سترفع، وهي مبالغ تساعدها في تقوية حلفائها المحليين والإقليميين.
بل إن كثيراً من المحللين اعتبر بأن رفع العقوبات سيضع إيران على السبيل المؤدي إلى تحولها نمراً اقتصادياً، على غرار «النمور الآسيوية» في آسيا الجنوبية – الشرقية، كونها تملك ما يؤهلها لذلك من موارد طبيعية وبشرية.
من المؤكد أن الوضع الاقتصادي في إيران سوف يتحسن بعد رفع العقوبات الاقتصادية عنها، أقله لأن بعض الأموال المحجوزة في الخارج سوف يتم تحريرها، وهي تتراوح بين50 و150 مليار دولار بحسب التقديرات المختلفة. إنها جرعة أكسجين مهمة في انتظار انفتاح الاقتصاد الإيراني على العالم، كما أعلن الإيرانيون وشرعوا في اتخاذ الإجراءات الضرورية في هذا الاتجاه. والمستثمرون الغربيون مهتمون بنحو أربعين مشروعاً إيرانياً في مجال الطاقة. وهذا ما يأمله الرئيس روحاني الذي أعلن، على لسان وزير خارجيته ظريف من فيينا الأحد الماضي، بأن رفع العقوبات هو انتصار كبير للدبلوماسية الإيرانية.
لكن خارج التفاؤل السائد في أوساط الإيرانيين وحلفائهم والقلق السائد في المقابل لدى خصومهم فإن التحليل الهادئ يكشف مكامن ضعف بنيوية عديدة في الاقتصاد الإيراني تحمل على الاعتقاد بأن انتعاشه سوف يأخذ وقتاً طويلاً. فالنمو قد يتقدم من ثلاث إلى سبع درجات مئوية بعد رفع العقوبات، ولكن هذا الرقم يبقى أقل من كاف لتخفيض نسبة البطالة البالغة رسمياً 10.3% عام 2014، لكنها تقترب في الحقيقة من 20%، ولا ننسى أيضاً أن رفع العقوبات سوف يتم بشكل تدريجي مع تنفيذ طهران لالتزاماتها، وهذا مسار يمكن أن يتوقف أو يتجمد في أي لحظة بسبب خلاف ما حول تطبيق هذه الالتزامات.
والاقتصاد الإيراني من الاقتصادات النادرة في العالم التي لم تندمج بعد في الاقتصاد العالمي، حيث كان الغربيون غائبين عنه بسبب العقوبات. وبسبب عدد سكانها، البالغ أكثر من ثمانين مليون نسمة، وموقعها الجغرافي المهم ومواردها الأولية من نفط وغيره، فإن حاجة إيران للاستثمارات الأجنبية هائلة. فقط في قطاع الطاقة سوف تحتاج إلى ما بين 230 و260 مليار دولار في السنوات الخمس المقبلة. وستحول دون ذلك عقبات رغم تفاؤل المتفائلين، فهناك البيروقراطية والفساد والعقبات القانونية والحمائية والمخاطر السياسية وغيرها.
ففي تقرير نُشر في عام 2015 .. وضع البنك الدولي إيران في المرتبة 180 من أصل 189 في مجال التسهيلات أمام رجال الأعمال. وقد تدولن (من دولة) الاقتصاد تحت حكم الإسلاميين. فبعض الجماعات المرتبطة بالسلطة، كالمؤسسات الدينية والباسداران والباسيج، أصبح لهم مصالح خاصة ويهيمنون على اقتصاد البلد، ولن يتخلوا بهذه السهولة عن امتيازاتهم فيسهلوا الانفتاح المطلوب لانتعاش الاقتصاد والدخول الأجنبي إليه. ومن المحتمل أن تبقى قطاعات اقتصادية عديدة مقفلة أمام الخارج، والأمور ستأخذ وقتاً طويلاً قبل أن تنجلي تماماً.
بالطبع فإن توقيع الاتفاق النووي وعودة العلاقة مع الولايات المتحدة والغرب يعتبر حدثاً مهماً بالنسبة للإيرانيين. لكن التطبيع الكامل، المقطوع مع الولايات المتحدة منذ عام 1979، سيكون مساراً طويلاً مزروعاً بالعقبات. وتدل تجربة الدول البازغة أو الصاعدة اقتصادياً، سواء خلال الحرب الباردة مثل «النمور الآسيوية» أو بعد هذه الحرب مثل ال«بريكس»، بأن الاستقرار الداخلي والعلاقات الخارجية البعيدة عن المشاكل شرطان ضروريان للصعود الاقتصادي. فالاقتصاد الروسي على سبيل المثال، عاد مؤخراً للتراجع مع انخراط روسيا في الأزمتين الأوكرانية والسورية، بعد تقدم ملحوظ قبلهما.
وبالتالي فلا يمكن تصور الجمهورية الإسلامية الإيرانية نمراً اقتصادياً خليجياً أو من الدول الصاعدة اقتصادياً، من دون التوصل إلى علاقات سلمية بل تعاونية مع محيطها لاسيما الخليجي المباشر فضلاً عن الإقليمي والدولي. وبالتالي فإن التطبيع الكامل للعلاقات مع السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي ثم مع الدول العربية الأخرى، شرط أساسي للتحول الاقتصادي. وهذا يبدو متعذراً قبل التوصل إلى حلول لأزمات المنطقة من اليمن إلى سوريا مروراً بالعراق ولبنان.
وعلى الأرجح أن قناعة الرئيس أوباما بأن الاقتصاد هو الممر الإلزامي للتحول السياسي هي التي دفعته إلى الانخراط في مفاوضات مع إيران وإصراره على الاتفاق معها. فالانفتاح الاقتصادي والاستثمارات الأجنبية والليبرالية الاقتصادية والتجارة الخارجية و… مفاهيم ليست حكراً على علم الاقتصاد بل تشمل السياسة والنظام السياسي وتركيبة السلطة وما شابه. لذلك يأمل كثير من المحللين الأمريكيين القريبين من تفكير أوباما، بأن ينتج الاتفاق النووي تغييراً في النظام السياسي الإيراني عجز عنه الحصار والتهديدات العسكرية، وهو تغيير لن يحصل بين عشية وضحاها ولكن على مراحل متعاقبة تزامناً مع تطبيق إصلاحات اقتصادية ضرورية وصعبة وتطبيع للعلاقات الإقليمية والدولية لن يكون أقل صعوبة.
د.غسان العزي
صحيفة الخليج