فى الثامن من يناير الجارى أعلنت شركة «أرامكو»- شركة البترول العربية السعودية- عن نيتها توسيع المشاركة العامة فى ملكيتها من خلال سوق المال، سواء للشركة ذاتها أو للشركات التابعة لها أو لكليهما معاً. ولمن لا يعلم فإن الشركة السعودية العملاقة هى كبرى شركات النفط والغاز فى العالم بقيمة تتراوح بين تريليون وربع وعشرة تريليونات دولار أمريكى، حيث تستحوذ على أكبر احتياطى نفطى مؤكد فى الدنيا كلها، وقدره ٢٦٠ مليار برميل، يوجد فى ١٠٠ حقل (من بينها أكبر حقلين برى وبحرى فى العالم) طبقاً لمؤسسة «فوربس» العالمية عام ٢٠١٥، فضلا عن ٢٨٨ تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعى.
عرض شركة «أرامكو» للملكية الشعبية من خلال أسواق المال لن يكون أول أو آخر الخطوات السعودية، وإنما هو المقدمة لعمليات إصلاح اقتصادى واسعة النطاق لا تستثنى قطاعا أو شركة مهما كان لها فى القلوب السعودية مكانة وهوى. حركة الإصلاح هذه تسير على ساقين: وضع نهاية لملكية الدولة للثروات الطبيعية وإنتاجها وتسويقها، والقطاع العام الصناعى والتجارى والخدمى فى عمومه، ورفع القيود والعقبات الإدارية والبيروقراطية من أمام اقتصاد السوق السعودية، بحيث يكون حراً كما هو الحال فى اقتصادات أغلبية دول العالم.
مثل هذه التطورات المثيرة فى الاقتصاد السعودى بدأت منذ فترة، وانعكست آثارها على مكانة السعودية فى التقارير الدولية المعتبرة، مثل تقرير التنافسية وإقامة الأعمال، حيث تقدمت مكانتها باطراد طوال الأعوام القليلة الماضية. ولاشك أن التطورات الجيوسياسية والاستراتيجية فى المنطقة (الحرب فى اليمن، والأوضاع فى سوريا، والدور الإيرانى فى المنطقة بعد الاتفاق النووى مع الدول دائمة العضوية فى مجلس الأمن مضافة لها ألمانيا) مع الانخفاض السريع فى أسعار النفط، لعبت دورها فى التسريع بعملية الإصلاح هذه، إلا أنه من الواضح أن الدول العربية الغنية والنفطية قد توصلت أخيرا إلى أنها لن تستطيع التقدم إلا من خلال إنهاء هيمنة الدولة على الاقتصاد، وفى مقدمتها الاقتصاد النفطى، الذى هو قدس أقداس الدولة ومصدر غناها.
والحقيقة أن المسألة لم تعد بالنسبة للرياض أو العواصم الخليجية الأخرى تتعلق بانخفاض أسعار النفط إلى ما دون الثلاثين دولارا للبرميل، وإنما هى فى جوهرها لها علاقة بمدى كفاءة إدارة الاقتصاد. فارتفاع وانخفاض أسعار النفط لم يعد أمرا جديدا على الدول الخليجية، فقد عاشت بينما سعر برميل البترول ١١٧ دولارا للبرميل، كما عرفت ثمنا للبرميل لا يتجاوز ٨ دولارات للبرميل الواحد. وفى كلتا الحالتين جرت عملية تكيف اعتمدت على استخدام الاحتياطيات الكبيرة، والاستثمارات العالمية الواسعة، وبعض من إجراءات التقشف الأخرى. ولكن المسألة هذه المرة تختلف عن كل المرات الأخرى، فقد بات واضحا لدول الخليج أن اقتصاد دولة الرفاهة أو اقتصاد الجمعيات الخيرية ربما يحافظ على درجات مختلفة من الاستقرار، لكنه لا يقود فى كل الأحوال إلى تقدم الدولة، ويضعف من كفاءتها فى خدمة مواطنيها، ويضيع عليها فرص المنافسة فى السوق العالمية. ولذلك، وعلى سبيل المثال، فإن الدول الخليجية جميعا بدأت فى عمليات رفع الدعم عن الطاقة بحيث يُباع البترول فى البلاد التى لديها أكبر الاحتياطيات العالمية منه بسعر السوق العالمية. هذه الخطوة الشجاعة بدأت فى مصر فى عام ٢٠١٤، ولكنها بعد الخطوة الأولى توقفت كما هى العادة. ما فعلته دول الخليج كان عملية جراحية من الطراز الأول، أعادت للاقتصاد جزءاً كبيراً من الرشادة الاقتصادية. وكما هو معلوم فإن الدول الخليجية جميعا تسبقنا فى جميع المؤشرات الدولية، ليست تلك المتعلقة بالدخل الذى قد يعود إلى دخل النفط، وإنما تلك المتعلقة بإجراءات الإدارة الرشيدة للاقتصاد وسيره وفق المسيرة التى سارتها الدول المتقدمة أو تلك الساعية إلى التقدم.
الدرس الذى تقدمه لنا تجربة «أرامكو» هو أنه لا يوجد «كبير» له قداسة وطنية فى عملية الخصخصة، لأن القضية ليست إدخال موارد جديدة للدولة تسد بعضاً من العجز فى الموازنات العامة، وإنما هى فتح الباب على مصراعيه للاستثمار العالمى الذى بدونه لا يمكن لبلد أن يتقدم. هو إشارة جادة إلى أن الدولة قد عزمت بالفعل على الخروج من مجال السيطرة على الاقتصاد، وكذلك المجتمع، وفى يوم ما ربما السياسة أيضا. مثل هذا الأمر علينا فى مصر أن ندرسه بعناية فائقة، ومن يعلم ربما نتعلم الدرس من الأشقاء بأكثر مما كنا ننوى تعلمه من العالم أجمع، وهى مسألة وجلنا منها خوفا من أن يكون فى الأمر خدعة. لقد وصلت التجربة العالمية إلى شواطئنا، وما لم نتعلم منها اليوم فإننا نكون على أبواب إخفاق تاريخى آخر.
عبدالمنعم سعيد
صحيفة المصري اليوم