شكَّل الموقف الرسمي لدول المغرب العربي تجاه التوتر الأخير الذي شهدته العلاقات السعودية الإيرانية، جراء الأعمال التي تعرضت لها السفارة السعودية في طهران عقب إعدام الشيخ نمر النمر، بالدعوة لضبط النفس، وتجنب أي تصعيد، تحولا في خطاب هذه الدول تجاه الصراع الإيراني السعودي في الإقليم.
ويأتي هذا الموقف المحايد، تزامنًا مع عودة العلاقات الدبلوماسية الإيرانية مع دول المغرب العربي، وتناميها في العديد من الأصعدة، بعد سنوات من التوتر، في ظل تعاظم نفوذ طهران، والاعتراف بها كقوة إقليمية مؤثرة في سياسات الشرق الأوسط، بعد التوصل لاتفاق نووي إيراني تاريخي، ما يجعل من تحليل أدوات التوغل الإيراني في المغرب العربي وتجلياته، مدخلا رئيسيًّا لفهم الدور الإيراني في المنطقة وحدوده.
علاقات متوترة:
مثَّل التوتر سمة رئيسية طبعت مسار العلاقات الدبلوماسية الإيرانية بدول المغرب العربي، حيث شكل نهج طهران بسياسة تصدير الثورة، عاملا أساسيًّا في تقويض علاقاتها بدول المنطقة، إذ شهدت العلاقات المغربية الإيرانية بعد الثورة على نظام الشاه محمد رضا بهلوي، ورفض المغرب تسليمه لطهران بعد قبول لجوئه السياسي، خلافًا جذريًّا، ذهب حد القطيعة بعد اعتراف طهران بجبهة البوليساريو ردًّا على الدعم المغربي للعراق في حربها ضد إيران، لتعود العلاقات إلى مسارها السليم عام 1991 بسحب اعتراف طهران بالبوليساريو، ويتم تبادل الزيارات الدبلوماسية على أعلى مستوى من الجانبين، أهمها زيارة الوزير الأول المغربي عبد الرحمان اليوسفي لطهران في 2001.
لم تلبث العلاقات كثيرًا، إذ انقطعت سنة 2009 بعد اتهام المغرب لإيران بنشر التشيع، وتهديد المرتكزات الدينية للدولة المغربية. وعادت العلاقات إلى مستوى التمثيل الدبلوماسي في بداية 2015 بتعيين سفير لإيران بالمغرب بعد تعهد طهران ببناء علاقات مبنية على احترام المصالح الثنائية للطرفين. وتأتي هذه الخطوة في ظل الأهمية الاستراتيجية التي يشغلها المغرب في التفكير الاستراتيجي الإيراني في إفريقيا، بفعل الدور الذي تلعبه الرباط كنموذج للإسلام السني المعتدل في المنطقة ذي التأثير الديني على دول الساحل والصحراء وغرب إفريقيا الذي يزاحم التمدد الإيراني في غرب إفريقيا، ويحد من فعالية النموذج الإيراني لنشر التشيع في المنطقة.
في حين شهدت العلاقات الجزائرية الإيرانية العديد من التوترات، أهمها قطع العلاقات سنة 1993 بعد اتهام الجزائر لطهران بدعم جماعات إسلامية مسلحة، لتعود إلى سابق عهدها سنة 2000، وهي علاقات متميزة إلى يومنا هذا، ترجمتها زيارة وزير الخارجية الإيراني محمود جواد ظريف للجزائر في سبتمبر 2015 بعد التوصل لاتفاق نووي إيراني.
وتستمد العلاقات الجزائرية الإيرانية قوتها من التنسيق الحاصل بين الطرفين داخل “أوبك”، والرافض لسياسات السعودية في إغراق السوق بالنفط، والتأثير على الأسعار، إضافةً إلى الطموح الجزائري للاستفادة من التقنية والتكنولوجيا الإيرانية لتطوير القطاع الصناعي، مع تلاقي أجندات الدولتين تجاه العديد من القضايا والأزمات الدولية.
وتتميز العلاقات التونسية الإيرانية بانفتاح كبير منذ عهد الرئيس زين العابدين بن علي، بعد أن شهدت توترًا شديدًا في عهد بورقيبة بإغلاق المركز الثقافي الإيراني في تونس ثمانينيات القرن الماضي. في حين استفادت إيران من العزلة الدولية لنظام محمد ولد عبد العزيز جراء الانقلاب الذي قاده في 6 أغسطس 2008، لتبني علاقات ثنائية وطيدة أسفرت عن طرد السفير الإسرائيلي من موريتانيا، مع دعم نواكشوط بقروض ضخمة. غير أن نفس العلاقات تأثرت في السنتين الأخيرتين بفعل الدعم المالي الذي تتلقاه نواكشوط من السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي، وهو ما يُبرز النبرة الصارمة والقوية بالتنديد بالاعتداء على السفارة السعودية والتدخل في الشأن الداخلي السعودي. أما العلاقات الليبية الإيرانية فتعد الأكثر توترًا، بفعل التوجس من الدور الإيراني، منذ زوال نظام العقيد معمر القذافي الذي ربطته علاقات قوية مع طهران تخللتها خلافات لم تصل لمستوى التوتر.
أدوات التوغل الإيراني وتجلياته:
إن رصد التوغل الإيراني في منطقة المغرب العربي وأدواته وتجلياته، يُحيلنا للحديث عن معطى مهم، يتمثل في فهم طهران الدقيق لطبيعة دول المنطقة، والمحددات الداخلية والخارجية التي تُسهم في صناعة سياساتها. فمشروع الإحياء الإمبراطوري الإيراني في الإقليم، يُركز في محدداته الخارجية تجاه منطقة المغرب العربي على المزاوجة بين القوتين الناعمة والصلبة، لاختراق المنطقة، وتعزيز الدور الإيراني فيها، وفك عزلة طهران في محيطها الخليجي.
وقد مثّل المناخ المتصاعد في مجال الحريات الفردية في المنطقة بعد الحراك العربي، وفشل النموذج الإيراني في تصدير الثورة، نقطة تحول لاستغلال الجو العام والتأسيس لسياسة ناعمة تجاه دول المنطقة، تأخذ من نشر التشيع أداة رئيسية. وقد أظهر تقرير وزارة الخارجية الأمريكية عن الحريات الدينية في العالم لسنة 2014 ارتفاع نسبة التشيع في دول المغرب العربي، حيث يتواجد ثمانية آلاف شيعي في المغرب، وسبعة آلاف في الجزائر، ونفس العدد في تونس، وهو ما يُظهر بالملموس فعالية التوغل الإيراني في استغلال تامٍّ لأدواته التالية:
أولا- المستشاريات الثقافية: تلعب الملحقيات الثقافية التابعة للسفارة الإيرانية، دورًا كبيرًا في دعم التوغل داخل دول المغرب العربي عن طريق استغلال المال في نشر التشيع، وذلك بدعم الجمعيات والأنشطة الثقافية والفنية الهادفة للتعريف بالثقافة الإيرانية، والتأثير على الفئات الهشة والمهمشة، ويُمثل المركز الثقافي الإيراني أهم آليات هذا المسار الناعم، وذلك بتدعيم المشاركات في معارض الكتاب والأسابيع الثقافية، ولا ننسى هنا الدور الذي تلعبه المستشارية الثقافية الإيرانية في بروكسل، في استمالة المهاجرين من أصول مغاربية.
ثانيًا- تأسيس تيارات شيعية: لا يقتصر دور المستشاريات الثقافية الإيرانية في دعم الأنشطة الثقافية لنشر التشيع، وإنما يتعداها لتمويل تيارات فكرية بهدف إعدادها للتأثير مستقبلا في سياسات دول المغرب العربي. ففي المغرب نجحت إيران في دعم تيارين شيعيين، يتمثلان في التيار الشيرازي الذي يدين بالولاء للكويتي ياسر الحبيب، والخط الرسالي بزعامة عصام احميدان، والذي تمكن خلال 2015 من إنشاء مؤسسة الخط الرسالي للدراسات والنشر، مع سعي هذا الخط لإنشاء حزب شيعي مغربي.
أما في موريتانيا، فنجحت إيران في دعم ثلاثة تيارات تحت غطاء ديني، تيار محمد الشريف حيدره، وتيار أحمد يحيى بن بلة، التابعين للمرجع الشيعي في إفريقيا عبد المنعم الزين، وتيار بكار ولد بكار الذي يدين بالولاء لطائفة المرجع علي السيستاني.
ثالثًا- العلاقات الاقتصادية: يذهب التوغل الإيراني في المغرب العربي نحو استغلال الاقتصاد باعتباره أداة من أدوات القوة الصلبة، وذلك عن طريق تقديم مساعدات مالية، وهو ما تمثل في إقراض طهران لموريتانيا سنة 2008 وسط عزلتها مائة مليون دولار، وكذا إبرام اتفاقية مع تونس في ديسمبر 2015 لدعم قطاع السياحة التونسي ووكالات الرحلات وإنشاء مشاريع استثمارية، في استغلال الحاجة الماسة لتونس للنهوض بقطاعها السياحي بعد الضربات التي تلقاها عقب الهجمات الإرهابية المتوالية.
كما تتجه طهران نفسها للمغرب كسوق استهلاكية واعدة مكونة من 80 مليون مستهلك، لتنويع اتجاهات تصدير الخضروات والفواكه والمنتجات المغربية، وسط التوترات السياسية التي تطبع علاقات المغرب والاتحاد الأوروبي من حين لآخر بمنع استيراد منتجات مغربية، وكذا المنافسة الشرسة على السوق الأوروبية.
حدود الدور الإيراني :
لا يخلو التوغل الإيراني في منطقة المغرب العربي من أبعاد جيوبوليتيكية، فإن كانت السياسة الخارجية لطهران تخضع للأيديولوجيا الدينية، وتجعل من الطائفية أداة؛ فإن توسيع النفوذ وتحقيق المصالح يبقى أهم أهدافها في الإقليم. وتعمل طهران جاهدة للرفع من منسوب تأثيرها في سياسات دول المغرب العربي بالمزاوجة بين القوتين الصلبة والناعمة، لوضع موطئ قدم لها في المنطقة، مستحضرة تجارب تاريخية سابقة مكّنتها من تأسيس حزب الله في لبنان، وجماعة الحوثيين في اليمن، بمعنى أن الاعتماد على الأيديولوجيا الدينية ليس سوى مدخل لتحقيق التوسع الجيوسياسي الذي تهدف له.
ويبقى الدور الإيراني في منطقة المغرب العربي رغم خطورته وتصاعده، محدودًا للأسباب التالية:
1- الدور الخليجي في المغرب العربي: يشكل ارتباط دول المغرب العربي بعلاقات قوية ومتينة مع دول مجلس التعاون الخليجي، حاجزًا أمام التوغل الإيراني في المنطقة، بسبب الارتباط المباشر للدول المغاربية بالمساعدات المالية الخليجية التي تقدر بمليارات الدولارات، والتي لعبت دورًا كبيرًا في تغير الموقف الموريتاني من إيران. غير أن تراجع العائدات الخليجية بسبب تهاوي أسعار النفط يفتح مجالا للتحرك والمناورة الإيرانية، وفي هذا الصدد يبقى تفاعل دول المغرب العربي مع إيران محصورًا في سعيها إلى بناء علاقات سليمة، وشغل دور هام في إطار “دبلوماسية الأزمات”، لتقريب وجهات النظر بين دول الخليج وإيران، وتبقى الجزائر الأكثر قدرة على لعب هذا الدور، بحسبان تنسيقها الكبير مع طهران من داخل أوبك، وكذا تلاقي أجندتيهما تجاه العديد من الأزمات الدولية، سواء في سوريا واليمن وليبيا.
2- تعارض الأجندات: لا ترقى العلاقات الإيرانية المغاربية إلى مستوى التعاون الاستراتيجي، ويطبعها الاختلاف في وجهات النظر تجاه العديد من القضايا والأزمات في إقليم الشرق الأوسط، فباستثناء الجزائر، يبقى الموقف المغاربي معارضًا للدور الإيراني في سوريا واليمن وليبيا ولبنان. كما تنظر هذه الدول للتمدد الإيراني في الإقليم والتدخل في السياسات الداخلية لدول المنطقة نظرة شك وريبة من تمدد هذا التدخل صوبها. ولا يقتصر تعارض الأجندات في الشرق الأوسط، وإنما يتعداه لغرب إفريقيا، في ظل تقاطع التأثير في المنطقة بين إيران بمدها الشيعي والمغرب بنموذجه السني المعتدل.
3- استخدام الطائفية كأداة للنفوذ والتحرك في بلاد المغرب العربي: لا تمانع الدول المغاربية بناء علاقات دبلوماسية طبيعية وسليمة مع إيران، مبنية على احترام المصالح المشتركة، غير أن توجسها من تمادي إيران في سياساتها الطائفية، واستغلال المد الشيعي كأداة للتأثير على نسيجها الاجتماعي، وخلق جماعات ضغط داخل المغرب العربي، يحد من تفاعل دول المنطقة مع طهران. وهنا وجب التأكيد على ضرورة اتباع الدول المغاربية نهجًا عقلانيًّا، بحسبان أن الرد بأداة طائفية على التوغل الإيراني، من شأنه أن يحفز عناصر تأزم الإقليم، وينمي من مخاطر تفكك الدولة. فنهج المقاربة الأمنية في مواجهة الجماعات الشيعية، يجب أن يتم في إطار ضابطين اثنين؛ أولهما احترام حرية المعتقد الديني، وثانيهما مواجهة أي مشروع سياسي بغطاء ديني.
وخلاصة القول.. إن إيران لاعب إقليمي وقوة إقليمية لا يمكن بأي حال من الأحوال تجاهلها، وسوق اقتصادية واعدة يجب الاستفادة من الفرص الكثيرة التي تتيحها. غير أن تأسيس علاقات سليمة تجاهها، مبنية على احترام سيادة الدولة، وعدم التدخل في الشئون الداخلية؛ يبقى محددًا رئيسيًّا لأي تجاوب مغاربي مع الدور الإيراني في منطقة المغرب العربي.
سامي السلامي
المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية